بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/05/21

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : أركان منجّزيّة العِلم الإجمالي

   البحث الثاني : أركان منجّزيّة العِلم الإجمالي
   بعدما عرفتَ العلمَ الإجمالي بكثير من تفاصيله وجب أن نركّز الآن على أركانه، لنعرف متى يكون هذا العلمُ منجّزاً، ومتى لا يكون منجّزاً، ولا شكّ أنك تعلم أنه يجب أن يتواجد في العلم الإجمالي عدّةُ شروط وأركان ليكون منجّزاً، وهذه هي الأركان المطلوبة ليكون منجّزاً وهي ثلاثة :
  الركن الأوّل : وجود علم بتكليف بين أكثر من طرف، كأنْ يَعْلَمَ الشخصُ بنجاسة أحد الإناءين، إذ لولا هذا العلمُ لكانت الشبهةُ بدويّةً، ولجَرَتْ في الإناءِ الاُصولُ المؤمّنة، كالطهارة والحِليّة . 
  ويكفي ـ على مبنانا ـ خبرُ الثقة، لقولنا بقيام مؤدّاه مقامَ الواقع، وبتنزيلِ احتمال الإصابة فيه منزلةَ العلم الوجداني .
لاحِظْ بعضَ الأدلّةِ على مسلك الطريقيّة :
  لاحظْ مثلاً آيةَ النبأ وغيرَها ترى أنّ الشارع المقدّس يعتبر الأماراتِ بمنزلة الواقع، ويعتبرُ العِلمَ بها بمثابة العلم بالواقع، كما أوضحنا ذلك سابقاً من خلال أدلّة كثيرة كقوله تعالى﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ[1] فهي تعتبر خبر العادل بيّناً أو قُلْ بَياناً وعِلْماً، لأنه لا يحتاج إلى تبيّن وتأكّد، بخلاف خبر الفاسق، ومن خلال صحيحة أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن (الهادي) (عليه السلام) قال : سألته وقلت من أعامل ؟ وعمّن آخذ ؟ وقول من أقبل ؟ فقال له : ( العَمْرِيّ ثقتي، فما أدّى إليك عنّي فعَنّي يؤدّي، وما قال لك عنّي فعنّي يقول، فاسمع له وأطِعْ، فإنّه الثّقة المأمون )، وأخبرني أبو علي أنّه سأل أبا محمّد (عليه السلام) عن مثل ذلك فقال له : ( العَمْري وابنُه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك عنّي فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما، فإنهما الثّقتان المأمونان )، ومن خلال مصحّحة إسحاق بن يعقوب قال : سألت محمد بن عثمان العَمْري أن يوْصِلَ لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت علَيّ، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان (عج) : ( .. وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله، وأما محمد بن عثمان العَمْري رَضِيَ اللهُ عنه وعن أبيه مِن قَبْلُ فإنه ثقتي وكتابُه كتابي )[2] وغيرها من أدلّة[3] .
  بل ينوب الإستصحابُ منابَ العِلْمِ أيضاً، كأنْ كان أحد الآنية الغير معيّن متنجّساً سابقاً، لكننا ظننّا أنهم طهّروا كلا الإناءين أو أحدهما على الأقلّ، فإنك يجب عليك أن تستصحبَ النجاسةَ، فتتركهما عقلاً، وذلك لعدم حجيّة الظنّ، فيجب أن تستصحب النجاسة فيهما أو في أحدهما الغير معيّن .
  الركن الثاني : عدمُ سراية العلم الإجمالي إلى بعض أطرافه، إذ لو صار الفرد الواقعي معلوماً في ضمن فرد معين لصار عِلْماً تفصيلياً ـ لا إجمالياً ـ ولما كان منجّزاً اِلاّ بالنسبة إلى ذلك الفرد بالخصوص، وسريان العلم إلى الفرد يسمى بانحلال العلم الإجمالي إنحلالاً حقيقياً . وأمّا إذا سَرَى العِلمُ الإجماليّ إلى بعض الأطراف بالعلم التعبّدي ـ كخبر الثقة ـ فالإنحلالُ تعبّديّ .
الركن الثالث : اَن يكون جريانُ الاُصول الترخيصيّة مستهجَناً عرفاً، فلو لم يكن مستهجَناً ـ كما في جريان الاُصول الترخيصيّة في كلّ محلّ محلّ من سوق المسلمين ـ لمَا كان العِلْمُ الإجماليّ منجّزاً، ولجرت الاُصولُ الترخيصيّةُ في كلّ الأطراف .
  هذا، ولكنْ صاغ المحققُ العراقي الركنَ الثالثَ صياغةً أخرى حاصلُها : ( اِنّ تنجيز العلم الإجمالي يتوقف على صلاحيَّتِه لتنجيز معلومه على جميع تقاديره، فإذا لم يكن صالحاً لذلك في أحد الطرفين ـ كما في إناء الصيني المعروف ـ فلا يكونُ منجّزاً، فتجري الأصول الترخيصيّةُ في الطرف الباقي أمامنا بلا شكّ، لأنه لا يَصْلُحُ للتنجيز حينئذٍ اِلاّ على بعض تقادير معلومه ـ وهو الإناء الموجودُ أمامَنا دون الإناء الذي اُخِذَ إلى الصين ـ وهذا التقديرُ ـ أي مصادفة أن يكون هذا الإناء الباقي أمامنا هو المتنجّس الواقعي ـ غيرُ معلومٍ، فيكون كالشبهة البدوية . وفيما إذا كان في أحد الأطراف أمارةٌ أو أصل إلزاميّ ـ كأنْ يخبرنا ثقةٌ بوقوع نجاسةٍ اُخرى في الإناء الأوّل، أو نَعْلَمَ بأنه كان متنجّساً سابقاً ـ يكون التكليف منجَّزاً في ذلك الطرف بالأمارة أو بالأصل، ومعه لا يمكن اَنْ ينجَّزَ بالعلم الإجمالي أيضاً، لأنّ المنجَّزَ لا يتنجَّزُ مرّةً ثانية، لاستحالة اجتماع علتين مستقلتين على أثرٍ واحد، وهذا يعني اَنّ العِلْمَ الإجمالي غيرُ صالحٍ لتنجيز معلومه على كل حال، فلا يكون منجّزاً للطرف الآخر أيضاً )[4] .
  أقول : كلامه لا دليل على صحّته، لا بل هو اختراع محض، بل هو خلاف العقل، ذلك لأننا إذا علمنا بنجاسة إمّا الإناء الموجود أمامنا، وإمّا الذي اُخِذ إلى الصين، فإنّ كلّ العقلاء يحتاطون، ولا يُجرون الاُصولَ المؤمّنة في الإناء الموجود أمامنا .


[1] حجرات/سوره49، آیه6.
[2] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج18، ص101، أبواب صفات القاضي، ب11، ح9، ط الاسلامية.
[3] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج18، ص100، أبواب صفات القاضي، ب11، ذكر فيه 48 رواية، ط الاسلامية.
[4] شرح الحلقة الثالثة، حسن محمد فياض حسين العاملي، ج4، ص294.