بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/05/19

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : زوال العِلْمِ بالجامع وحُكْمُ ملاقي بعضِ أطراف العلم الإجمالي

ومن تنبيهات العلم الإجمالي :

زوال العِلْمِ بالجامع

  إذا كان المعلومُ مردّداً بين تكليفين، غير أنّ أحدهما على تقدير تحققه يكون أطولَ مكثاً في عمود الزمان من الآخر، كما إذا عُلِمَ بحرمة الشرب من هذا الإناء إلى الظهر أو بحرمة الشرب من الإناء الآخر إلى المغرب، فبَعد الظهرِ لا عِلْمَ بحرمة أحد الإناءين فعلاً، فهل يجوز الشرب من الإناء الآخر حينئذ لزوال العلم الإجمالي ؟
  أجاب السيد الشهيد عن ذلك بعدم جواز الشرب، قال ( وذلك لعدم زوال العلم الإجمالي وعدم خروج الطرف الآخر عن كونه طرفاً له، فإنّ الجامع المردد بين التكليف القصير والتكليف الطويل الأمد لا يزال معلوماً حتى الآن كما كان، فالتكليف الطويل في الإناء الآخر بكلّ ما يضمّ من تكاليف انحلاليّة بعدد الآنات إلى المغرب طرف للعلم الإجمال)(إنتهى)[1] .
  مثال ذلك : لو علمنا بوقوع نجاسة في أحد إناءين أمامنا بالنحو التالي : إمّا أنّه قد وقعت قطرة دم واحدة في الإناء الأوّل، وإمّا أنه قد وقع أكثر من ذلك في الإناء الثاني، وقد فَتَحنا حنفيّةَ الماءِ الجاري فوقَهما لثانيتين مثلاً، بحيث لو كان الدم قد وقع في الإناء الأوّل لطَهُرَ، ولكنْ لو كان قد وقع في الإناء الثاني لما طَهُرَ، أي لما زال الدمُ منه عرفاً، فهنا هل تشربُ من الإناء الثاني أم لا ؟
  الجواب : لا شكّ أنّه يصعب على المتشرّعة أن يشربوا من الإناء الثاني، بمعنى أنه يصعب عليهم أن يتمسّكوا بإطلاقات أدلّة الاُصول الترخيصيّة في الإناء الثاني .
  مثال آخر : لو عَلِمنا بوقوع نجاسة على أحد شيئين : إمّا الثوب وإمّا الفراش، وقد أمطرَتِ السماءُ قليلاً، بحيث لو كانت النجاسةُ قد وقعت على الثوب لطَهُرَ حتماً، ولكنْ لو كانت النجاسةُ قد وقعت على الفراش فلم يَطْهُرْ حتماً، فهنا هل تَعتبر الفراشَ طاهراً، أي هل تُجري فيه الاُصولَ المؤمّنة أم لا ؟
  والجواب هو نفس الجوابِ السابق . وقد يمكن أن يَجري استصحابُ التنجّز في الفراش أيضاً .

حُكْمُ ملاقي بعضِ أطراف العلم الإجمالي

  صَرّح الشيخ الأنصاري في حاشيته على الرسائل بعدم لزوم الإجتناب عن ملاقي بعض الأطراف مطلقاً حتى على القول بالسراية[2]، وهذا ما يظهر من صاحب الكفاية أيضاً، قال : ( إنه إنما يجب عقلاً رعايةُ الإحتياط في خصوص الأطراف دون غيرها، وإن كان حاله حالَ بعضها في كونه محكوماً بحكمه واقعاً ) [3].
  ثم يـبرِّر ذلك بقوله ( إنه يجب الإجتناب عن الملاقَى دون ملاقيه، فيما كانت الملاقاة بعد العلم إجمالاً بالنجس بينها، فإنه إذا اجتنب عنه وعن طرفه الآخر فقد اجتنب عن النجس الواقعي في البَين قطعاً، حتى وإن لم يجتنب عمّا يلاقيه، فإنه على تقدير نجاسة الملاقِي لنجاسة الملاقَى كان الملاقِي فرداً آخر من النجس، قد شُكَّ في وجوده، كأيّ شيء آخر شك في نجاسته بسبب آخر . ومنه ظهر أنه لا مجال لتَوَهُّمِ أنَّ مقتضَى الإجتناب عن المعلوم هو الإجتناب عن ملاقيه أيضاً، ضرورةَ أن العلم به إنما يوجب تنجز الإجتناب عن خصوص الملاقَى، لا تنجز الإجتناب عن فرد آخر ـ وهو الملاقِي ـ لم يعلم حدوثه من الأصل وإن احتُمِلَ ) (إنتهى بتصرّفٍ قليل للتوضيح)[4] .
أقول: هذا خطأ واضح، وجَلّ مَن لا يخطئ، فإنّ الملاقِي يأخذ حكم الملاقَى بالوجدان، خاصّةً إذا كان الملاقِي لا يزال في قلب الماء، فكما كان يجب عليك أن تجتنب كلا الإناءين، يجب عليك أن تجتنب أيضاً ملاقِي أحدِهما عقلاً، والشارعُ المقدّس لا يتعبّدنا بما هو مخالف للقطع والعقل . أو على الأقلّ قُلْ : لم يثبت أنّ الشارع المقدّس يقول لنا ( إجتنبْ عن كلا هذين الإناءين لنجاسة أحدهما، ولكن لا بأس بالصلاة في الثوب الذي لاقَى أحدَهما، لعدم علمك بأنه لاقَى خصوص الإناء المتنجّس ) .
  ومن الجميل أن نذكر اللطيفةَ التالية : قال صاحبُ الكـفاية بأنه قد يجب أحياناً الإجتنابُ عن الملاقِي دون الملاقَى، وذلك فيما لو أخبرتِ البيّنةُ زيداً بنجاسة إمّا الثوب وإمّا الإناء الأحمر، فسألهم زيدٌ : كيف علمتم بنجاسة أحدهما ؟ فأجابوه قائلين : مِنَ الأصلِ وقعت النجاسةُ إمّا في الإناء الأبيض وإمّا في الإناء الأحمر، ثم لاقَى هذا الثوبُ الإناءَ الأبيض .
  فقال صاحبُ الكفاية في هكذا حالةٍ يجبُ الإجتنابُ عن خصوص الثوب والإناء الأحمر فقط، دون الإناء الأبيض[5] !!!
  دليلُ صاحبِ الكـفاية هو أنّ الإجتناب عن الإناء الأبيض هو بلا وجهٍ أصلاً، فتجري فيه الاُصول المؤمّنة بلا معارض، ذلك لأنّ وجوب الإجتناب عن الإناء الأبيض إن كان لأجل العِلم الثاني الحاصل بعد السؤال فهو غير منجّز بعد تنجيز العلم الإجمالي الأوّل بنجاسة إمّا الثوب وإمّا الإناء الأحمر، وإن كان لأجل ملاقات الثوب للإناء الأبيض فهو غير مؤثّر، لأنّ نجاسة الثوب غير معلومة الحدوث !!!
  وهذا أيضاً خطأ واضح، فإنّ مِنَ البديهي لزومَ اجتنابِ الإناء الأبيض، لأنه صار طرفاً للعِلم الإجمالي .
  نعم، لا تترتّب الآثارُ المترتّبةُ على أحد الطرفين . فمثلاً : لو علمَ زيدٌ بأنّ في أحد الإناءين خمراً، ولم يحدّده بِعَينه، فشربَ مِن أحدهما فإنه لا يستحقّ الحدّ الشرعي ـ وهو أن يُجلَدَ ثمانين جلدةً على ظهره العاري من الثياب ـ وذلك لأنه لم يثبت أنه شرب الخمرَ، نعم، يجب عليه أن يَغْسِلَ باطنَ فَمِه ـ ولا يغسل ظاهرَه، لأنّ الخمرَ طاهر، وإنما حرّم اللهُ شُرْبَه ولم يحرّمِ الصلاةَ فيه، كما في الروايات الصحيحة ـ لأنه يأخذ حكمَ الإناء، وللحاكم أن يعزّره ـ أي يؤدّبه لأنه تجرّأ على الله سبحانه وتعالى وكان عليه أن يجتنبهما ـ لكنْ يعاقبُه دون الحدّ الشرعي .


[1] شرح الحلقة الثالثة، حسن محمد فياض حسين العاملي، ج4، ص309.
[2] منتهى الدراية، سید محمد جعفر مروج، ج6، ص140.
[3] کفاية الاصول، الآخوند الخراساني، ج1، ص362.
[4] منتهى الدراية، سید محمد جعفر مروج، ج6، ص141.
[5] منتهى الدراية، سید محمد جعفر مروج، ج6، ص150.