بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/05/18

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : إنحلال العِلْمِ الإجمالي بالعِلْم التفصيلي

( تنبيهات العلم الإجمالي )

  التنبيه الأوّل : إنحلال العِلْمِ الإجمالي بالعِلْم التفصيلي
  والمثالُ البسيط الأوّلي لهذا التنبيه هو أنْ نَعْلَمَ بِدايةً بنجاسة أحد إناءين، ثم نعلم بكون النجاسة قد وقعت في هذا الإناء بعَينه، فهنا ينحلّ العلمُ الإجمالي إلى علم تفصيلي، ويجب أن يعبّر عن هذا الإنحلال بـ (الإنحلال الحقيقي) .
  وأمّا إنْ عَلِمْنا بوقوع قطرة دم اُخرى في إناء (ألِف) فإنّ العلم الإجمالي الأوّل لا ينحلّ وجداناً، وإنما يبقى على تنجيزه عقلاً .
  إذَنْ هنا سؤالان :
  1 قد تَعْلَمُ أوّلاً بوقوع قطرة دم في أحدهما اللامعيّن، ثم تعلم بوقوع قطرة دمٍ في إناء (ألِف)، ولا تدري هل أنّ القطرة المذكورة ثانياً هي عين المعلومة سابقاً، أو أنها قطرةٌ ثانيةٌ وقعت في هذا الإناء المعيّن رقم (ألِف) ؟!
  ومثلُها ما لو علمتَ بوقوع نجاسة ـ أي أعمّ من الدم ـ في إناء (ألِف)، فهل تجري الاُصولُ المؤمّنةُ في إناء (باء) أم لا ؟
  الجواب هو أنه ـ ثبوتاً ـ لا شكّ في إمكان التمسّك بإطلاقات أدلّة الطهارة والحلّيّة بلا أيّ استهجان عقلائي، لصيرورة الشبهةِ أشبهَ شيءٍ بالشبهة البدْويّة، لا بل تصير الشبهةُ شبهة بدويّة حقيقةً، لأننا نشكّ هل وقعت نجاسةٌ في الإناء (باء) أم لا، أو هل يوجد في الإناء (باء) نجاسةٌ من الأصلِ أوْ لا، فح يجب ـ إثباتاً ـ التمسّكُ بهذه الإطلاقات . وينبغي أن يسمّى هذا الإنحلال بـ (الإنحلال الحكمي) .
  2 قد تَعْلَمُ بنجاسة أحد إناءين، ثم يأتيك ثقةٌ يخبرك بأنّ الإناء الفلاني هو المتنجّس ـ وآيةُ النبأ وغيرُها تفيدُنا حجيّةَ خبرِ الثقة ـ فهنا يحصل انحلالٌ، وينبغي أن يسمّى هذا الإنحلال بـ  (الإنحلال التعبّدي)، إذ لولا التعبّد بحجيّة خبر الثقة لما حصل هذا الإنحلال . وهل يجب الإستعانة ـ رغم حجيّة خبر الثقة ـ بالتمسّك بإطلاقات أدلّة الأصول الترخيصيّة أم لا حاجة ؟  
 الجواب : لعلّك تعلم بأننا نقول بصحّة مسلك الطريقيّة، للكثير من الأدلّة، وعليه فيكون خبر الثقة بمثابة العلم شرعاً، وح لن نكون بحاجةٍ إلى إجراء الاُصول المؤمّنة، ولكن رغم ذلك لا بأس بإجرائها أيضاً، ولا ضررَ في ذلك .
  وبتفصيلٍ أكثر : حينما يخبرنا الثقةُ بكون الإناء المتنجّس هو هذا الإناء الفلاني، فهذا يصير بمثابة العلم بنجاسته شرعاً، أي كما لو علمتَ تماماً، وأيضاً هذا التنزيلُ والإعتبارُ يُثبتان طهارةَ الإناءِ الآخر، لأنّ الأماراتِ تُثبت لوازمَها العقليّةَ، فلن نكون ح بحاجةٍ إلى إجراء الأصول الترخيصيّة في الإناء الثاني . 
لاحِظْ بعضَ الأدلّةِ على مسلك الطريقيّة :
  لاحظْ مثلاً آيةَ النبأ وغيرَها ترى أنّ الشارع المقدّس يعتبر الأماراتِ بمنزلة الواقع، ويعتبرُ العِلمَ بها بمثابة العلم بالواقع، كما أوضحنا ذلك سابقاً من خلال أدلّة كثيرة كقوله تعالى﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [1] فهي تعتبر خبر العادل بيّناً أو قُلْ بَياناً وعِلْماً، لأنه لا يحتاج إلى تبيّن وتأكّد، بخلاف خبر الفاسق، ومن خلال صحيحة أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن (الهادي) (عليه السلام) قال : سألته وقلت من أعامل ؟ وعمّن آخذ ؟ وقول من أقبل ؟ فقال له : ( العَمْرِيّ ثقتي، فما أدّى إليك عنّي فعَنّي يؤدّي، وما قال لك عنّي فعنّي يقول، فاسمع له وأطِعْ، فإنّه الثّقة المأمون)، وأخبرني أبو علي أنّه سأل أبا محمّد (عليه السلام) عن مثل ذلك فقال له : ( العَمْري وابنُه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك عنّي فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما، فإنهما الثّقتان المأمونان )، ومن خلال مصحّحة إسحاق بن يعقوب قال : سألت محمد بن عثمان العَمْري أن يوْصِلَ لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت علَيّ، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان (عج) : ( .. وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله، وأما محمد بن عثمان العَمْري رَضِيَ اللهُ عنه وعن أبيه مِن قَبْلُ فإنه ثقتي وكتابُه كتابي )[2] وغيرها من أدلّة[3] .

التنبيه الثاني : زوال العِلْمِ بالجامع
  إذا كان المعلومُ مردّداً بين تكليفين، غير أنّ أحدهما على تقدير تحققه يكون أطولَ مكثاً في عمود الزمان من الآخر، كما إذا عُلِمَ بحرمة الشرب من هذا الإناء إلى الظهر أو بحرمة الشرب من الإناء الآخر إلى المغرب، فبَعد الظهرِ لا عِلْمَ بحرمة أحد الإناءين فعلاً، فهل يجوز الشرب من الإناء الآخر حينئذ لزوال العلم الإجمالي ؟
  أجاب السيد الشهيد عن ذلك بعدم جواز الشرب، قال (وذلك لعدم زوال العلم الإجمالي وعدم خروج الطرف الآخر عن كونه طرفاً له، فإنّ الجامع المردد بين التكليف القصير والتكليف الطويل الأمد لا يزال معلوماً حتى الآن كما كان، فالتكليف الطويل في الإناء الآخر بكلّ ما يضمّ من تكاليف انحلاليّة بعدد الآنات إلى المغرب طرف للعلم الإجمالي)[4] (إنتهى) .
  مثال ذلك : لو علمنا بوقوع نجاسة في أحد إناءين أمامنا بالنحو التالي : إمّا أنّه قد وقعت قطرة دم واحدة في الإناء الأوّل، وإمّا أنه قد وقع أكثر من ذلك في الإناء الثاني، وقد فَتَحنا حنفيّةَ الماءِ الجاري فوقَهما لثانيتين مثلاً، بحيث لو كان الدم قد وقع في الإناء الأوّل لطَهُرَ، ولكنْ لو كان قد وقع في الإناء الثاني لما طَهُرَ، أي لما زال الدمُ منه عرفاً، فهنا هل تشربُ من الإناء الثاني أم لا ؟
  الجواب : لا شكّ أنّه يصعب على المتشرّعة أن يشربوا من الإناء الثاني، بمعنى أنه يصعب عليهم أن يتمسّكوا بإطلاقات أدلّة الاُصول الترخيصيّة في الإناء الثاني .
  مثال آخر : لو عَلِمنا بوقوع نجاسة على أحد شيئين : إمّا الثوب وإمّا الفراش، وقد أمطرَتِ السماءُ قليلاً، بحيث لو كانت النجاسةُ قد وقعت على الثوب لطَهُرَ حتماً، ولكنْ لو كانت النجاسةُ قد وقعت على الفراش فلم يَطْهُرْ حتماً، فهنا هل تَعتبر الفراشَ طاهراً، أي هل تُجري فيه الاُصولَ المؤمّنة أم لا ؟
  والجواب هو نفس الجوابِ السابق . وقد يمكن أن يَجري استصحابُ التنجّز في الفراش أيضاً .


[1] حجرات/سوره49، آیه6.
[2] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج18، ص101، أبواب صفات القاضي، ب11، ح9، ط الاسلامية.
[3] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج18، ص100، أبواب صفات القاضي، ب11، ذكر فيه 48 رواية، ط الاسلامية.
[4] شرح الحلقة الثالثة، حسن محمد فياض حسين العاملي، ج4، ص309.