بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/05/15

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : آخر الكلام في الإضطرار إلى بعض الأطراف

  لا يزال الكلام في التنبيه الخامس الإضطرار إلى بعض الأطراف، ومثاله ما لو اضطرّ إلى شرب أحد إناءين، أحدُهما متنجّس، ولا يُعلم أيّهما المتنجّس، فلا شكّ في جواز شرب الإناء المضطرّ إليه بلا شكّ ولا خلاف، لكنْ بما أنّ الضرورات تقدّر بقدرها، فلا يجوز شرب الإناء الباقي عقلاً، وأيضاً لا يفهم العقلاء من أدلّة الترخيص شمولها لموارد العلم الإجمالي والمضطرّ إلى أحدهما .
  وهذا الحكم مطلق لكلّ الحالات، سواءً كان العلم الإجمالي قبل الإضطرار أو بعده، وسواءً كان اضطراره إلى إناء معيّن أو إلى أحدهما اللامعيّن ...
  هذه المسألة ـ رغم بداهتها ـ كَثُرَ فيها كلامُ بعض الناس، بلا أيّ وجه للنقاش، خاصةً على مسلك السيد الشهيد الصدر القائل بحقّ الطاعة، الذي كان ينبغي له أن يحتاط هنا مطلقاً، ولا يقول بجريان الاُصول المؤمّنة في الطرف الآخر في بعض الحالات، كما سيأتي، وأيضاً خاصةً على مسلك الشيخ الأعظم الأنصاري والمحقّق العراقي القائلَين بأنّ علّة تنجيز العلم الإجمالي هو الفرد الواقعي الضائع .  
وقد كنّا علّقنا أمس على تقسيم السيد الأستاذ الهاشمي، واليوم أتينا بما كتبه نفس السيد الشهيد في الحلقة الثالثة فنقول، ورأينا أنْ نذكر ما قاله سيّدنا الشهيد[1] وسنجعل التعليقةَ في أسفل الصفحات، قال :  10 ـ الإضطرار إلى بعض الأطراف :
   إذا وقع الإضطرار إلى اقتحام بعض أطراف العلم الإجمالي فهنا حالتان :
الحالة الأولى ـ الإضطرار إلى طرف معَيَّن من أطراف العلم .
الحالة الثانية ـ الإضطرار إلى ارتكاب أحد الأطراف لا بعينه .
  اَمّا الحالة الأولى، فتارةً يكون الإضطرار مقارناً أو قبل حصول سبب التكليف[2]، كما إذا اضطُرَّ إلى شرب الماء ثم علم بوقوع قطرة نجَسٍ اِمّا فيه أو في الثوب، وهنا لا يَتَشَكَّلُ عِلمٌ إجمالي بالتكليف أصلاً لزوال الركن الأول من أركانه، لأنّ عدم الإضطرار جزء الموضوع للتكليف ـ الفعلي ـ، وحيث إن المكلف يحتمل اَنّ النجس المعلوم هو المضطَرّ إليه بالذات فلا علم له بالتكليف الفعلي، فتجري الاُصول المؤمّنة بدون معارض .
   واُخرى يكون الإضطرار بعد حصول سبب التكليف ـ وهو كما عرفتَ العِلْمُ بوقوعِ النجاسة ـ وهنا يتَشَكَّلُ العِلْمُ الإجمالي بالتكليف لا محالة فالركن الأول محفوظ .
   ولكن هنا تارةً يُفترض حصولُ الإضطرار بعد حصول العلم الإجمالي، كما إذا علم بوقوع قطرة دم في الثوب أو الماء ثم اضطُرَّ إلى شرب الماء، واُخرى يفترض حصول الإضطرار مقارناً مع العلم الإجمالي أو قبله سواء كان المعلوم بالإجمال ـ وهو التكليف الفعلي بفعلية سببه ـ متقدماً عليهما أم مقارناً [3] .
  ثم قال السيد الشهيد في الحلقة الثالثة : واَمّا الصورة الثانية ـ وهي صورة ما لو أَمكن دفْعُ الإضطرار بأيّ واحد من الطعامين ـ فلا شك في سقوط وجوب الموافقة القطعية بسبب الإضطرار المفروض، واِنما الكلام في جواز المخالفة القطعية، فقد يقال بجوازها كما هو ظاهر المحقق الخراساني . وبرهان ذلك يتكَوَّنُ مما يلي :
أولاً : اِنّ العلم الاجمالي بالتكليف علةٌ تامة لوجوب الموافقة القطعية .
ثانياً : اِنّ المعلول هنا ساقط .
ثالثاً : يستحيل سقوط المعلول بدون سقوط العلة .
  فينتج أنه لا بد من الإلتزام بسقوط العلم الاجمالي بالتكليف، وذلك بارتفاع التكليف، فلا تكليف مع الإضطرار المفروض، وبعد ارتفاعه واِنْ كان التكليف محتمَلاً في الطرف الآخر ولكنه حينئذ احتمالٌ بدْوي مؤمَّنٌ عنه بالأصل .
  والجواب عن ذلك :
  أولاً : بمنع عِلِّيّة العلم الاجمالي بالتكليف لوجوب الموافقة القطعية .
  ثانياً : بأنّ ارتفاع وجوب الموافقة القطعية الناشئ من العجز والإضطرار لا ينافي بقاءَ العِلِّيَّةَ المذكورة، لأنّ المقصود منها هو عدمُ امكان جعل الشك مؤمِّناً في كلّ طرف، لأنّ الوصول بالعلم تامٌّ، ولا ينافي ذلك وجودَ مؤمِّنٍ آخر وهو العجز كما هو المفروض في حالة الإضطرار .
  ثالثاً : لو سلمنا فقرات البرهان الثلاثة فهي اِنما تنتج لزومَ التصرف في التكليف المعلوم على نحو لا يكون الترخيص في تناول أحد الطعامين لدفع الإضطرار إذْناً في ترك الموافقة القطعية له، وذلك يحصل برفع اليد عن اطلاق التكليف لحالة واحدة فقط ـ وهي حالة تناول الطعام المحرم وحده مِن قِبَل المكلف المضطر ـ مع ثبوته في حالة تناول كلا الطعامين معاً، فمع هذا الإفتراض، إذا تناول المكلفُ المضطرُّ العالِمُ اِجمالاً أحدَ الطعامين فقط لم يكن قد ارتكب مخالفة احتمالية على الإطلاق، وإذا تناول كلا الطعامين فقد ارتكب مخالفة قطعية للتكليف المعلوم فلا يجوز)(إنتهى) .
  ونِعْمَ ما قاله سيدُنا الشهيد،  إلاّ أنك عرفتَ مِنّا عِليّة العِلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية، هذا أوّلاً، وثانياً : كان الأحسن لو قال في كلامه الأخير هكذا (فمع هذا الإفتراض، إذا تناول المكلفُ المضطرُّ العالِمُ اِجمالاً أحدَ الطعامين فقط لم يكن قد ارتكب مخالفة احتمالية على الإطلاق، وأمّا إذا تناول الطعام الآخر فهذا لا وجه له عقلاً ولا عقلائياً) .


[1] بحوث في علم الاُصول، السيد محمود الهاشمي الشاهرودي، ج5، ص270، تقرير اُستاذنا السيد محمود الهاشمي لمحاضرات اُستاذه السيد الشهيد الصدر، بحث الإضطرار إلى بعض الأطراف.
[2] يقصد من التكليف ـ بقرينة ما سيأتي من قوله بعد بضعة أسطر ( ولكن هنا تارةً يفترض حصول ..) ـ هو التكليف المنجّز، ومن سببه هو العلم بوقوع النجاسة . المهم هو أنّ التقسيم المذكور خطأ، والصحيح هو أنه إمّا أن يكون العلم بالنجاسة حاصلاً قبل الإضطرار وإمّا بعد الإضطرار، ولا دخل لشربه الفعلي في عمليّة التقسيم سلباً ولا إيجاباً، فإن كان الإضطرار هو السابق فقد يقال : جاء العلم الإجمالي ميّتاً وغير منجّز، لشباهته بالشبهة البدويّة، وأمّا إن كان العلم بالنجاسة هو السابق فقد يقال يَستصحب العقلُ التنجّز ..
[3] هنا وقع اشتباه من المقرّر، والصحيح ما ذكره نفسُ السيد الشهيد في الحلقة الثالثة، حسن محمد فياض حسين العاملي، ج2، ص79 من طبعة دار الكتاب اللبناني قال : (وقد يفترض الإضطرار قبل العلم، ولكنه متأخر عن زمان النجاسة المعلومة، كما إذا اضطر ظهراً إلى تناول أحد الطعامين، ثم علم ـ قبل أن يتناول ـ اَنّ أحدهما تنجَّسَ صباحاً، وهنا العِلْمُ بجامع التكليف الفعلي موجود، فالركن الأول محفوظ، ولكن الركن الثالث غير محفوظ، لأنّ التكليف على تقدير انطباقه على مورد الإضطرار قد انتهى أمده ولا اَثَرَ لجريان البراءة عنه فعلاً، فتجري البراءة في الطرف الآخر بلا معارض)(إنتهى) . نعم، يرد عليه أنّه لا وَجْهَ لجريان الاُصول المؤمّنة في الطرف الغير مضطرّ إليه عقلاً وعقلائيّاً .
  ثم قال السيد الشهيد بعد ذلك مباشرةً : (ويَطَّرِدُ ما ذكرناه في غير الإضطرار أيضاً من مسقطات التكليف كتلف بعض الأطراف أو تطهيرها، كما إذا علم اِجمالاً بنجاسة أحد إناءين، ثم تلف أحدهما أو غُسِّلَ بالماء، فإنّ العِلم الاجمالي لا يسقط عن المنجزية بطُرُوِّ المُسْقِطات المذكورة بعده، ويَسْقُطُ عن المنجزية بطُرُوِّها مقارنةً للعِلم الإجمالي أو قبله)(.إنتهى) . ويرد على قوله (ويسقط عن المنجزية بطُرُوِّها مقارنةً للعِلم الإجمالي أو قبله) بعدم سقوطه عن المنجّزيّة لما عرفتَه من عدم جريان الاُصول الترخيصيّة في الطرف الباقي عقلاً وعقلائياً