بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/05/05

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : الشبهة الغير محصورة

تنبيهات العلم الإجمالي

التنبيه الأوّل : تقيّد كلّ طرف بعدم الطرف الآخر
التنبيه الثاني : إختصاص الأصل المؤمّنِ ببعض الأطراف
التنبيه الثالث من تنبيهات العلم الإجمالي : الشبهة غير المحصورة
  والمثال البارز للشبهة الغير محصورة هو سوق المسلمين .
  وهنا يبرز السؤال التالي : ما هو الوجه والسبب في إعطاء الشارع المقدّس إذْناً في الأكل والشرب من سوق المسلمين رغم عِلْمِنا بوجود بعض الناس لا يزكّون الأنعامَ، وقد يكون في السوق بعضُ الجبن مثلاً ـ كما في بعض الروايات ـ قد تنجّست بإنفحة الميتة ؟! فهنا كلمات :
  الاُولى : يجب أن يكون سوق المسلمين كبيراً إلى حدّ يَضْعُفُ فيه احتمالُ إصابة النجس الواقعي .
  الثانية : من المعلوم أنه لا يمكن أن يرخّصنا المولى تعالى بما هو قبيح بنظر العقلاء، فإذا كانت بعض الموارد ليس الترخيص فيها قبيحاً ـ كما هو الحال في سوق المسلمين ـ فلا بأس بالترخيص الشرعي في كلّ الأطراف بالتوضيح الآتي .
  الثالثة : لا شكّ في أنه ليس السببُ في إعطاء هذا الإذن هو عدم القدرة على المخالفة القطعيّة، وذلك لأننا نقول بتنجيز العلم الإجمالي بنجاسة أحد إناءين إذا أخذوا أحدهما إلى مكانٍ لا نذهب إليه عادةً ـ كالصين مثلاً ـ وذلك لبقاء العلم الإجمالي منجّزاً عقلاً في هكذا حالة . وكما لو اضطُررنا إلى شرب أحد الإناءين لكون دوائنا مثلاً فيه، فهنا أيضاً لا يجوز أن نشرب الإناء الثاني عقلاً .
  الرابعة : إذَنْ يبقى عندنا أن يكون السبب في عدم تنجيز العلم الإجمالي في مورد سوق المسلمين هو ضعفُ احتمال إصابة ما نأكله من السوق لخصوص النجس الواقعي أو التسهيل على المسلمين أو كلا السببين معاً . تلاحظ كلا هذين السببين في الروايتين التاليتين :
  1 أمّا احتمال ضعف احتمال إصابة ما نشتريه للنجس الواقعي فقد ورد فيما رواه أحمد بن محمد بن خالد البرقي عن أبيه عن محمد بن سنان عن أبي الجارود قال : سألت أبا جعفر (عليه السلام)  عن الجُبن ؟ وقلت له : أخبَرَني مَن رأى أنه يُجعل فيه المَيتةُ فقال :  ( أمِنْ أجْلِ مكانٍ واحدٍ يُجعل فيه المَيتةُ حُرِّمَ في جميع الأرضين ؟! إذا علمت أنه ميتة فلا تأكلْ، وإن لم تعلم فاشترِ وبِعْ وكُلْ، واللهِ إني لأعترض السوق فاشتري بها اللحم والسمن والجُبن، واللهِ ما أظن كلهم يُسَمُّون،هذه البربر وهذه السودان )[1] ضعيفة السند بأبي الجارود، على أنّ قول الإمام (عليه السلام) ( واللهِ ما أظن كلهم يُسَمُّون، هذه البربر وهذه السودان ) هو تكبيرٌ للإشكال، وهو أنّ احتمال كون بعض اللحوم ميتةً هو احتمال كبير لا إحتمالاً ضعيفاً، وذلك لكثرة البربر والسودان الجديدي العهد بالإسلام .
  فإن قلتَ : هذا الخبر ضعيف ! قلتُ : صحيح، هو ضعيف السند، لكنه قويّ متناً ومعنى، إذ هو حكم العقل الواضح، فلا حاجة إلى هذه الرواية، ولذلك لم يستنكر هذه الروايةَ أحدٌ من العالمين .
  إلاّ أنه يرد الإشكال التالي : إننا قد نشتري من نفس البربر أو السودان الذين ذَكَرَهُم الإمامُ (عليه السلام) فح يقوى احتمالُ عدم التذكية، ومع ذلك يجوز الشراء منهم والأكْلُ بالإجماع، فما الجواب ؟
   أقول : هذا صحيح، إذن فليكن الملاك هو الملاك الثاني التالي الذكر وهو مصلحة التسهيل على الناس، وقد يكون سبب الإذن باقتحام كلّ محلّ محلّ هو مجموع السببين معاً .
  2) وأمّا مصلحة التسهيل على المسلمين فقد ورد في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه وعلي بن محمد القاساني جميعاً عن القاسم بن محمد(الإصبهاني المعروف بكاسام وهو مجهول) عن سليمان بن داود(المنقري، ثقة) عن (القاضي)حفص بن غياث[2] عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قال له رجل : إذا رأيتُ شيئاً في يدَي رجلٍ يجوز لي أن أشهد أنه له ؟ قال : ( نعم )، قال الرجل : أشهد أنه في يده، ولا أشهد أنه له، فلَعَلَّهُ لغَيره ! فقال أبو عبد الله (عليه السلام) : ( أفَيَحِلُّ الشراءُ منه ؟ ) قال : نعم، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ( فلَعَلَّهُ لِغَيره، فمِنْ أين جاز لك أن تشتريَه ويصير ملكاً لك ثم تقول بَعْدَ المُلك هو لي وتحلف عليه، ولا يجوز أن تنبسه إلى من صار ملكُهُ مِنْ قِبَلِهِ إليك ؟ ) ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام) : ( لو لم يَجُزْ هذا لم يقم للمسلمين سوقٌ )[3] مصحَّحة الكافي، ورواها الصدوق بإسناده عن سليمان بن داود . وتصحّح أيضاً من باب رواية الصدوق عنه في الفقيه مباشرةً ممّا يعني أنّ كتابه من الكتب التي عليها معوّل الشيعة وإليها مرجعهم .
  ولا بأس أن تعبّر عن (مصلحة التسهيل على الناس) بتعبير (دفْع الحرج من الإحتياط في سوق المسلمين) . صحيحٌ أنه في بعض الأحيان يمكن أن يتجنّب الإنسانُ الشراءَ من السوق ولا يقع في الحرج، لكن بشكل غالب إن وجب الإحتياط في سوق المسلمين فسيقع المسلمون جميعاً أو أكثرهم في الحرج الأكيد غالباً جداً، بل سيقع الكثير منهم في الضرر أيضاً، وذلك إن لم يشترِ المسلمون من عندهم لاحتمال المشترين عدمَ صحّة تذكية القصّاب لأنعامه أو لاحتمال عدم اطمئنانهم بصحّة تطهير القصّاب، وكذلك المشترون قد يتضرّرون أيضاً، فإنهم إن احتاجوا للشراء من شخص لا يطمئنّون بصحّة تذكيته وتطهيره فإنهم قد يضطرّون للذهاب إلى أماكن بعيدة فيتضررون أيضاً من أكثر من جهة .
  الخامسة : إنّ معنى الترخيص في الشراء والأكل من سوق المسلمين هو الترخيص في كلّ المحلاّت، أي أنّ الاُصول الترخيصيّة تجري في كلّ محلّ محلّ، وليس هذا بقبيح، طالما أنّ إصابة النجس الواقعي ـ كما قلنا ـ بعيد وطالما أنّ المولى تعالى يحبّ أن يسهّل على عباده، أو قُلْ : هذا الترخيص في كلّ محلّ محلّ غير قبيح عقلائياً، طالما اجتمع ضعف احتمال إصابة النجس الواقعي مع مصلحة التسهيل على الناس .
  والنقطة السادسة والأخيرة : ادُّعِيَ الإجماعُ على الترخيص في كلّ الأطراف .


[1] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج17، ص91، أبواب الأطعمة المباحة، ب61، ح5، ط الاسلامية.
[2] عامّيّ، له كتاب معتمد ـ ست، وقال الشيخ في العدّة : عملت الطائفة بما رواه فيما لم ينكروه ولم يكن عندهم خلافه، ويروي عنه في الفقيه مباشرةً.
[3] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج18، ص215، أبواب كيفية الحكم، ب25، ح2، ط الاسلامية.