بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/04/26

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : هل يمكن الترخيصُ بنحو التخيير في بعض الأطراف إثباتاً أم لا ؟

  المسألة السابعة : هل يمكن الترخيصُ في بعض الأطراف إثباتاً أم لا ؟
  يقول السيد الشهيد بجواز جريان الاُصول المؤمّنة ـ إثباتاً ـ في بعض الأطراف، لكن مع عدم وجود معارض لجريان الاُصول المؤمّنة، وأيضاً مع عدم منع العقلاء عن جريانها، ومع عدم كونه من الترخيص المشروط الذي يقولان به المحقّقان القمّي والعراقي . وإنما قال السيد الشهيد بما قال لأنه يقول بأنّ العلم الإجمالي يقتضي وجوبَ الموافقة القطعيّة ثبوتاً ـ أي بنحو الإقتضاء لا بنحو العليّة ـ .
  أقول : لا شكّ في أنّ العرفَ لا يفهمون من أدلّة الاُصول الترخيصيّة ـ كأحاديث الحلّ ـ جريانَها ولو في بعض الأطراف ـ طبعاً بنحو التخيير ـ إن كانت الأطراف قليلةً عرفاً، وإنما يحصرونها في سوق المسلمين ونحوه ...
  ولذلك لا نقول بجريان الاُصول الترخيصيّة فيها ثم إذا تكاذبت تساقطت، وإنما لا تجري الاُصول الترخيصيّة من الأصل . وذلك لأننا يجب أن نتصوّر كلّ طرف بكلّ متعلّقاته ـ أي بما هو طرف للعلم الإجمالي ـ ففي هكذا حالة لا يُجري العرفُ الاُصولَ الترخيصيّة في أيّ طرف .

  ورغم وضوح ما قلناه ترى المحقّقَ القمّي يقول في قوانينه بجواز جريان الاُصول المؤمّنة فيما عدا مقدار الجامع، وقالها من بعده المحقّق العراقي[1]، لكنْ بناءً على قول مخالفيه القائلين بأنّ العلم الإجمالي ليس علّةً تامّةً لوجوب الموافقة القطعيّة، وإنما هو مقتضٍ لذلك بحيث يمكن الترخيص ثبوتاً في كلّ الأطراف أو بعضها . إذن قال المحقّق القمّي بأنّ الجامع يفيدنا حرمة ارتكاب كلا الإناءين، ويجوز ارتكاب أحدهما فقط، بمعنى أنك إذا ارتكبت هذا الطرف فلا ترتكب الطرف الآخر، وأمّا إذا لم ترتكب هذا الطرف فَلَكَ أن ترتكب الطرف الآخر، وذلك تمسّكاً بقاعدة الحِلّ فيما عدا مقدار الجامع، أو قُلْ جمعاً بين قاعدة الحِلّ وعلمنا بالجامع .
  وأجاب السيد الخوئي بأنّ كلام المحقّق القمّي يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة الواقعيّة، وذلك إذا نَوَيْنا ترك كلا الطرفين، أي إذا جمعنا بين الترخيصين المشروطين، فإنّ هذا يؤدّي إلى جريان الاُصول الترخيصيّة في كلا الطرفين مع أننا نعلم بأنّ أحدهما متنجّس !! ولهذا السبب لا يُجري العرفُ أصالةَ الحِلّ في أحد الطرفين .
  وقال المحقّق العراقي بأنّ لنا أن نرفع اليد عن الإطلاق الأحوالي لدليل الأصل المؤمّن في كلّ طرف، بمعنى أننا لا نجري الأصلَ المؤمّن في كلّ طرف على كلّ حال ـ أي سواءً ارتكبنا الطرف الآخر أم تركناه ـ وإنما نجري الأصلَ المؤمّن في أحد الطرفين بنحو التخيير لكن بشرط نيّة ترك الطرف الآخر، لكنْ طبعاً بناءً على قول مخالفيه القائلين بأنّ العلم الإجمالي ليس علّةً تامّةً لوجوب الموافقة القطعيّة، وإنما هو مقتضٍ لذلك ... وبكلمة واحدة : لا مانع إثباتي عنده من إجراء الأصل الترخيصي بشكل ينتج التخيير[2] .
  أقول : يرد عليه :
  أوّلاً : العرفُ لا يفهم أدلّةَ الترخيص بهذا الشكل المقترَح، سواءً كان الدليل هو حديث الرفع أو استصحاب الطهارة أو نفس أخبار الحِلّ، لأنهم يرَون في هكذا تقييدٍ مقترَحٍ ترخيصاً في القبيح والمنكَر رغم كون الأطراف قليلةً عرفاً، ولذلك هم يستقبحونه جدّاً، لا بل يرون في هذا الترخيص مناقضةً بينه وبين التحريم الواقعي المنجّز .
  ثانياً : العرفُ لا يفهم الإطلاق من أدلّة الترخيص التخيير بحيث يشمل كلّ طرف، أي أنّ العرف لا يفهم أنّ أدلّة الترخيص مطلقة وتشمل كلّ الأطراف على أن نترك مقدار الجامع، وتجري في كلّ طرف ثم إذا تكاذبت تساقطت، ولذلك هم يحملون روايات الترخيص على معنى معقول، وهو تطبيقُ أدلّة الحِلّ على مثل سوق المسلمين، ويحملون أدلّةَ البراءة على الشبهة البدويّة، وأدلّةَ الإستصحاب على ما له حالة سابقة والغير المقترن بالعلم الإجمالي، فإنه أمْرٌ معقول جداً .
  ثالثاً : لك أن تستدلّ على بطلان ادّعائه التخييرَ بما ورد في الروايات من وجوب إراقة كلا الإناءين فيما لو عُلِمَ بنجاسة أحدِهما من قبيل ما رواه في الكافي عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد(بن عيسى ويحتمل أن يكون ابن خالد) عن عثمان بن عيسى(ثقة له كتب كان واقفياً قالوا ثم تاب وبعث المال إلى الرضا (عليه السلام) ) عن سَماعة بن مِهْران(ثقة) قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام)عن رجل معه إناءان فيهما ماء، وَقَعَ في أحدهما قذَرٌ لا يَدري أيهما هو، وليس يقدر على ماء غيره ؟ قال : ( يهريقهما جميعاً ويتيمَّم )[3] صحيحة السند .
  وإنما نؤكّد على فكرة (هكذا يفهم العرفُ أو لا يفهم العرفُ هذا المعنى) لأنّ الآيات والروايات نزلت للناس، أي ليفهمها الناس، فإذَنْ فَهْمُ العرفِ هو الميزان . قال الله تعالى(هُدىً للناس ) وقال﴿ لتبيّن للناس ما نُزِّلَ إليهم ﴾[4] وقال رسول الله (ص) : ( إنّا معاشر الأنبياء اُمِرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم )[5] ...


[1] مصباح الاُصول، للسيد الخوئي، ج2، ص352.
[2] مباحث الاصول، سید محمد باقر صدر، ج4، ص68.
[3] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج1، ص113، من أبواب الماء المطلق، ب8، ح2، ط الاسلامیة.
[4] نحل/سوره16، آیه44.
[5] الكافي، کلینی، ج1، ص51، كتاب العقل والجهل، ح15.