بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/04/16

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : دوران الأمر بين المتباينَين

( دوران الأمر بين المتباينَين ) أو ( أصالة الإحتياط )

  هل يقتضي العلمُ الإجمالي التنجيزَ بقدر الجامع لأنه هو فقط المعلوم ـ كما قيل ـ أو بقدر الواقع ؟ وهل تجري الاُصول المؤمّنة في كلّ الأطراف، ولو في بعض الحالات ـ كما فيما لو عَلِمْنا بوجود جبن فيه إنفحةُ الميتة في القليل من المحلاّت الموجودة في سوق المسلمين ـ أم تجري الاُصول المؤمّنة في بعض الأطراف، كما لو خرجت بعض الأطراف عن محلّ الإبتلاء ـ كما لو اضطررنا إلى شرب بعض الآنية أو طهّرناها مثلاً ـ أم لا تجري أصلاً ؟ أسئلةٌ كثيرة .

   مقدّمة البحث :
  لا شكّ أنّ المنجّز في العلم الإجمالي هو الواقع، ولذلك يجب الإجتناب عن جميع الأطراف إحتياطاً، تجنّباً للوقوع في مخالفة الواقع، هذا بالنظرة البدْويّة الأوّليّة .
  هذا الإحتياط لا يُرفع بخروج بعض الأطراف عن محلّ الإبتلاء، كما لو وقعت قطرة نجاسة في أحد إناءين، ولم نَدْرِ بذلك، ثم حصل أن خرج أحد الطرفين عن محلّ الإبتلاء ـ كما لو سافروا بالإناء إلى مكان بعيد لا نعرفه أو لا نصل إليه عادةً أو كما لو طهّرناه أو شربناه ـ وقبْل أن نشرب من الإناء الثاني عَلِمْنا بنجاسة أحد الإناءين، فهل يجوز شرب الإناء الآخر الواقع تحت ابتلائنا أم لا ؟
   الجواب : بما أنّ الصحيح هو أنّ المنجّز هو الواقع كما قلنا، وهو ما يطلقون عليه بمسلك العليّة ـ لا مسلك الإقتضاء ـ أي أنّ العلّة في تنجيز العلم الإجمالي هو الفرد الواقعي الضائع ـ وليس العلم بجامع النجاسة بينهما ـ فإنه يجب القول بوجوب الإجتناب عن الطرف الواقع تحت ابتلائنا، وذلك لأنّ الطرف الغير واقع تحت ابتلائنا هو واقعاً وحقيقةً من أطراف العلم الإجمالي وجداناً، ولا ينبغي أن تُجري الاُصولَ الترخيصية المؤمّنة في الطرف الواقع تحت الإبتلاء بذريعة أنّ الطرف الآخر الواقع خارجَ محلّ الإبتلاء لا تجري فيه الاُصول الترخيصية للغويّتها عقلاً .
   بيانُ المسألةِ بتفصيل :
ـ تارةً تكون قطرةُ النجاسةِ مردّدةً بين الثوب الذي يريد زَيدٌ أن يصلّي فيه، وبين ثوبه الآخر الواقع تحت ابتلائه أيضاً، فهنا لا شكّ في تنجّز هذا العلم الإجمالي بالإجماع .
ـ وتارةً تقع قطرة النجاسة على أحد ثَوبين، إمّا ثوب زيد اللبناني وإمّا ثوب رجل صيني كان قُرْبَه في المطار فطار الصيني إلى الصين، فهنا قد تقول بأنّ ثوب الرجل الصيني خارج عن محلّ الإبتلاء، لأنّ زيداً قطعاً أو قُلْ عادةً لن يذهب إلى الصين ولن يعرف هذا الرجلَ الصيني هناك على فرض ذهابه، ولن يعرف أين هو، فجريانُ الاُصولِ الترخيصية المؤمّنة في ثوب الصيني لا فائدة منه، ولذلك فجريانها فيه لَغْوٌ محْضٌ، فيبقى أن تَجريَ الاُصولُ الترخيصية في ثوب زيد بلا معارض .
  هذا الكلامُ ـ وهو جريان الاُصول العملية في ثوب زَيد ـ لا نوافقُ عليه، وذلك لأننا لو فرضنا أنّ ثوب الصيني رجع إلى بلد زَيدٍ صدفةً وعلى خلاف التوقّع واعتقاد زيد، ولو بفرض استخدام أحدِهم الجنَّ مثلاً فجَلَبَ ثوبَ الصيني له، لصار العلم الإجمالي منجّزاً عليه ! ثم لو أرجعه الجنّيُّ إلى الصين ـ بخلاف اعتقاد زيد ـ لبطل تنجيز هذا العلم ! ثم لو جلبه له مرّةً اُخرى ـ بخلاف اعتقاد زيد، بمعنى أنّ زيداً لم يحتمل أن يعيده إليه ثانيةً وإنما كان يعتقد بخروج ثوب الصيني عن محلّ ابتلائه إلى آخر عمره ـ لرجَعَ العلمُ الإجمالي منجّزاً عليه مرّةً اُخرى وهكذا .. هذه الأحكام المتبدّلة بحسب اعتقاد زيدٍ غيرُ محتملة، ولذلك يجب القول ببقاء منجّزيّة هذا العلم الإجمالي، أو قُلْ : يمكن رجوعُ هذا الصيني إلى بلد زيد لكونه قنصلاً مثلاً في السفارة أو لكونه تاجراً، وزَيدٌ لا يدري، فيعود العلمُ الإجمالي منجّزاً، فإذا رجع الصيني إلى الصين واعتقد زيد بخروج ثوبه عن محلّ ابتلائه لبطل تنجيز العلم الإجمالي .. وهكذا .. هذه الأحكام غير محتملة، وإنما يجب علينا أن نتمسّك بإطلاقات الأحكام، وهي هنا وجوب اجتناب زيد عن الصلاة بثوبه المشكوك النجاسة .. هذا الحكم بوجوب اجتناب زيد لثوبه المشكوك النجاسة غير مستهجَن عقلاً أصلاً، وإنما المستهجَنُ هو أن يصلّي فيه .. وقد ذكرنا هذه الأمثلة لنكشف عن لزوم القول ببقاء تنجيز العلم الإجمالي إن لم يَفْنَ الطرفُ المقابلُ حقيقةً .
ـ وتارةً يتردّد زيد في محلّ وقوع قطرة النجاسة بين البحر وبين ثوبه، فحتى في هكذا حالة هناك مجال للإشكال، ولكن مع ذلك لا بأس بجريان الاُصول الترخيصية المؤمّنة في ثوب زيد، وذلك لأنّ العقل لا يمانع من جريانها في الثوب، بخلاف مثال ثوب الصيني، فإنّ العقل يمانع من جريان الأُصول الترخيصية في ثوب زيد، وذلك لبقاء أطراف العلم الإجمالي حقيقةً في مثال ثوب الصيني، أمّا هنا فقد فَنَتِ النجاسةُ عرفاً .

ـ وقد يميّز بين ما لو كان العِلم الإجمالي منجّزاً أوّلاً، ثم طرأ عارض اَخرَج أحَدَ الطرفين عن التنجيز، فهنا قيل بلزوم البقاء على تنجيز كلا الطرفين . مثال هذه الحالة : ما إذا عَلِمَ إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين، ثم طُهّر أحدُهما، فإننا يجب أن نجتنب الطرف الآخر، ولو لاستصحاب بقائه على التنجّز . وهذا الكلام صحيح بلا ريب .
   أمّا إذا كان أحد الطرفين قد خرج عن أطراف العلم الإجمالي ولو بتطهير أحد الطرفين، ثم ـ بَعد ذلك ـ عَلِمَ الشخصُ بنجاسة أحد الطرفين منذ ساعة، فهنا قيل بأنّ العلم الإجمالي لا يكون منجّزاً لأنه يكون بمثابة الشبهة البدوية . مثالُ هذه الحالة : ما إذا طَهّرتَ أحد الإناءين أوّلاً لسببٍ ما، ولو لعادتك على تطهير الإناء قبل تعبئته ماءً، ثم جاءك شخصٌ لا يعرف بتطهيرك لأحد الإناءين الآن ـ ولنفْرِضْهُ إناء رقم (واحد) ـ فأخبرك بأنّ أحدهما كان نجساً منذ ساعة، فأخبرتَه أنت فقلتَ : لكنّي قد طهّرتُ هذا الإناء ـ رقم واحد ـ الآن ! فالسؤال : هل يجوز شرب الإناء رقم (باء) بذريعة أنّ هذا العلم الإجمالي لم يكن منجّزاً عليه من الأصل، أي أنّ الحالة هي بمثابة الشبهة البدويّة، أو لا يجوز شربُه ؟ 
   لا شكّ في لزوم الإجتناب عن الطرف رقم (باء) عقلاً ـ كما قال السيد الخوئي ـ وذلك لأنه حين عَلِمَ زيدٌ بنجاسة أحدهما منذ ساعة، فقد علم بالمفسدة في أحدهما، والعجز لا يرفع المفسدة، وإنما يرفع التنجّز عن خصوص الخارج عن محلّ الإبتلاء، ولذلك نقول بأنه تنجّز عليه العلم الإجمالي عقلاً بمقدار الإناء الذي لم يطهّره ـ أي رقم باء ـ وإلاّ فهل تحتمل أنت أن يكون إناء (باء) منجّزاً على المخبِر ـ لأنه كان يعلم بنجاسة احدهما سابقاً ـ ولا يكون منجّزاً على زيد ـ لأنه لم يعلم بنجاسة أحدهما إلاّ بعد خروج أحدهما عن محلّ الإبتلاء ـ ؟!