بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/04/01

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : آخر الكلام في التنبيه الثاني، والشروع في التنبيه الثالث
  التنبية الثاني وهو في التعرّض لإشكال الإحتياط في العبادات المردّدة بين الوجوب من جهة وبين الإباحة والكراهة من جهة ثانية، من حيث عدم العلم بتعلّق المطلوبية بها، فكيف يصحّ الإحتياط في هكذا مورد ؟ ـ بعد الفراغ عن إمكان الإحتياط في الموارد المطلوبة بالمعنى الأعمّ من الوجوب والإستحباب وذلك للعلم بكون العمل مأموراً به على كلّ تقدير ـ وبتعبير آخر : هل يمكن تصحيح الإحتياط من باب رجحانه أم لا ؟ أم هل يمكن تصحيحه من باب استحبابه بعنوان ثانوي وهو مفاد أخبار (مَن بَلَغ) ؟ وهل يمكن التقرّب مع عدم العلم بالأمر بالفعل ؟ وهل يُكتفَى في صحّة العبادة بحصولها بداعي الأمر المحتمَل أم لا ؟ إذ ربما يشكل في جريان الإحتياط في العبادات عند دوران الأمر بين (مطلق المطلوبية) وبين (الإباحة أو الكراهة) من جهة أن العبادة لا بُدَّ فيها من نية القربة المتوقّفة على العلم بأمر الشارع تفصيلاً ـ كما في الصلاة المفروضة ـ أو إجمالاً ـ كما في الصلاة إلى الجهات الأربعة عند الجهل باتّجاه القبلة ـ، فنقول مقدّمة للجواب :
   لا شبهة في حسن الإحتياط شرعاً وعقلاً في الشبهتين الوجوبية والتحريمية في العبادات والمعاملات، كما لا ينبغي الإرتياب في استحقاق الثواب فيما إذا احتاط الشخصُ في الموارد التي تجري فيها البراءةُ ولا يجب فيها الإحتياط، كالأذان والإقامة والقنوت ونحوها وأتى أو ترك بداعي احتمال الأمر أو النهي، لأنه يكون من باب الإنقياد .
  وأمّا الجواب على الأسئلة والإشكالات السابقة فهو أنّ العقل يستحسن قطعاً الصلاةَ برجاء المطلوبية، أو قلْ إنّ العقل يستقلّ بحُسْنِ الإحتياط، فلا مانع من أن يصلّي الشخصُ الصلاة المشكوكة المطلوبية من باب احتمال مطلوبيتها، ويستحقّ بذلك الثواب، وذلك لجريان البراءة في مفروض المسألة، لكنه يأتي بها من باب الإحتياط الإستحبابي، أو قُلْ من باب الإنقياد، وذلك لكون المراد بالإحتياط في العبادات هو الإتيان بالفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا الجزم بنية القربة، ولا دليل على لزوم الجزم بنيّة القربة في مثل حالتنا المفروضة، أكثر ممّا ذكرنا، وهو أن يأتي بالفعل بداعي احتمال حسنه واحتمال محبوبيّته ومطلوبيّته واحتمال الأمر الإلهي به، فيقع حينئذ على تقدير الأمر به امتثالاً لأمره تعالى، وعلى تقدير عدمه انقياداً لجنابه تبارك وتعالى . نعم إنما يجب الجزم بنيّة القربة فيما لو كان العمل معلوم العبادية، فينوي الإمتثال بداعي امتثال الأمر المولوي القطعي، وفيما نحن فيه ينوي امتثال الأمر المولوي المحتمل الوجود، ولا دليل على أكثر من ذلك في العبادات المعلومة والعبادات المحتملة .
  ولك أن تبيّن الدليل بالبيان التالي : إنّ المولى تعالى يشخّص أوّلاً فِعْلَ العبادةِ كالصلاة والصيام ثم يأمرنا بالإتيان بهذه العبادة، فنحن العباد نمتثل هذا الأمر ونأتي بالصلاة بقصد امتثال الأمر بها، ومع الشكّ بمطلوبيّتها فإننا نأتي بالصلاة لاحتمال الأمر بها، وهذا معنى الإحتياط .
  فإن قلتَ : إنّ صحيحة هشام بن سالم المحكيَّة عن المحاسن عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ( مَن بَلَغَه عن النبيّ (ص) شيءٌ من الثواب فعَمِلَه، كان أجْرُ ذلك له، وإن كان رسولُ الله (ص)لم يَقُلْهُ )[1] تدلّ على استحباب ما بلغه ـ حتى ولو وَرَدَه استحبابُ العبادة عِبْرَ خبرٍ ضعيف ـ، وذلك لأنّ الأجر كان مترتباً على نفس العمل الذي بلغه عنه أنه ذو ثواب، فمع عدم العِلم بمطلوبية العبادة الفلانية يمكن للإنسان ح أن ينوي استحباب هذه العبادة المشكوكة المطلوبية، بهذا العنوان الثانوي الوارد في هذه الصحيحة، وهذا نحوٌ من أنحاء الإحتياط أيضاً، ونحْوٌ مِن أنحاء العبادة .
  قلتُ : لا، لو دلّت أخبار (مَن بَلَغ) على الإستحباب بالعنوان الثانوي لما صحّ الإحتياط، وللزم ح امتثالُ الأمر الإستحبابي الثانوي دون نيّة الإحتياط، ولكنْ أخبارُ (مَن بَلَغَ) لا تدلّ على الإستحباب بالعنوان الثانوي من الأصل، وإنما تدلّ فقط على وَعْدٍ إلهي بإعطاء ثواب بمقدار البلوغ، وذلك من باب التفضّل الإلهي فقط، ولا تدلّ على الإستحباب الأوّلي للفعل ولا على الإستحباب بعنوان ثانوي، ولا سيّما على رواية الكافي، فقد روى الشيخ الكليني في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ( مَن سمع شيئاً مِنَ الثواب على شيء فصنعه كان له وإن لم يكن على ما بلغه )[2]، فبناءً على هذا النصّ لا نفهم إلاّ الوعد بإعطاء الثواب المذكور، ولا نفهم الإستحباب أصلاً، ومع التعارض لا يمكن أن يبنى على الإستحباب الثانوي للعمل، وح لا يمكن نيّةُ القربة بشكل جازم في العبادة المشكوكة المطلوبية، وإنما نحتاط، أي نأتي بالعمل برجاء المطلوبية .
  وأيضاً يمكن القول بإمكان الإحتياط من خلال بعض الروايات التي تفيد معنى "اِحتاطوا بالإتيان بالعمل، واللهُ تعالى وعدكم بإعطائكم نفس الثواب المذكور"، لاحِظْ مثلاً ما رواه في الكافي عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن محمد بن سنان عن عمران الزعفراني(مجهول) عن محمد بن مروان قال سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول : ( مَن بَلَغَه ثوابٌ مِنَ الله على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب اُوتِيَه وإن لم يكن الحديثُ كما بلغه )[3]، فإنّ كلمة ( التماس ذلك الثواب ) إشارة واضحة في مطلوبية الإتيان بالعمل من باب الإحتياط، وعليه يصحّ الإحتياط بالإتيان بالعمل بنيّة الأمر الشرعي بالإحتياط، لا بنيّة الإستحباب . والنتيجة هي أنه يصعب الإفتاء بالإستحباب بالعنوان الثانوي، وبتعبير آخر : أخبارُ (من بلغ) ليست بصدد إعطاء الحجيّة للأخبار الضعيفة، نظير إعطاء الحجّيّة لقول الثقة، أي أنها لا تفيد إعطاء الإستحباب الثانوي، وترتبُ الثواب لا يفيد إعطاء الحجيّة ولا يفيد الإستحباب، فهي ليست بمثابة (مَن سرّحَ لحيتَه فله أجر كذا وكذا)، فلا يصحّ القول بأنّه "يشترط في حجيّة خبر الواحد أن يكون المخبر ثقة، إلاّ في المستحبّات، فلا يشترط ذلك، وهذا هو المراد من قاعدة التسامح في أدلّة السنن" .

  التنبية الثالث وهو في التعرّض لدعوى عدم جريان قاعدة الحليّة في الشبهة الموضوعية التحريمية، وقالوا بأن الشارع المقدّسَ بيَّن حكْمَ الخمرِ مثلاً فيجب حينئذ اجتناب كل ما يحتمل كونه خمراً من باب المقدمة العلمية، وذلك لأن وظيفة الشارع بما هو شارع ليس إلا بيان الكبريات مثل ( الماء حلال، والخمر حرام ) وقد بيَّنَها ووصلت إلى المكلف حسب الفرض، واِنّما الشك في الصغرى، وهي أنّ هذا المائع الخارجي هل هو خمر أم لا ؟ ومن المعلوم أن المرجع في إزالة هذه الشبهة التي هي من الشبهات الموضوعية ليس هو الشارع الأقدس، وحينئذ فلا يحكم العقل بأصالة الحليّة، ضرورة انتقاض عدم البيان بعِلْمِ المكلف بأصل التحريم، وترددُ متعلق التحريم بين شيئين بسبب أمور خارجية غيرُ مرتبطٍ بالشارع المقدّس حتى يجب عليه رفْعُه، بل على المكلف نفسِه إزالةُ هذا التردد والجهل . كما لا يجري فيه مثل حديث الرفع لاثبات الترخيص الظاهري، إذ الحديث اِنّما يرفع ما كان وضْعُه بيد الشارع، وقد عرفت أن ما يكون وضْعُه بيده هو إنشاء الحكم الكلي لا غير . وعليه فمجرد العلم بالكبريات مثل ( الخمر حرام ) أو ( لا تشرب الخمر ) كاف في تنجز التكليف على المكلف، ويحكم العقل بلزوم الإجتناب عن الأفراد المشكوكة كحكمه بلزوم الإجتناب عن المصاديق المعلومة .
  ودفْعُ الإشكالِ أن يقال : اِنّ النهي عن الخمر يوجب حرمة الخمر المعلوم تفصيلاً أو إجمالاً، أمّا مع الجهل واحتمالِ الخمريّة فلا يبعد جريانُ أصالة الحِليّة عقلاً، أمّا الحليّة الشرعيّة ـ كما هي مفاد مثل حديث الرفع ـ فلا شكّ في جريانها أصلاً .
  ولك أن توسّع كلامنا أكثر فتقول : لا يبعد جريان الاُصول المؤمّنة العقليّة والشرعيّة في الشبهتين الحكميّة والموضوعيّة، الوجوبيّة والتحريميّة، فإنّ العقل يستقبح مؤاخذة من لم يتنجز التكليف في حقه، سواء كان عدم التنجز لعدم بيان الشارع له من الأصل ـ كما في الشبهة الحكمية الناشئة مِن فَقْدِ النصِّ، أو لإجمال دلالته، أو لمعارضته مع خطاب آخر مكافئ له ـ أو لجهل المكلّف بتحقق متعلقه، أو لجهله بكون الموجود من مصاديق متعلقه كما في المقام، ففي جميع هذه الموارد لا يبعد حكم العقل بقبح المؤاخذة فتجري البراءة والحليّة العقليّتان .


[1] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج1، ص60، أبواب مقدمة العبادات، ب18، ح3، ط الاسلامية.
[2]وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج1، ص60، أبواب مقدمة العبادات، ب18، ح3، ط الاسلامية.
[3]وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج1، ص60، أبواب مقدمة العبادات، ب18، ح3، ط الاسلامية.