بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/03/27

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : آخر الكلام في التنبيه الأوّل

قلنا في التنبيه الأوّل : إنه إنما تجري أصالة البراءة شرعاً وعقلاً فيما لو لم يكن المورد مورداً لجريان أصل موضوعي سواء كان الأصل الموضوعي ـ أي الوارد ـ مخالفاً في النتيجة للبراءة،   أو حتى ولو كان موافقاً في النتيجة للبراءة، كما لو شككنا في طروء الجلل على الحيوان، فإننا نستصحب عدم الجلل، فيصير ـ بالإستصحاب الذي هو هنا أصلٌ موضوعي ـ قابلاً للتذكية تعبّداً، وح يحلّ أكله، وهو موافق لأصالة الحليّة، وكذا لو علمنا بطروء الجلل على الحيوان وشُكَّ في أنّ الجَلَلَ في الحيوان هل يوجب ارتفاع قابليته للتذكية أم لا ؟ فهذه شبهة حكمية، فهل نستصحب قبوله للتذكية أم لا يمكن ؟ الجواب : نعم، يمكن لنا استصحاب بقاء الموضوع لإثبات بقاء قابلية التذكية، فنحن كنّا نعلم بقبوله للتذكية قبل الجلل، ثم صار جلاّلاً فشككنا هل أنّ الجلل يمنع من التذكية شرعاً أم لا، فنستصحب بقاء الموضوع من هذه الناحية على ما كان، والنتيجة هي حليّة الحيوان[1]، وهي نتيجة موافقة لأصالة الحلّ وقاعدة الطهارة . ورغم أنها موافقة فإنّ أصالة الحلّ لا تجري كما عرفتَ، وذلك لإلغاء موضوعها تعبّداً . وقد لاحظت أننا استصحبنا بقاءَ الموضوع فنكون بالتالي قد حوّلنا الشبهة الحكمية إلى شبهة موضوعية .
  وقد تستشكل علينا فتقول : إنك اعتبرت أنّ التذكية هي عبارة عن نتيجة فرْيِ الأوداج مع سائر شرائط التذكية التي منها قبول الحيوان للتذكية، فلو استصحبت بقاء الموضوع وبالتالي أنتجنا قبول الحيوان للتذكية لنثبت عنوان (المذكّى) فقد صار هذا الإستصحابُ أصلاً مثبتاً لأنه يثبت عنواناً وجودياً بسيطاً !
  فنقول في الجواب : نحن ندّعي تركّبَ علّة التذكية، فلا نقع في مشكلة الأصل المثبت، ومع ذلك نقول إنّ التذكية هي نتيجة الذبح مع سائر الشرائط، ولا مشكلة في البين، فنفس الفعل مركّب كالوضوء، والنتيجة هي النورانية الحاصلة من الوضوء .
  وكذا الأمر فيما لو شككنا في تحوّل الخلّ إلى خمر، فإننا نستصحب الخَلّيّة لإثبات الحليّة ولا نجري البراءةَ لإثبات الحلّية، مع أنّ النتيجة واحدة . المهم هو أنه إذا جرى الأصلُ الموضوعي ـ كالإستصحاب ـ فإنه لا محلّ لجريان البراءة أو الحليّة، وذلك لورود الأصل الموضوعي على البراءة، ومعنى الأصل الموضوعي هنا هو الذي يثبت أو يلغي موضوع البراءة أو الحليّة .
  فإذن لا تجري البراءة أو الحليّة إلاّ إذا لم يكن في الموردِ أصلٌ موضوعي، وذلك كما لو عُلِمَ بقبول الحيوانِ للتذكية وشُكَّ في حِلِّيَّةِ أكْلِه، فإنها تجري أصالةُ إباحة أكل لحمه بلا أي معارِض ووارد، وذلك لأنه حينئذ إنما يشك في أن هذا الحيوان المذكى حلالُ الأكلِ أو حرام، ولا أصل فيه إلا أصالة الإباحة، فتجري أصالة حليّة الأكل كسائر ما شك في أنه من الحلال الأكل ـ كالغنم ـ أو الحرام ـ كالأرنب والثعلب ـ فيبنى على حليّة أكل الحيوان بأصالة الحلّ وعلى طهارته بحصول التذكية، فيكون حاله كحال شرب التتن في الحليّة وفي طهارته .
  وكذا لو شُكّ في قبوله التذكيةَ فلا محلّ لجريان استصحاب عدم قبوله التذكيةَ، وذلك لأنّ الحيوان حينما خُلِقَ فإمّا أنه كان من الصنف الذي هو قابلٌ للتذكية أو من الصنف الغير قابل للتذكية، فليس هناك حالةٌ سابقة لنستصحبها، فلا مانع من الرجوع إلى مثل قوله تعالى( قُل لاَّ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً.. )[2] فنتمسّك بعموم الآية ـ لا بأصالة الحِلّيّةَ ـ بلا أيّ مانع، لإثبات حليّة الأكل، فإذا ثبتت الحليّةُ ثبتت الطهارةُ بالملازمة الشرعية، ولك أيضاً أن تتمسّك بقاعدة الطهارة ـ لا باستصحاب الطهارة ـ لإثبات طهارتها ـ خاصةً طهارة جِلْدِها الذي هو محلّ الكلام ـ لأننا نقول : هذه المَيتةُ التي ذبحناها على الطريقة الشرعية هل هي طاهرة أم نجسة في عالم الجعل ؟ لا ندري، فتجري فيها قاعدة الطهارة وأصالتُها .

  التنبية الثاني : إنه لا شبهة في حسن الإحتياط شرعاً وعقلاً في الشبهتين الوجوبية والتحريمية في العبادات والمعاملات، كما لا ينبغي الإرتياب في استحقاق الثواب فيما إذا احتاط الشخصُ في الموارد التي تجري فيها البراءةُ ولا يجب فيها الإحتياط، كالأذان والإقامة والقنوت ونحوها وأتى أو ترك بداعي احتمال الأمر أو النهي، لأنه يكون من باب الإنقياد .
  وربما يشكل في جريان الإحتياط في العبادات عند دوران الأمر بين الوجوب وبين إمّا الإباحة وإمّا الكراهة، من جهة أن العبادة لا بُدَّ فيها من نية القربة المتوقفة على العلم بأمر الشارع تفصيلاً ـ كما في الصلاة المفروضة ـ أو إجمالاً ـ كما في الصلاة إلى الجهات الأربعة عند الجهل باتّجاه القبلة ـ .
  والجواب بأنّ العقل يستحسن قطعاً الصلاةَ برجاء الوجوب، أي أنه يصلّي لاحتمال الوجوب، ويستحقّ بذلك الثواب، وذلك لجريان البراءة في مفروض المسألة، لكنه من باب الإحتياط الإستحبابي، أو قل من باب الإنقياد أتى بالعمل الفلاني، فيجب أن يستحقّ الثواب .


[1] إعلم أننا نتكلّم اُصوليّاً فقط ومِن دون نظرٍ إلى الأدلّة الفقهية الخاصّة، وإلاّ فإننا نحرّم أكْلَ لحومِ الجلاّلة ونعتبرها نجسةً أيضاً وذلك لما رواه هشام بن سالم ـ .في صحيحته ـ عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : (لا تأكلوا لحوم الجلاّلة، فإن أصابك من عرقها فاغسله ) وهو أمرٌ يجب أن يكون واضحاً عِلْمياً أيضاً.
[2]انعام/سوره6، آیه145.