بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/03/20

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : الإعتراضات على البراءة الشرعية

  أمّا الإعتراض الثاني : فقد يُقال : إنه يستقلّ العقل بلزوم فعل ما احتُمِل وجوبُه وترْكِ ما احتُمِل حرمتُه في الشبهات الحكمية والموضوعية، حيث عُلِمَ إجمالاً بوجود واجبات ومحرمات كثيرة في الأخبار الضعيفة وفي الخارج فيما اشتُبِه وجوبه أو حرمته مما لم يكن هناك حجة على حكمه، تفريغاً للذمة بعد اشتغالها، ولا خلاف في لزوم الإحتياط في أطراف العلم الإجمالي إلا من بعض الأصحاب .
  وقد يجاب عن ذلك بأنّ العقل واِنِ استقل بذلك، الا أنه إذا لم ينحل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي وشك بدوي، وقد انحلّ، فإنه كما عُلِمَ بوجود تكاليف إلزامية في الأخبار الضعيفة وفي الخارج كذلك عُلِمَ بثبوت طرق وأصول معتبرة مثبِتة لتكاليف بمقدار تلك التكاليف المعلومة أو أزيد، بحيث لا يبقى عندنا عِلْمٌ بتكاليفَ إلزامية أخرى غير ما ثبت عندنا بواسطة الأمارات الصحيحة والأصول العملية المثبتة، سواءً في الشبهات الحكمية أو الموضوعية .
  وبخصوص الشبهات الحكمية نقول : يكفي أن نقول بعدم علمنا بوجود تكاليف إلزامية بين الأخبار الضعيفة ـ بَعد الأخْذِ بالأمارات المثبِتَةِ للتكاليف وبالاُصول المثبتة ـ لا بل نستبعد وجودَ أحكام إلزامية بين الأخبار الضعيفة لم يَرِدْ فيها خبر صحيح، فإننا نعلم أنّ الله جلّ وعلا قد بعث لخلقه مئات آلاف الأنبياء والأوصياء ليبلّغوهم أحكامه، فكيف يمكن أن يتركهم في عصر الغيبة الكبرى من دون إعلام وجوب القنوت مثلاً أو جلسة الإستراحة أو حرمة هذا أو ذاك، وأنت تعلم أنّ الأحكام الإلزامية ملاكاتها خطيرة بحيث إنها واصلة إلى حدّ عدم إمكان الترخيص فيها، على أنّ إيصال الأحكام الإلزامية إلينا وبعدد كبير، في غاية السهولة، لذلك فنحن لا نعلم بوجود أحكام إلزامية في الأخبار الضعيفة، فتجري البراءةُ في الأخبار الضعيفة بلا شكّ . وهذا الإنحلال المدّعى هو انحلال حقيقي، لا إنحلال حُكْمي فقط ـ وهو بقاء العلم الإجمالي وجداناً لكنه لا يكون منجِّزاً ـ وذلك لأنه أقرب شيء ممّن لو عَلِمَ باشتغال ذمّته بعشرة دنانير مثلاً، وشَكّ في الأزيد، وفيما نحن فيه الأمْرُ هكذا تماماً، فنحن لا نعلم بوجود تكاليف إلزامية في الأخبار الضعيفة غير موجودة في الأخبار الصحيحة كوجوب غُسل الجُمُعة مثلاً، أي أنّ العلم الإجمالي في الأخبار الضعيفة معدوم حقيقةً، فلا عِلْمَ إجماليَّ حقيقةً .
*   *   *   *   *
  الإعتراض الثالث : قيل إنّ الإقدام على ما لا تُؤمَنُ مَفسدتُه هو كالإقدام على ما تُعلم فيه المفسدة .
  وجوابه : إذا آمَنَنا ربُّنا من جهة بعض الأحكام ـ كشرب التتن ـ لجهْلِنا بها، فشرّع لنا البراءةَ والحِليّةَ، ولو للتسهيل على عباده، فذلك شأنُه، والدِّينُ دِينُه .
*   *   *   *   *
  أمّا الإعتراضُ الرابع : فقديقال بوجوب دفع الضرر المحتمل وعليه فيجب الإحتياطُ عقلاً .
  وجوابُه كالجواب على الإعتراض الثالث السابق تماماً، وهو أنّ الله تعالى شرّع لنا البراءة .
  والعجب أنّ نظرهم إنما هو إلى الواقع، مع أنّ الله تعالى شرّع لنا في حال الجهل بالواقعِ اُصولاً مؤمّنة، فنظرُنا لذلك إلى الظاهر .
*   *   *   *   *

( تنبيهات البراءة )

التنبيهُ الأوّل : إنه إنما تجري أصالة البراءة شرعاً وعقلاً فيما لم يكن هناك أصل موضوعي مطلقاً ولو كان موافقاً لها، فإنه معه لا مجال لها أصلاً، لوروده عليها كما يأتي تحقيقه، فلا تجري ـ مثلاً ـ أصالةُ الإباحة في حيوان شك في حليته مع الشك في قبوله التذكية، فإنه إذا ذُبِحَ مع سائر الشرائط المعتبرة في التذكية، فأصالةُ عدمِ التذكية تُدْرِجُهُ فيما لم يُذَكَّ، وهو حرام إجماعاً، كما إذا مات حَتْفَ أنْفِه، وذلك لأنّ موضوع الحرمة هو (عدم التذكية)[1]  وليس فقط (الميتة)، فلا حاجة إلى إثبات أن الميتة تعم غير المذكّى شرعاً، ضرورة كفاية كونه مثله حكماً، وذلك بأن التذكية إنما هي نتيجة فَرْيِ الأوداج الأربعة مع سائر شرائطها ـ من التسمية واستقبال الذبيحة والذبح بالحديد ـ عن خصوصية في الحيوان التي بها يؤثر الفريُ في الحيوانِ الطهارةَ وحدها ـ كما في الأرانب والثعالب ـ أو الطهارة مع الحلية ـ كما في مأكول اللحم كالغنم ـ، ومع الشك في تلك الخصوصية فالأصل عدم تحقق التذكية بمجرد الفري بسائر شرائطها، لأنه في حال حياته لم يكن مذكّى، فإذا شككنا في حصول التذكية ـ ولو للشكّ في قابلية الحيوان للتذكية ـ فالأصلُ عدمُ تحققها .
  نعم لو عُلِمَ بقبوله التذكيةَ وشُكَّ في حِلِّيَّةِ أكْلِه، فأصالةُ إباحة أكل لحمه محكمة، فإنه حينئذ إنما يشك في أن هذا الحيوان المذكى حلالُ الأكلِ أو حرام، ولا أصل فيه إلا أصالة الإباحة، كسائر ما شك في أنه من الحلال الأكل ـ كالغنم ـ أو الحرام ـ كالأرنب والثعلب ـ فيبنى على حليّة أكله بأصالة الحلّ وعلى طهارته بحصول التذكية، ولا محلّ لجريان استصحاب عدم التذكية، لأنّ الحيوان حينما خُلِقَ إمّا أن يكون قابلاً للتذكية أو غير قابل، فليس هناك إذن حالةٌ سابقة لنستصحبها، فيكون حاله كحال شرب التتن في الحليّة وفي طهارته .


[1] دليلُنا قولُه تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ .. (3)) (سورة المائدة) . ومثلُها موثّقةُ زرارة تقول ( إنْ كان مما يؤكل لحمُه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكل شيء منه جائز إذا علمت أنه ذكِيّ قد ذكّاه الذبح، وإن كان غير ذلك مما قد نُهِيت عن أكله وحرُم عليك أكلُه فالصلاة في كل شيء منه فاسد، ذكّاه الذبح أو لم يذكِّه .) ( وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج3، ص250، أبواب لباس المصلّي، ب2، ح1، ط الاسلامية )، ومثلُهما ما رواه في الكافي عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن علي بن الحكم عن سيف بن عميرة (ثقة واقفي) عن أبي بكر الحضرمي (لا تبعد وثاقته ويروي عنه بسند صحيح ابنُ أبي عمير) عن أبي عبد الله (عليه السلام)انه سأله عن صيد البزاة والصقورة والكلب والفهد، فقال : ( لا تأكل صيد شيء من هذه اِلاّ ما ذَكَّيتُمُوه اِلاّ الكلب المكلب ) ( وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج16، ص208، أبواب الصيد والذبائح، ب1، ح3، ط الاسلامية) مصحّحة السند .