بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/02/19

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : بقيّة الكلام في البراءة العقلية

   قبل عرض كلامنا في الموضوع ينبغي تقديم عدّة مقدّمات :
  الاُولى : لا شكّ أنك تعلم أنّ كلامنا إنما هو بعد الفحص التامّ في الأدلّة الشرعية وعدمِ إيجادنا لدليل محرِز على المسألة، وإلاّ فقبْل الفحصِ لا شكّ في وجوب الإحتياط عقلاً وبالإجماع .
  الثانية : تقدّم الكلام عن مشكلة وجود علم إجمالي بوجود تكاليف إلزامية بين الروايات، وأننا برهنّا على انحلاله بالروايات الصحيحة، فلا نُدخِلْ هذه المسألةَ في بحثنا .
  الثالثة : إنّ أصالة الحِلّيّة العقلية وأصالة الطهارة العقلية هما من نفس باب البراءة العقلية، بمعنى أنّ الكلام في هذه الأصالات الثلاثة واحد تماماً، بل لك أن تقول إنّ أصالة الحليّة العقلية هي فرع من فروع البراءة العقلية .
  الرابعة : كلامهم هنا إنما هو في خصوص الشبهات الحكمية، فحينما قال المولى مثلاً ( الخمرُ حرام ) وشككنا في خمريّة هذا المائع الخارجي الذي أمامنا، فهل تجري أصالةُ الحلّية العقليّة أم لا ؟ يصعب ذلك، لأنّ المولى تعالى أدّى ما عليه، وهذه مشكلة خارجيّة بحتة، لا تقصير فيها للمعصومين (عليهم السلام) أصلاً، فلا وجه في جريان أصالة الحليّة ؟!
  والخامسة : مرادُنا ومبتغانا من إثبات البراءة العقلية هو فقط نفيُ المؤاخذةِ على مخالفة ما لا طريق للمكلف إلى العِلْم به، لا نفيه بحسب الواقع كما هو ظاهر .

  إذا عرفت هذه المقدّمات الخمسة تعرف ح بوضوح بأن العقل يحكم بوجوب أن يبيّن المولى تعالى لعبيده موارد إلزاماته، إذا كان قادراً على بيان ذلك، وإذا كان مهتمّاً بها، ولا شكّ في أنّ المعصومين (عليهم السلام) ـ الذين هم خلفاء الله تعالى ولسانه الناطق ـ بقُوا بين أيدينا، تبرّك بهم أجدادنا وتبرّكتِ الدنيا بظهورهم من قبل هجرة رسول الله إلى سنة 329 هـ ق حيث انتهت بذلك الغَيبة الصغرى، وأظلمت الدنيا، وصرنا يتامى أهل بيت رسول الله (عليهم السلام)، وقد كانوا قادرين على إيصال ما يشاؤون من أحكام إلينا بآلاف الروايات، لا فقط بمئات الروايات، وها هي كتب الناس ورواياتهم قد وصل الكثير منها إلينا، وها هو كتاب الكافي وكتاب فقه الرضا وو .. قد وصلت إلينا بشكل طبيعي جداً، وها هي روايات السواك الغير واجب شرعاً قد وصل منها إلينا أكثر من مئة رواية !! وكذا روايات تحريم القياس ونحوه .. فلو شاء أئمّتنا (عليهم السلام) أن يقولوا لنا بوجوب الأمر الفلاني وحرمة الأمر الفلاني لكان ذلك عليهم من السهولة بمكان، وعبر مئات الرواة الثقات . فعدمُ إبلاغنا لحكمٍ ما دليلٌ واضح ـ كالشمس في رابعة النهار ـ على عدم أهميّته، أو على عدم إلزاميّته، بحيث صار لنا أن نجري أصالة براءة الذمّة ـ عقلاً ـ في الحكم المشكوك الإلزام . 
   ولك أن تقول : الأصلُ الأزلي يقتضي عدمَ التكليف، أو قُلْ ـ بالتعبير الصحيح ـ الأصلُ الأزلي هو نفسُ عدمِ التكليف، ونقتصر في التكاليف على خصوص التكاليف المعلومة . أو قُلْ الأصلُ براءةُ الذمّة قطعاً أي نستصحب عدم التكليف حتى يثبت التكليف من المولى القادر على التبليغ .
   وأيضاً لك أن تقول بعدم وجود أصالة الإحتياط عند العقل عند الشكّ في ثبوت بعض التكاليف المشكوكة، لا بل العقل يقول بعدم وجوب الإحتياط بعد إمكان تنبيه وتعليم المولى الحقيقي لعبيده، وهذا لَعَمْري يجب أن يكون واضحاً ووجدانياً .
   ومن الطبيعي أن هذه الأدلّة قطعية، ولكنْ نتيجتُها ظنيّة، كما نقول : خبر الثقة حجّة قطعاً، أي دليل حجيّته قطعي من الآيات والروايات، ولكن مؤدّاه قد يكون ظنّيّاً، والبيّنة حجّة، ومؤدّاها قد يكون ظنيّاً، وسوق المسلمين واليد والفراغ والتجاوز والفراش والصحّة والظهورات .. كلّها قطعية الحجيّة، ومع ذلك مؤدّاها قد يكون ظنّياً في بعض الأحيان، وليس بينهما أدنى تناقض أو مشكلة .
 وقد تقول بوجوب الإحتياط وذلك لأنّ مولويّة المولى تعالى ليست محدودةً بالأمور المعلومة فقط، وإنما دائرتها شاملةٌ للمحتمَلات أيضاً . هذا أوّلاً،
  وثانياً : بدليل أهميّة المحتمَل، فإنّ أمامنا يومَ القيامة وناراً وجحيماً، وأنت إذا احتملتَ أنّ في هذه الغابة أسداً فلن تدخلها، فكيف وأنت تعلم أنّ في القضيّة احتمالَ الخلود في النار ؟! فيجب دفْعُ هذا الضررِ المحتمَل عقلاً، قطعاً، وذلك بالإحتياط والعملِ بما يُعلم معه رضا الله سبحانه وتعالى .

  خاصّةً وأنه كان يصف نفس الموضوعات بالوجوب أو الحرمة، فكان يقول بحرمة الخمر، لا بحرمة مقطوع الخمريّة، ممّا يستوجب ترك ما نحتمل خمريته، حِرْصاً على الملاكات الواقعية . هذا كلّ ما يمكن أن يقوله الشهيد السيد الصدر .

  أقول : ما ذُكِرَ لا يستوجب لزومَ الإحتياط، فإنّ أهميّة المحتمل قد تستوجب الإحتياط في بعض الاُمور الخارجية ـ كما لو احتملنا وجودَ سمّ في الطعام أو أسد في الغابة ـ لا في الأحكام الكليّة، فلو احتملتَ نجاسةَ الخمر مثلاً ولم يبيّن ذلك الشرعُ، وكان الشارع المقدّس قادراً على بيان ذلك بسهولة، والفرض أنّ دور الأنبياء والأوصياء هو تبليغ أحكام الله إلى الناس، والفَرْضُ أيضاً أنك بحثتَ كثيراً في مظانّ الوجود فلم تجد دليلاً على النجاسة فإنّ عقلك ـ من حيث إنك عاقل وفقيهٌ خبير ـ يحكم بجواز أن تُجري أصالةَ الطهارة قطعاً، ولا تعودُ تَحتمل الضررَ والخطر يوم القيامة، لأنّ لك أن تقول لمولانا (عليه السلام) في الآخرة بأن يا ربّ لو شئتَ لبلّغْتَ بمئات الروايات، لا برواية وروايتين، وقد كنتَ قادراً على ذلك، فلم يَصِلْنا شيءٌ، حتى مع تلف بعض الروايات أو الكثير منها، لو شئتَ أن تُوصل هذه الأحكام الفلانية لأوصلتَ قطعاً، وأنت العالِم بالغَيب أنّ أيّ الروايات ستصل وأيّها لن يَصِلَ، ولو بسبب قلّة رواياتها أو احتمال ضياع بعضها .. كلّ هذا دليل عقلي قطعي على عدم النجاسة أو على الأقلّ على جواز التمسّك بحكم العقل بأصالة الطهارة، ولذلك فنحن ندّعي بأنّ من يتمسّك بأصالة الطهارة والبراءة والحلّيّة العقليّة لا يستحقّ العقاب ولا اللوم قطعاً .