بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/02/16

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : بقية الكلام في تاريخ علم الاُصول

  تاريخ علم الاُصول :

   مَرّ عِلْمُ الاُصولِ بثلاثة عصور :

  (العصر الأوّل من سنة 329 ـ 436 هـ ق) : ...

  (العصر الثاني من سنة 436 ـ 985 هـ ق) : ...

  (العصر الثالث من سنة 985 هـ  ـ وإلى يومنا هذا ) :

 استمرّت مدرسة العَصْرِ الثاني إلى أن ظهر زلزالُ المدرسة الأخبارية سنة 985 هـ، حيث بدأ الأخْذُ والردّ بين المدرستين الاُصولية والأخبارية، وكَثُرَ الحديث يومها بلزوم كتابة أحاديث المعصومين (عليهم السلام)، فنهض العلماء في أوائل هذا العصر الثالثِ بكتابة المجاميع الروائية الكبيرة (البحار، الوسائل، الوافي، البرهان في تفسير القرآن ) .. وبدأ بذلك العصرُ الذهبي من عصور علم الاُصول والفقه والحديث .. وكان ظهور مدرسةِ الوحيد محمد باقر البهبهاني الذي يعبّرون عنه بـ مجدّد المذهب في القرن الثاني عشر[1] بارزاً في أوائل هذا العصر أيضاً، حيث نهض للردّ على المدرسة الأخباريّة، فتطوّر بذلك علمُ الاُصول وتنقّح على يديه وعلى أيدي تلامذته، وظهر في أوائل هذا العصر مذهبُ الإنسداد أيضاً، حتى أنّ نفس الوحيد البهبهاني وتلميذه المحقّق القمّي(هو من أهل شَفت من أعمال مدينة رشت من محافظة گيلان في شمال إيران، ولد حوالي عام 1152 هـ، وتوفّي في قم المقدّسة ودُفِن في مقبرتها الشهيرة المعروفة بـ شيخون) وتلميذه صاحب الرياض كانوا إنسداديين !! وذلك بعد التسالم عند الشيعة على عدم حجيّة الظنّ . وانهزم مذهب الإنسداد بعدما تبرهن بالأدلّة القطعية حجيّةُ خبر الثقة وحجيّة الظهور ..
   وكما قلنا كان السببُ في بزوغ هذا العصر الثالثِ الحركةَ الأخبارية سنة 985 هـ وكان رائدُها ومجدّدها المحدّث الشيخ أمين الاسترآبادي(توفي 1033 هـ) وظهرتْ بشكل خاص في كتابه "الفوائد المدنية" الذي وضع أصول ما فيه من الأفكار في المدينة المنورة، ثم دونها في مكة المكرمة وسَمّاه بـ‍ "الفوائد المدنية" في الرد على مَن قال بالإجتهاد والتقليد أي أتْباع الظن في نفس الأحكام . وهذا الكتاب يحوي أصولَ الفكر الأخباري بصورة منظمة وعلمية . ويُعَدُّ الأمين الاسترآبادي أبرزَ علماء هذه المدرسة ورائدَها . وهناك علماء آخرون بنفس الإتجاه كالشيخ حسين بن شهاب الدين الكركي العاملي(1076 هـ‍) والحر العاملي مؤلف وسائل الشيعة والفيض الكاشاني مؤلف الوافي، والشيخ يوسف مؤلف الحدائق الناضرة والسيد نعمة الله الجزائري والشيخ الميرزا محمد بن عبد النبيّ النيشابوري الأخباري ( 1233 هـ‍ ) وكان هذا الأخير شديداً في آرائه قاسياً في نقده للأصوليين .

   وقد اعتُبِرَتْ بدايةُ هذا العصر سنة 985 هـ لعدّة أسباب :

منها : زلزال المدرسة الأخبارية في الطائفة الشيعية في نفس تلك السنة، ممّا أثار العلماء الاُصوليين كثيراً، وبذلك تنقّح علم الاُصول بشكل غير مسبوق .

ومنها : ظهور مدرسة الإنسداديين، أيضاً في بداية العصر الثالث، خاصّةً على يد الوحيد البهبهاني وتلميذه المحقّق القمّي، ممّا زاد في كثرة الجدال والردّ والأخذ في مدى صحّة القول بالإنسداد، ممّا جعل علم الاُصول منقّحاً أجمل تنقيح .
ومنها : كتابة المجاميع الروائيّة الضخمة في أوائل هذا العصر الثالث أيضاً، ممّا أوجد الكثير من الكتب التي لم يكن قد كُشِفَ عنها الغِطاءُ وكثرت الروايات المتعارضة والأخبار الضعيفة والفروع الجديدة ممّا استدعى ضرورة التحقيق في المشاكل المستجدّة .. حتى وصل علم الاُصول إلى قمّة الجمال الفنّي .

   ولا شكّ أنّ عامِلَ رَدّةِ فِعْل الاُصوليين الذي أوجدَتْ سببَه الحركةُ الأخبارية، وبخاصة حين جَمَعَ المدرسةَ الأخبارية والمدرسةَ الأصولية مكانٌ واحِدُ ـ ككربلاء ـ هو الذي أدّى إلى شدة الإحتكاك وإلى تضاعف ردّات الفعل بحيث طَفَرَت المدرسةُ الاُصوليةُ إلى مرحلة غير مسبوقة .

   هذه الحركة الأخبارية لم تمتد في إيران كثيراً، وإنما تكرَّسَتْ وتوسَّعَتْ في البحرين، ثم انطلقت منها إلى كربلاء، وازدهرت هذه الحركة وانتعشت في كربلاء، ثم أخذت تنحسر بالتدريج بفعل المواجهة التي قام بها وصعَّدَها الوحيدُ البهبهاني في كربلاء ثم مِن بَعدِه تلامذتُه وتلامذتُهم في النجف الأشرف ..

   وانهزم الخط الأخباري في هذا العصر الثالث في أواخر القرن الرابع، وكان من أهمّ عوامل انهزامهم عاملان :

  الأوّل : عمَلُ الأخباريين بالروايات الضعيفة الغير حجّة شرعاً ولا عقلاً والذي يخالف الإحتياطَ قطعاً .

  والثاني : عامل المكان، فإنّ مدرسة الأستاذ الوحيد البهبهاني نشأت على مقربة من المركز الرئيسي للحوزة وهو النجف، فكان قُرْبُها المكاني هذا من المركز العلمي سبباً لاستمرارها ومواصلةِ وجودها عبر طبقات متعاقبة من الأساتذة والتلامذة، الأمر الذي جعل بإمكانها أن تضاعف خبرتها باستمرار وتضيف خبرة رجالاتها إلى خبرة السابقين لهم، حتى استطاعت أن تقفز بالعِلم قفزة كبيرة وتعطيه ملامح عصر جديد . وبهذا كانت مدرسة البهبهاني تمتاز عن مدرسة الأخباريين التي كانت تقوم هنا وهناك بعيداً عن المركز وتتلاشى بموت رائدها .
   ومن أكبر النِعَم على شيعة محمد وآل محمد أن ظهرت المدرسةُ الأخبارية، فإنها وإن كانت باطلة قطعاً ولكنها أثارت العلماءَ للدفاع عن المدرسة الاُصوليّة وأدلّةِ المسائل الاُصولية في كافّة الأبحاث، حتى تنقّحت وظهرت بأبهى صورها الإستدلالية .

   ونلاحظ زعماء هذا العصر الثالث والذين أوصلوه إلى القمّة في عصرنا هذا هم الأركان الأربعة : الشيخ الأنصاري(توفّي 1281 هـ) وبعده الميرزا النائيني والآقا ضياء الدين العراقي والسيد الخوئي رحمهم الله جميعاً وحشرنا معهم .

   ومِنَ الملفِتِ توجّهُ العلماء في أوائل العصر الثالث ـ ما بين سنة 1050 هـ إلى 1100 هـ ـ إلى جمْعِ أحاديث المعصومين (عليهم السلام)، فكَتَبَ الفيضُ محسن القاساني(توفي 1091 هـ)‍ كتابَ الوافي المشتمل على الأحاديث التي جاءت في الكتب الأربعة، ثم جاء بعده الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي(توفي 1104 هـ) فكتب كتاب الوسائل الذي جمع فيه عدداً كبيراً من الروايات المرتبطة بالفقه، ثم كتب بعدهما السيد هاشم البحراني(توفي 1107 ه‍) كتاب البرهان في تفسير القرآن، حيث جَمَعَ فيه المأثورَ من الروايات في تفسير القرآن، وأخيراً كتب العلاّمة الشيخ محمد باقر المجلسي(توفي 1110 ه‍) كتاب البحار وهو أكبر موسوعة للحديث عند الشيعة، ولك أن تقول كانوا يكتبون في نفس الوقت تقريباً .

   والسبب في التوجّه إلى جمع الأحاديث بهذا الشكل في أوائل العصر الثالث هي ثلاثة اُمور :

  الأوّل : زلزال الأخباريين، حيث كثر الكلام في أوائل العصر الثالث ـ أي من سنة 985 هـ حيث ظهرت المدرسة الأخبارية ـ عن لزوم الرجوع إلى الأحاديث وعدم جواز الإجتهاد وإعمال العقل في الإستنباط،

  والثاني : راحة الشيعة في ظلّ الحكم الصفوي الشيعي، فقد قام النظام الصفوي بإسم الدعوة إلى التشيع، واستفاد من هذه الدعوة واكتسب قوته من ذلك، وانتشر التشيُّعُ في إيران بسبب هذا النظام، واستقدم النظامُ فقهاءَ الشيعة من جبل عامل لنشر التشيع وتفقيهِ أجهزة الدولة وحركة المجتمع العامة ...

  والثالث : اكتشاف كتب عديدة في الروايات خلال القرون التي أعقبت الشيخ الطوسي لم تكن مندرجة في كتب الحديث الأربعة عند الشيعة، ولهذا كان لا بد لهذه الكتب المتفرقة من موسوعات جديدة تضمها وتستوعب كل ما كَشَفَ عنه الفحصُ والبحثُ العلمي من روايات وكتب أحاديث، هذه الموسوعاتُ الكبيرة كانت نعمةَ الله على شيعة محمد وآل محمد، وكأنّ المعصومين (عليهم السلام) قد رجعوا إلى الظهور مرّة ثانية .


[1] وُلِدَ في مدينة أصفهان سنة 1117، عاش في النجف الأشرف سنين عديدة ثم انتقل إلى كربلاء حيث توفّي فيها سنة 1205 أو 1206 هـ ق.