بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/02/04

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : حجيّة المداليل الإلتزامية للأمارات دون الاُصول

   المقدمة الثالثة : حجيّة المداليل الإلتزامية للأمارات دون الاُصول

   لاحظتَ سابقاً ـ صفحة 53 وفي بحث حجيّة خبر الواحد من خلال آية النبأ ـ أنّ المولى تعالى حينما أعطَى الحجيّةَ لخبر العادل تراه اعتبر خبره عِلْماً وكاشفاً تعبّداً ـ دون الأصل العملي ـ . وهذا يعني أنّ مداليله الإلتزامية هي أيضاً علم، وذلك بسبب تنزيل خبر العادل منزلة العِلم، والتعليل لهذا التنزيل بكونه ليس جهالةً، هذا التعليل العقلائي يفهم منه العرف بأنّ معناه هو تنزيل احتمال الإصابة في خبر العادل ـ بكِلا مدلولَيه المطابقي والإلتزامي ـ منزلةَ أنك عالمٌ به وأنه ليس جهالةً .

   وإنما نقول بأنّ الباري تعالى نزّل الأمارةَ منزلةَ العِلْم ـ مع أنه لا يُشترَطُ في الأمارة حصولُ الظنّ بصدقها ـ لأنّ أغلب الأمارات ـ كمجموع ـ تصادف الأحكام الواقعية، لا أنّ كلّ أمارة أمارة ـ أي بنحو العموم الإستغراقي ـ يشترط فيها حصول الظنّ بموافقة الواقع .

   ولاحظتَ أيضاً تنزيلَ مؤدّى الخبر وظهورِه منزلةَ الواقع في صحيحة أحمد بن إسحق أيضاً (العَمْرِيّ ثقتي، فما أدّى إليك عنّي فعَنّي يؤدّي، وما قال لك عنّي فعنّي يقول، فاسمع له وأطِعْ، فإنّه الثّقة المأمون)[1] و ( العَمْري وابنُه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك عنّي فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما، فإنهما الثّقتان المأمونان )[2]، ومثلُها في تنزيل مؤدّى الخبر وظهوره منزلةَ الواقعِ التوقيعُ الشريف ( فإنه لا عُذْرَ لأحدٍ مِن موالينا في التشكيك فيما يُؤَدّيه (يرويه ـ خ) عَنّا ثِقاتُنا)[3] فإنك ترى أنها تنزّل احتمالَ إصابةِ الواقع منزلةَ اليقين بإصابته . وليس مِن ضائرٍ أنْ ينزّل الشارع المقدّسُ احتمالك إصابة خبر العادل للواقع منزلةَ العِلم ـ كما في آية النبأ ـ وبنفس الوقت ينزّل مؤدّى خبره منزلةَ الواقع ـ كما في الروايتين السابقتين ـ .

   من كلّ هذا يفهم الإنسان أنّ المولى تعالى أعطى الحجيّة لخبر الثقة بكلا مدلوليه، المطابقي والإلتزامي، وذلك لأنه إنما أعطى الحجيّة بملاك غالبية المطابقة للواقع عند المولى ـ لا عند العبد ـ هذا الملاك موجود في المدلولين المنطوقي والمفهومي بلا أيّ ميزة بينهما، وموجود في المدلولَين المطابقي والإلتزامي[4] ـ الذي يعبّرون عنه بمثبتات الأمارة ـ، والملاك هو ما عرفتَه من أغلبيّة مصادفة مؤدّى الأمارةِ للواقع، وموافقةُ الواقعِ غالباً، موجودٌ في كل الخبر، بمدلولَيه المطابقي والإلتزامي، فإذا أخبرك الثقة بأنه رأى شياطين داعش لعنهم الله قد قطعوا رأسَ فلان وأنت تعلم أنّ خبر الثقة في الموضوعات حجّة شرعاً، فإنك ستعتبر، ولو تعبّداً، أنّ اللازم ـ وهو أنه قد قُتِل ـ قد حصل، أي أنك تفهم من إعطاء الحجيّة لخبر الثقة في آية النبأ والروايات تفهم منه إعطاءَه الحجيّةَ بكلا مدلولَيه، المطابقي والإلتزامي، وهكذا يفهم كلّ الناس . ولذلك ترى كلّ العلماء يقولون بحجيّة مثبتات الأمارات ـ دون الاُصول العمليّة ـ .

   فإن قلتَ : بل الأمْرُ كذلك في بعض الأصول العملية أيضاً كالإستصحاب، فإنّ الشارعَ المقدّسَ اعتبر المستصحِبَ عالماً تعبّداً ببقاء الحالة السابقة لقوله ( وإلا فإنه على يقين من وضوئه)في صحيحة زرارة المعروفة، يقول الإمام (عليه السلام) (أنت على يقين مِن أنك قد توضّأتَ، إذن إبْقَ على يقينك، طبعاً تعبّداً، لأنك شاكّ وجداناً، واعتبرْ نفسَك متيقّناً ببقاء الحالة السابقة)، وكما يوجد في خبر العادل كشف فكذلك يوجد في الإستصحاب كشف، حتى وإن قلنا إنّ الكشف في خبر العادل أقوى ـ غالباً ـ من قوّة الكشف في الإستصحاب، فلماذا لا نقول بأنّ الإستصحاب أيضاً هو أمارة وأنّ فيه تنزيلَ المستصحِبِ منزلةَ العالِم ؟! وأنه لا فرق بين الأمارة وبين الإستصحاب من ناحية الأمارية والكاشفية ومن ناحية التنزيل ؟!

   قلتُ : الفرقُ هو أنّ خبر العادلِ، غالباً يصيب الواقع بنظر المولى، فتنزيلُ خبرِه منزلةَ العِلْم مطابقةً والتزاماً شيءٌ متوقّعٌ ومقبولٌ عقلائياً، هذا ثبوتاً، وأمّا إثباتاً فآيةُ النبأ وصحيحة أحمد بن اسحق والتوقيع الشريف السالف الذكر واضحةٌ في ذلك .
   لكنْ في الإستصحاب ليس الأمر هكذا، لكون الكثير من حالات الإستصحاب الموضوعي ـ ولا نقول بجريان الإستصحاب في الشبهات الحكمية ـ يظنّ فيها الإنسانُ بتبدّل وتغيّر الحالة السابقة، مع استبعاد أن يكون السبب ـ في عِلْمِ اللهِ الغَيبي ـ هو غالبية بقاء الحالة السابقة واقعاً، ولا يلزم التعبّد بالبقاء على الحالة السابقة التعبّد بنبات لحية ولدك في المثال المعروف، فلا وجْهَ أصلاً لبناء العقلاء على نبات لحية الولد الضائع، كما لا وجه لاعتبار الإمام إياك عالماً ببقاء الحالة السابقة، هذا ثبوتاً .
   أمّا إثباتاً ـ أي من حيث دَلالة الرواية ـ فالأمْرُ كذلك أيضاً، فإنّ الإمام (عليه السلام) لم يَعتبرْك عالماً أصلاً، وإنما قال (إبْقَ على يقينك السابق) فقط لا غير، ولم يَزِدْ على هذا، ولم ينزّلك منزلةَ العالِمِ أصلاً . لاحِظْ قولَ الإمام (عليه السلام)  مرّةً ثانية ( .. لا، حتى يستيقن أنه قد نام، حتى يجيئ من ذلك أمرٌ بَيِّنٌ، وإلا فإنه على يقين من وضوئه، ولا تنقضِ اليقينَ أبداً بالشك، وإنما تنقضه بيقين آخر )  فقد ذَكَرَ الإمامُ العلّةَ في الإستصحاب، وهو اليقين السابق، ولم ينزّلك منزلةَ العالِمِ أصلاً . على أنه لا يفهم العرف إعطاء الحجيّة للمدلول الإلتزامي في الإستصحاب، إنما يفهم العرفُ من أدلّة الإستصحابِ إعتبارَ الشارعِ المقدّس بقاءَ الحالةِ السابقة فقط، لا نبات اللحية أيضاً في المثال المشهور .

   مِن كلّ ما قرأتَ تعرفُ أموراً ثلاثة :

1 ـ إنّ روح الفرق بين حجيّة الأمارات وحجيّة الاُصول العملية هو مطابقة الأمارات ـ من حيث المجموع ـ غالباً للأحكام الواقعية، ولذلك اعتَبَر الشارعُ المقدّسُ كلا مدلولَيها ـ المطابقي والإلتزامي ـ حجّة، وقالوا إنّ العِلم بشيء يستلزم العِلمَ بلوازمه، وبعضها نزّلها الشارع المقدّس منزلة العلم، أو نزّل مؤدّاها منزلة الواقع، وأمّا الاُصول العمليّة فالنظر فيها شرعاً إلى مجرّد الجري العملي والبناء العملي بلحاظ مدلولها المطابقي فقط، لا أكثر، ولذلك قالوا ـ وهو الحقّ ـ إنّ الإستصحاب هو أصل عملي وليس أمارة ـ كما قد يُتوهّم ـ ولذلك لا تكون مثبتاتُه حجّة . وبالغالب ترى ألسنةَ أدلّةِ حجيّة الأمارات وأدلّة الاُصول تلحظ ما ذكرناه .

   وبعد هذا لا يصغَى لما قاله السيد الخوئي من أنّ (العِلم التعبّدي بشيء لا يستلزم العِلم التعبّدي بلوازمه، وإن هذا الإستلزام إنما يكون فقط في العلم الوجداني، أمّا في التعبّديات فيجب أن ننظر إلى مدى إطلاق كلام المعصومين (عليهم السلام)، إذن لا فرق من هذه الناحية بين الأمارات والاُصول)[5] (إنتهى ملخّصاً) .
   وفاتَه أنّ الملاك في حجيّة الأمارات هو غالبية مصادفتها للواقع، وهو موجود في كلا المدلولين المطابقي والإلتزامي، ولذلك ترى كلّ العرف يأخذون بالمدلول الإلتزامي في الأمارات، دون الاُصول، لأنّ المنظور في الاُصول، فقط إلى بيان الوظيفة العملية والجري العملي، لا إلى إثبات نبات لحية الولد الذي ضاع حينما كان صغيراً ونحتمل بقاءه حيّاً، وقد شرحنا هذا المطلب مطوّلاً صفحة 53 .

2 ـ وتعرف أيضاً من خلال ما ذكرناه أنّ الأمارات الحجّة تكون واردةً على الاُصول العملية، لأنها تلغي موضوعها، خاصّةً على قولنا بأنّ المولى تعالى اعتبر خبرَ الثقةِ عِلْماً ـ كما بيّنا ذلك قبل قليل ـ فلم يَعُدْ هناك شكٌّ ـ طبعاً تعبّداً ـ لتجري الاُصول العملية .  

3 ـ يجب أن نطلق إسم (الأمارة الحجّة) على الدليل الذي يصيب الواقع غالباً في نظر المولى، أو قل على الأمارة التي شرّعها الله تعالى لأنها تصيب الواقع غالباً، فتكون بالتالي مثبتاتُها حجّة، وذلك للتساوي الواضح في كلا المدلولَين المطابقي والإلتزامي في الخبر .

   وأن نُطلقَ إسمَ (الاُصول العملية) على الدليل الذي يكون المنظورُ فيه إلى مجرّد إعطاء أصل عملي يعمل الإنسان بمقتضاه إن جهل الحكم الواقعي وجهل بوجود أمارة حجّة، وبالتالي لا تكون مثبتات الاُصول حجّة، لأنّ التعبّد ناظر إلى مجرّد إعطاء وظيفة عملية لا أكثر، والشارع المقدّس لا يتعبّدنا بغير الآثار الشرعية، ونباتُ لحية الولد الضائع في المثال المعروف ليس أثراً شرعياً، وإنما هو أثر عاديّ، فليس من شأن المولى تعالى أن يتعبّدنا بثبوته، بخلاف ما لو قال لك الثقةُ ( قطعوا رأسَ زيد) فإنك تفهم من خبره أنه قُتِل .

المقدمة الرابعة : الفرق بين الأصول العقليّة وغيرها
   إذا حَكَمَ العقلُ بوجوب الإحتياط أو بعدم وجوبه في حال عدم البيان فمورد هذا الحكم العقلي هو الجهل بالأصل العملي الشرعي، فإذا وَرَدَنا أصلٌ شرعي بالبراءة مثلاً انتفى كلامنا بوجوب الإحتياط العقلي أو بعدم وجوبه، وبهذا تعرف أنّ الاُصول الشرعية واردةٌ على الاُصول العملية العقلية، لأنها تلغي موضوعها .

المقدمة الخامسة : الفرق بين الأصول المحرزة والاُصول التنزيلية وغيرها
لا شكّ أنّ الأصول المحرزة هي التي فيها نحو كاشفية كالإستصحاب .

   وأنّ الأصول التنزيلية هي الاُصول التي ينزّل فيها الموضوع منزلة الواقع، كما في أصالة الطهارة، لكن بلحاظ الجري العملي، فهي من هذه الجهة شبيهة بالأمارة التي فيها تنزيل.


[1] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج18، ص99، أبواب صفات القاضي، ب14، ح4، ط الاسلامية.
[2] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج18، ص99، أبواب صفات القاضي، ب14، ح4، ط الاسلامية.
[3] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج1، ص27، أبواب مقدّمة العبادات، ب14، ح22، ط الاسلامية.
[4] لا شكّ أن القارئ المتخصّص بهذه المادّة يعرف الفرق بين المفهوم اللفظي والمدلول الإلتزامي، ولكننا مع ذلك نذكّرهم فنقول : المفهوم هو ما يفهم من نفس اللفظ، فقولك "إن نجح زيد فاَكرمه" أو "إنما يجب عليك إكرام خصوص الناجح" مفهومه "إن لم ينجح زيد فلا يجب إكرامه" وهكذا ... ولذلك أدخلوه في المباحث اللفظية، وأمّا المدلول الإلتزامي فهو اللازم العقلي أو العادي للكلام، كـ (نبات لحية ولدك) في المثال المشهور واستصحاب بقائه حيّاً، فـ (نبات لحيته) لازم عادي لبقائه حيّاً إلى أن صار كبيرَ السنّ، وكما في مثال قول الثقة (قَطعوا رأسَ زيد) فإنّ لازمه العادي أنه قد قُتِل، ولذلك هذا يدخل في الأحكام العقلية ـ لا اللفظية.
[5]  مباحث الاصول، السيد محمد باقر الصدر، ج3، ص38.