بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/02/02

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : اوائل الاُصول العمليّة .

  تمهيد في ذِكْرِ مقدّمات :
1 ـ نظرة تاريخية إلى الأصول العمليّة
2 ـ الفرق بين الأمارات والأصول
3 ـ حجيّة المداليل الإلتزامية للأمارات دون الاُصول


المقدمة الثانية : الحكم الظاهري وأصنافُه وخصائصها


   لا شكّ أنك تعرف الحكم الظاهري وأنه الحكم الذي جعله الله تعالى في موارد الجهل بالحكم الواقعي . ففي حالة الجهل بالحكم الواقعي جَعَلَ المولى تعالى ـ في المرحلة الاُولى ـ طريقاً لنا، نتّبعُهُ، لكي نصادفَ أغلبَ الأحكام الواقعية، وهو بعض الأمارات ـ كخبر الثقة الذي ينقل قول المعصوم أو فعله أو سكوته وكظهور خبر الثقة في بعض المعاني ـ دون البعض الآخر من الأمارات ـ كالشهرة ـ كما عرفنا مفصّلاً في الأبحاث السابقة .

   وفي المرحلة الثانية ـ أي مع عدم وجود أمارة حجّة ـ وَضَعَ لنا اُصولاً عمليّة نَرجِعُ إليها لبعض أسباب عند الباري سبحانه وتعالى، وهي ما يعبّر عنها السيد الشهيد الصدر بـ أهميّة المحتمل(كالتسهيل على الناس) لأنّ تشريع براءة الذمّة مثلاً ـ في مقام الجهل بالحكم الواقعي وعدم وجود أمارة حجّة ـ يكون للتسهيل والتيسير على الناس، وهو أهمّ بنظر أرحم الراحمين من الإحتياط، لأنّ الإحتياط الدائم سوف يوقع المكلّفين في الحرج والضرر الشديدين .

   والحكم الظاهري الأوّل ـ الذي هو حجيّة بعض الأمارات ـ شرّعه المولى تعالى لـ (قوّة الإحتمال) أي لقوة احتمال إصابة الأمارات الحجّة للواقع، لاحِظْ صحيحةَ أحمد بن إسحق التالية فإنّ الإمام (عليه السلام) يريد أن يقول بأنّ العَمْري لأنه ثقة فقولُه إذَنْ ـ غالباً جداً ـ يصيب الواقع، ولذلك جعله الباري تعالى حجّة . لكن ذلك بلحاظ مجموع أخبار الثقات في العالَم، وفي مجالَي الشبهات الحكمية والشبهات الموضوعية، لا بلحاظ كلّ خبر خبر، إذ في هكذا حالة يجب أن نقول بلزوم أن يورث خبر الثقة عندنا الظنّ بصدقه، وليس الأمر في آية النبأ والروايات هكذا، ولذلك لم نشترط حصولَ الظنّ بصدقه، ولذلك أيضاً نقول بأنّ غالبية المصادفة للواقع إنما هو بلحاظ مجموع الروايات، لا كلّ رواية رواية .
   والحكمُ الظاهري الثاني ـ التي هي الأصول العملية ـ شرّعه المولى تعالى لـ (أهميّة المحتمل) أي لأهميّة تشريع استصحاب الحالة السابقة ـ مثلاً ـ من تشريع أصلٍ عملي آخر في هكذا حالة، لأنّ البناء على بقاء الحالة السابقة ـ لا الإحتياط مثلاً ـ هو الأنسبُ بالفطرة البشرية .

   ولا شكّ ـ عقليّاً ـ أنّ المولى تعالى قبل أن يشرّع هذا أو ذاك يعمل حسابات الكسر والإنكسار في مرحلة الملاكات، فشرّعَ في دائرة الأمارات الحجّة ـ كالظهورات وأخبار الثقات ـ الحجيّةَ، وشَرّعَ في دائرة الأمارات الضعيفة قاعدةَ البراءة، ذلك لأنّ احتمال إصابة الواقع في دائرة أخبار الثقات أقوى من احتمال عدم الإصابة، وكذا الأمر في سائر الأمارات الحجّة، والتي يعبّرون عنها ـ بإختصار ـ بـ الظهورات وسوق المسلمين واليد وقاعدة الصحّة في عَمَلِ الغَير وقاعدتَي الفراغ والتجاوز ونحو ذلك، أمّا في الأمارات الغير حجّة ـ كالأخبار الضعيفة والشهرات والقياس ـ فهذا غير صحيح، أي أنّ هذه الأمارات الضعيفة لن تصادف الواقعَ غالباً، فرأى المولى تعالى في هكذا حالات أنّ تشريع البراءة للتسهيل على الناس أهمّ من إعطاء الحجيّة لهذه الأمارات الضعيفة التي لن تصادف الواقعَ غالباً، والتسهيلُ على الناس أهمّ من إحراجهم بتشريع الإحتياط، فشَرّعَ فيها أصالةَ البراءة، وهذا ما يُعَبّر عنه سيّدُنا الشهيد بـ أهميّة المحتمل الذي هو التسهيلُ على الناس .

   وليس لنا نحن العبيد أن نَعرف كلّ نتائج الكسر والإنكسار التي يعرفها الباري تعالى فقد يكون عند الباري تعالى بعضُ الموارد يَرَى فيها الإحتياطَ ونحن نعتقد أنها مورد للبراءة والحلّيّة، وقد يكون المولى تعالى يرى فيها البراءة ونحن نعتقد أنه يحكم فيها بالإحتياط، كما في مثال علمنا بوجود إناء متنجّس بين ألف إناء موجود بين أيدينا، فهل في شرع الله تعالى لَنا أن نَشْرَبَ الكلّ لأهميّة مصلحة التسهيل على الناس على مفسدة النجاسة ؟ أو ليس لنا أن نشرب شيئاً منها، وذلك لأهميّة مراعاة جانب النجاسة على مراعاة جانب التسهيل على الناس، أي لرجحان الغرض اللزومي على الغرض الترخيصي، فاَوجب الإحتياطَ ؟ أو لنا أن نشرب بعضها دون الكلّ ؟ قد تعتقد أنت ببعض المحتملات المذكورة ويكون عند الله جلّ وعلا المحتملُ الآخرُ هو الأرجح . وأيضاً قد يجري الإستصحاب في الشبهات الحكمية واقعاً وأنت تعتقد أنه لا يجري فيها، وقد لا يجري الإستصحاب فيها واقعاً وأنت تعتقد أنه يجري فيها .. ولذلك سمّي العَدْلِيّة بـ المخطّئة، لأنهم يعلمون أنهم قد يخطِؤون الواقع .

المقدمة الثالثة : حجيّة المداليل الإلتزامية للأمارات دون الاُصول
   لاحظتَ سابقاً ـ صفحة 53 وفي بحث حجيّة خبر الواحد من خلال آية النبأ ـ أنّ المولى تعالى حينما أعطَى الحجيّةَ لخبر العادل تراه اعتبر خبره عِلْماً وكاشفاً تعبّداً ـ دون الأصل العملي ـ .
   ولاحظتَ أيضاً تنزيلَ مؤدّى الخبر وظهورِه منزلةَ الواقع في صحيحة أحمد بن إسحق أيضاً ( العَمْرِيّ ثقتي، فما أدّى إليك عنّي فعَنّي يؤدّي، وما قال لك عنّي فعنّي يقول، فاسمع له وأطِعْ، فإنّه الثّقة المأمون ) و ( العَمْري وابنُه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك عنّي فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما، فإنهما الثّقتان المأمونان )[1]، ومثلُها في تنزيل مؤدّى الخبر وظهوره منزلةَ الواقعِ التوقيعُ الشريف ( فإنه لا عُذْرَ لأحدٍ مِن موالينا في التشكيك فيما يُؤَدّيه (يرويه ـ خ) عَنّا ثِقاتُنا )[2] فإنك ترى أنها تنزّل احتمالَ إصابةِ الواقع منزلةَ اليقين بإصابته . وليس مِن ضائرٍ أنْ ينزّل الشارع المقدّسُ احتمالك إصابة خبر العادل للواقع منزلةَ العِلم ـ كما في آية النبأ ـ وبنفس الوقت ينزّل مؤدّى خبره منزلةَ الواقع ـ كما في الروايتين السابقتين ـ .
   من كلّ هذا يفهم الإنسان أنّ المولى تعالى أعطى الحجيّة لخبر الثقة بكلا مدلوليه، المطابقي والإلتزامي، وذلك لأنه إنما أعطى الحجيّة بملاك غالبية المطابقة للواقع عند المولى ـ لا عند العبد ـ هذا الملاك موجود في المدلولين المنطوقي والمفهومي بلا أيّ ميزة بينهما، وموجود في المدلولَين المطابقي والإلتزامي[3] ـ الذي يعبّرون عنه بمثبتات الأمارة ـ، والملاك هو ما عرفتَه من أغلبيّة مصادفة مؤدّى الأمارةِ للواقع، وموافقةُ الواقعِ غالباً، موجودٌ في كل الخبر، بمدلولَيه المطابقي والإلتزامي، فإذا أخبرك الثقة بأنه رأى شياطين داعش لعنهم الله قد قطعوا رأسَ فلان وأنت تعلم أنّ خبر الثقة في الموضوعات حجّة شرعاً، فإنك ستعتبر، ولو تعبّداً، أنّ اللازم ـ وهو أنه قد قُتِل ـ قد حصل، أي أنك تفهم من إعطاء الحجيّة لخبر الثقة في آية النبأ والروايات تفهم منه إعطاءَه الحجيّةَ بكلا مدلولَيه، المطابقي والإلتزامي، وهكذا يفهم كلّ الناس . ولذلك ترى كلّ العلماء يقولون بحجيّة مثبتات الأمارات ـ دون الاُصول العمليّة ـ .

   فإن قلتَ : بل الأمْرُ كذلك في بعض الأصول العملية أيضاً كالإستصحاب، فإنّ الشارعَ المقدّسَ اعتبر المستصحِبَ عالماً تعبّداً ببقاء الحالة السابقة لقوله ( وإلا فإنه على يقين من وضوئه ) في صحيحة زرارة المعروفة، يقول الإمام (عليه السلام) ( أنت على يقين مِن أنك قد توضّأتَ، إذن إبْقَ على يقينك، طبعاً تعبّداً، لأنك شاكّ وجداناً، واعتبرْ نفسَك متيقّناً ببقاء الحالة السابقة)، وكما يوجد في خبر العادل كشف فكذلك يوجد في الإستصحاب كشف، حتى وإن قلنا إنّ الكشف في خبر العادل أقوى ـ غالباً ـ من قوّة الكشف في الإستصحاب، فلماذا لا نقول بأنّ الإستصحاب أيضاً هو أمارة وأنّ فيه تنزيلَ المستصحِبِ منزلةَ العالِم ؟! وأنه لا فرق بين الأمارة وبين الإستصحاب من ناحية الأمارية والكاشفية ومن ناحية التنزيل ؟!
  قلتُ : الفرقُ هو أنّ خبر العادلِ، غالباً يصيب الواقع بنظر المولى، فتنزيلُ خبرِه منزلةَ العِلْم مطابقةً والتزاماً شيءٌ متوقّعٌ ومقبولٌ عقلائياً، هذا ثبوتاً، وأمّا إثباتاً فآيةُ النبأ وصحيحة أحمد بن اسحق والتوقيع الشريف السالف الذكر واضحةٌ في ذلك .

   لكنْ في الإستصحاب ليس الأمر هكذا، لكون الكثير من حالات الإستصحاب الموضوعي ـ ولا نقول بجريان الإستصحاب في الشبهات الحكمية ـ يظنّ فيها الإنسانُ بتبدّل وتغيّر الحالة السابقة، مع استبعاد أن يكون السبب ـ في عِلْمِ اللهِ الغَيبي ـ هو غالبية بقاء الحالة السابقة واقعاً، فلا وجْهَ أصلاً لبناء العقلاء على نبات لحية ولدك في المثال المعروف، كما لا وجه لاعتبار الإمام إياك عالماً ببقاء الحالة السابقة، هذا ثبوتاً .

   أمّا إثباتاً ـ أي من حيث دَلالة الرواية ـ فالأمْرُ كذلك أيضاً، فإنّ الإمام (عليه السلام)لم يَعتبرْك عالماً أصلاً، وإنما قال "إبْقَ على يقينك السابق" فقط لا غير، ولم يَزِدْ على هذا، ولم ينزّلك منزلةَ العالِمِ أصلاً . لاحِظْ قولَ الإمام (عليه السلام) مرّةً ثانية ( .. لا، حتى يستيقن أنه قد نام، حتى يجيئ من ذلك أمرٌ بَيِّنٌ، وإلا فإنه على يقين من وضوئه، ولا تنقضِ اليقينَ أبداً بالشك، وإنما تنقضه بيقين آخر ) فقد ذَكَرَ الإمامُ العلّةَ في الإستصحاب، وهو اليقين السابق، ولم ينزّلك منزلةَ العالِمِ أصلاً . على أنه لا يفهم العرف إعطاء الحجيّة للمدلول الإلتزامي في الإستصحاب، إنما يفهم العرفُ من أدلّة الإستصحابِ إعتبارَ الشارعِ المقدّس بقاءَ الحالةِ السابقة فقط، لا نبات اللحية أيضاً في المثال المشهور .


[1] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج18، ص99، أبواب صفات القاضي، ب14، ح4، ط الاسلامية.
[2] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج1، ص27، أبواب مقدّمة العبادات، ب14، ح22، ط الاسلامية.
[3] لا شكّ أن القارئ المتخصّص بهذه المادّة يعرف الفرق بين المفهوم اللفظي والمدلول الإلتزامي، ولكننا مع ذلك نذكّرهم فنقول : المفهوم هو ما يفهم من نفس اللفظ، فقولك "إن نجح زيد فاَكرمه" أو "إنما يجب عليك إكرام خصوص الناجح" مفهومه "إن لم ينجح زيد فلا يجب إكرامه" وهكذا ... ولذلك أدخلوه في المباحث اللفظية، وأمّا المدلول الإلتزامي فهو اللازم العقلي أو العادي للكلام، كـ (نبات لحية ولدك) في المثال المشهور واستصحاب بقائه حيّاً، فـ (نبات لحيته) لازم عادي لبقائه حيّاً إلى أن صار كبيرَ السنّ، وكما في مثال قول الثقة (قَطعوا رأسَ زيد) فإنّ لازمه العادي أنه قد قُتِل، ولذلك هذا يدخل في الأحكام العقلية ـ لا اللفظية.