بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/01/24

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: نظرةٌ في معنى الوثاقة
ذَكَرْنا في تعليقتنا على الحلقة الثالثة هذا البحثَ بالتفصيل، ونعيده هنا ـ بتنقيح أكثر ـ فنقول :
   قد يتوهّم البعضُ أنّ الوثاقة تعني العصمة عن الكذب دائماً وفي كلّ الحالات !
   هذا الإعتقاد فيه مبالغة واضحة ـ طبعاً كلّ كلامنا في هذا البحث لا يُقصَدُ به المعصومون (عليهم السلام) ـ فإنّ الوثاقةَ أمْرٌ نفساني ذو مراتب تختلف شدّةً وضعفاً ـ كسائر القوى والملكات النفسانية، كالإيمان والعدالة والشهوة والغضب ـ فقد تكون وثاقة شخص واصلةً إلى أقرب حدّ من العصمة، كما في وثاقة النوّاب الأربعة رضي الله عنهم، وقد يكون الكثير من رواتنا الكبار وعلمائنا الأعلام قريبين إلى هذا الحدّ العظيم، وترى علماء الرجال يصفون بعضهم بأنه "ثقة ثقة" وبعضهم بأنه "ثقة" ثم يصيرون يتنزّلون في عبائرهم فيقولون "صالح" أو "كان رجلاً صالحاً" أو "صالح الرواية" حتى يصير بعضُهم محلّ شكّ باعتقادهم، فلا يوثّقونهم، وإنما يمدحونهم بقولهم مثلاً : "كان خيّراً" أو "خيّر فاضل" أو "من أجلاّء الشيعة" أو "من أجلّة أصحاب الحديث" أو "عظيم القدر عظيم المنزلة" أو "شيخ العصابة في زمنه ووجههم" أو "له أصل" مع أنهم كانوا بصدد التوثيق، ومع ذلك لم يوثّقوا هؤلاء , وإنما اكتفوا بهكذا عبارات !! المهم هو أنّ الرجاليين ملتفتون إلى التشكيك في الوثاقة والعدالة، فوصوفوهم بعبارات تصفهم بحسب اعتقادهم .
   وأيضاً ترى شهادة المتّهمين غير حجّة، حتى ولو كانوا ثقات في أنفسهم، قال تعالى﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا [1]، والشَنَآَن هو البُغْض، فكأنّ الله جلّ وعلا يقول "ولا يَحْمِلَنّكُمْ بُغْضُكم لبعض الناس أن تعتدوا عليهم ولا تعدلوا فيهم، إعدلوا فيهم وقولوا الحقّ، حتى ولو كان قول الحقّ مرّاً كما في مورد العداوات"، وهي من أجمل المواعظ الأخلاقية، إذن قد ينحرف المؤمن عن الحقّ والعدل في بعض الموارد كما في موارد العداوة والبغضاء .
   وفي بعض الروايات السابقة كمقبولة عمر بن حنظلة ( الحكمُ ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث .. )[2]، إذن العدالةُ ذو مراتب، ويظهر هذا الأمر أيضاً من خلال قول الإمام الحسين (عليه السلام)للفرزدق في طريقه إلى كربلاء ( الناس عبيد المال والدينُ لغْوٌ على ألسنتهم، يحوطونه ما درت به معايشهم، فإذا محصوا للإبتلاء قَلَّ الديّانون)[3] إذَنْ الديّانون يقلّون بحسب مصالحهم، فالدِينُ إذَنْ أمْرٌ مُشَكّك . ومَن يَعْرِفُ السوقَ والباعَةَ يَعْرِفُ مدى التفاوت في الوثاقة، يظهر ذلك بوضوح عند التعارض مع المصلحة الخاصّة، فح ترى الكثيرَ من الباعة المؤمنين المتديّنين الذين لا يكذبون إذا رووا روايةَ أو كتبوا كتاباً، تراهم يكذبون في تجارتهم، فيدّعون أنهم اشتروا البضاعة الفلانية بكذا، وأنها كلّفتهم كذا، مع أنّ الواقع يكون خلاف ذلك .. كلّ ذلك تقديماً لمصالحهم الخاصّة على حرمة الكذب ..
* ثم اعلم أنّ التضعيف والغُلُوّ غيرُ التكذيب، فقد يكون شخصٌ ضعيفاً أو مغالياً ولكنه صادق في نفسه، كما قال الشيخ الطوسي في محمد بن خالد البرقي، قال "ثقة في نفسه ضعيف في الحديث" أي كان غير فقيه، يجمع بين الغث والسمين، يروي المراسيل، ولا يبالي عمّن روى ...
   وكذلك الغُلُوّ، فالغُلُوّ مرتَبَةٌ عقائدية غير مقبولة عند المقيّم، وهو الإفراط في نسبة بعض الصفات العالية للنبيّ أو للأئمّة (عليهم السلام) الغير مقبولة عند المقيّم، أو قُلْ هو تجاوز الحدّ في صفات الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، هذا هو المعروف من هذا المصطلح .
   هذا، ووسّع بعضُهم مصطلحَ (الغلوّ) فقالوا : هو الإفراط أو التفريط في نسبة بعض الصفات إلى بعض الأشياء، فقال الزمخشري : "غَلَتِ اليهود في حطّ المسيح عن منزلته حيث جعلته مولوداً لغير رُشْدَة، وغلت النصارى في رفعه عن مقداره حيث جعلوه إلهاً"، وروى الطبرسي عن الحسن البصري أنه قال "إنّ النصارى غلت في المسيح، فقالت هو ابن الله، وبعضهم قال هو الله، وبعضهم قال هو ثالث ثلاثة : الأب والإبن وروح القدس، واليهود غلت فيه حتى قالوا ولد لغير رشدة، فالغلوّ لازم للفريقين"، ومنه يفهم أنّ الغلوّ قد يكون بحطّ الوليّ عن منزلته، وقد يكون برفعه فوق منزلته، فيكون الغلوّ هو الإنحراف في العقيدة، سواء إلى طرف الإفراط أو إلى طرف التفريط، فعندما يقال "فلان غال" يراد به هذا المعنى، وحينما يقال فلان مرتفع في القول أو المذهب يعنون به أنه مغال، ولكنه مِن صِنْفِ مَن يَرْفَعُ الإمامَ عن منزلته الدينية[4].
   وقال الشيخ الصدوق : ( إنّ الغلاة والمفوّضة لعنهم اللهُ يُنكرون سهوَ النبيّ (ص) " واستدَلّ بكلام طويل قال فيه "يجوز على النبيّ ما يجوز على غيره مثل السهو ..)  وكان يُثْبِتُ سهوَ النبيّ، ونَقَل عن شيخه محمد بن الحسن بن الوليد أنه قال "أوّلُ درجةٍ في الغلوّ نفيُ السهو عن النبيّ (ص) .." ـ طبعاً كلامُهم في الموضوعات الخارجية لا في الأحكام وإلاّ لانتفت الفائدةُ من إرسال الرسول لاحتمالنا السهو ح في كلّ حكم من الأحكام الشرعية ـ .
   فهل بَعد هذا يكون قولُهم بنحو مطلق "فلانٌ غالٍ" إشارةً إلى كذبه في النقل ؟! مع أنه على هذا الأساس سيكون كلّ أو جلّ علماء الشيعة اليوم مُغالين !! وقد أنكر عليهما كلّ علمائنا السابقين عليهما واللاحقين ـ كما قال الشهيد الأوّل في الذكرى ـ وردّ عليهما العلاّمةُ الحلّي في كتبه الكلامية .. على أنّ كلا القولَين بأنّ النبيّ (ص) قد يسهو في صلاته ـ لورود بعض روايات في ذلك ـ أو لا يسهو ـ لمنافاة ذلك مع رسالته التي تحتّم عدمَ سهوِه أصلاً كي لا يتوهّم إنسانٌ أنه قد يسهو مطلقاً أي حتى في الأحكام ـ لا يوجبان فسقاً ولا كفراً .


[1] مائده/سوره5، آیه8.
[2] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج18، ص75، أبواب صفات القاضي، ب9، ح1، ط الاسلامية.
[3] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج44، ص195، الباب26.
[4] راجع اُصول الحديث للشيخ عبد الهادي الفضلي.، ص123