بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/12/27

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: الوجهَ الثالث من الأدلّة على حجيّة خبر الواحد هو سيرة المتشرّعة

لا يزال الكلامُ في البحث الثاني وقلنا إنه اُستُدِلّ على حجّية خبر الواحد بوجوه أربعة،
وذكرنا الوجهَ الأوّل الذي كان في الأدلّةِ على حجيّة خبر الواحد من القرآن الكريم، والوجهَ الثاني وهو : الأدلّةُ على حجيّة خبر الواحد من السنّة الشريفة،
والآن نذكر الوجهَ الثالث وهو سيرة المتشرّعة فنقول :

* اُستُدِلّ على حجيّة خبر الثقة بسيرة المتشرّعة بالتقريب التالي :
   لا شكّ أنك لاحظتَ من الروايات السابقة وجودَ ارتكازٍ عند المتشرّعة وسيرةٍ عندهم في اتّباع أخبار الثقات مطلقاً، أي رغم عدم حصول علم بصحّة كلّ أخبارهم، وذلك لوجود الكثير من الروايات المتعارضة، لاحِظْ مثلاً :
1 ـ مصحّحة محمّد بن مسلم السابقة عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال قلت له : ما بال أقوام يروون عن فلان عن فلان عن رسول الله (ص) لا يتّهمون بالكذب فيجيء منكم خلافه ؟ قال : ( إنّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن )[1]، فإنك تلاحظ وجود ارتكاز واضح عند فقيه الفقهاء محمد بن مسلم في حجيّة روايات الثقات، وقد أقرّه الإمامُ (عليه السلام)  على ذلك، ولو لم يكن خبر الثقة حجّة لنبّهه الإمامُ على ذلك، فقال إنه من الأصلِ خبرُ الثقةِ غيرُ حجّةٍ مطلقاً إلاّ إذا أورث العلمَ واليقين .
2 ـ مصحّحة عمر بن حنظلة السابقة حيث قال للإمام (عليه السلام)  : فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقاتُ عنكم ؟ قال : ( ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة )[2]، وهذا يفيد وجود علم عنده بحجيّة خبر الثقة، وقد أقرّه الإمامُ على ذلك .
3 ـ  صحيحة عبد العزيز بن المهتدي والحسن بن علي بن يقطين جميعاً السابقة عن الرّضا (عليه السلام) قال قلت : لا أكاد أصل إليك أسألك عن كلّ ما احتاج إليه من معالم ديني، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما احتاج إليه من معالم ديني ؟ فقال : (نعم )[3] صحيحة السند، وذلك بنفس التقريب السابق، وهو أنّ الإمامَ (عليه السلام)  أقرّه على ارتكازه بحجيّة خبر الثقة .
4 ـ رواية عليّ بن المسيب السابقة قال قلت للرضا (عليه السلام)  : شقّتي بعيدة ولست أصل إليك في كلّ وقت فعمّن آخذ معالم ديني ؟ فقال : (مِن زكريا بن آدم المأمون على الدين والدنيا )[4]، وهنا يذكّرُ الإمامُ الناسَ بالعلّة العقلائية لحجيّة أقواله وتعليماته .
5 ـ  التوقيع السابق الذي ورد على القاسم بن العلاء : ( فإنه لا عُذْرَ لأحَدٍ مِن موالينا في التشكيك فيما يُؤَدّيه عنا ثِقاتُنا، قد عرفوا بأننا نفاوضهم سرنا، ونحمله إياه إليهم، وعرفنا ما يكون من ذلك إن شاء الله)[5] وذلك بتقريب التعليل العقلي الذي ذكره الإمامُ (عج) في عدم وجود عذر لأحد من الشيعة في التشكيك فيما يرويه عنهم ثقاتهم، مع أنهم ـ بارتكازهم المتشرّعي ـ يَعرفون أنهم بطانتهم وموضع سرّهم .
6 ـ  في الإحتجاج عن الحسن بن الجهم(ثقة) عن الرضا (عليه السلام) قال قلت له : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيهما الحقُّ ؟ قال : ( فإذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت )[6] وذلك بتقريب وضوح الإرتكاز عند المتشرّعة في حجيّة خبر الثقة .
7 ـ ما رواه زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام)... إلى أن قال : فقلت : إنهما معاً عدلان مرضيان موثّقان ! فقال : (اُنظُرْ إلى ما وافق منهما مذهب العامة فاتركه وخذ بما خالفهم، فإنّ الحق فيما خالفهم )[7]، اُنظر إلى هذا الإرتكاز عند زرارة في حجيّة أخبار الثقات، وأقرّه الإمام (عليه السلام) على هذا الإرتكاز .
8 ـ ومنها : صحيحة يونس بن يعقوب السابقة حيث قال : كنّا عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال : (أما لكم من مفزع، أما لكم من مستراح تستريحون إليه ! ما يمنعكم من الحرث بن المغيرة النضري ؟! )[8]، وكأنّ الإمام (عليه السلام) يقول ( ما يمنعكم من فلان ! أليس هو ثقة ؟! ) وكأنه يذكّرهم بما في ارتكازهم من حجيّة أخبار الثقات .
   فإن قلتَ : بعضُ الروايات المذكورة ضعيفة السند، فلا يعتمد عليها شرعاً !
   قلتُ : هذا صحيح، لكننا نريد أن نحصّل من مجموع الروايات المذكورة الإطمئنانَ بحجيّة خبر الثقة شرعاً، فلا يهمّنا ضعف بعض الروايات .
   فإن ناقشت في كلّ ما ذكرنا لقلنا : ألا تُوْهِمُ ـ على الأقلّ ـ كلُّ هذه الآيات والروايات حجيّةَ خبر الثقة مطلقاً ـ أي حتى ولو لم تورث الإطمئنانَ بالصدور ـ فلو لم يكن خبر الثقة حجّة مطلقاً لوجب على أهل العصمة والحكمة (عليهم السلام)أن يبيّنوا ذلك للمتشرّعة كي لا يقعوا في هذا الخطأ الكبير، بل لوجب عليهم الردعُ عن العمل بخبر الثقة، إلاّ أن يورث الإطمئنانَ .
 * وهنا ملاحظة مهمّة : لا شكّ أنك تعلم أنهم استدلّوا على حجيّة خبر الثقة بسيرة العقلاء على ذلك، ولا أقلّ من احتمال أن يعمل المتشرّعة بهذه السيرة، فسكوت المعصومين عن احتمال العمل بخبر الثقة دليل على القبول بما هو في ارتكاز الناس من قبول خبر الثقة .
   وما ذكروه غير صحيح، وذلك لأنّ العقلاء لا يعملون إلاّ بما يطمئنّون به . وبتعبير آخر : لولا الآيات والروايات وسيرةُ المتشرّعة لما أمكن لنا أن نثبت الحجيّة لخبر الثقة، ولذلك لم نذكر هذا الدليل .
*   *   *   *   *
لا يزال الكلامُ في البحث الثاني، وهو في أدلَّة حجّيّة الخبر،
وقلنا إنه اُستُدِلّ على حجّية خبر الواحد بوجوه أربعة،
وذكرنا الوجهَ الأوّل الذي كان في الأدلّةَ على حجيّة خبر الواحد من القرآن الكريم، والوجهَ الثاني وهو : الأدلّةَ على حجيّة خبر الواحد من السنّة الشريفة،
والوجهَ الثالث وهو سيرة المتشرّعة،
والآن نذكر الوجه الرابع وهو الإجماع فنقول :

* اُستُدِلّ على حجيّة خبر الثقة بالإجماع بالتقريب التالي :
   لا شكّ أنك تذكر ما نقلناه مطوّلاً عن الشيخ الطوسي من ادّعائه إجماع الطائفة على حجيّة خبر الثقة، رغم عدم وجود علم قطعي بصحّة كلّ ما يروونه، فلا نعيد . وقد نُسِبَ إلى مشهور القدماء القول بـ "حجيّة خبر الثقة" .
   وكيفما كان، فلو لم يكن خبر الثقة حجّة ـ كالقياس ـ لوجب على ساحة العصمة والحكمة النهيُ والتحذيرُ عن اتّباع أخبار الثقات إلاّ إذا أورث حديثُهم العلمَ أو الإطمئنان، عدمُ تحذيرهم وتبيينِهم لذلك أمارةُ رضاهم على السيرة المتشرّعية التي كانت قائمةً في عصر النصّ ـ التي يعبّر عنها بالإجماع العملي ـ التي أنتجت ـ في عصر الغيبة الكبرى ـ ادّعاءَ إجماعِ الطائفةِ على حجيّة خبر الثقة ـ الذي يعبّرون عنه بالإجماع القَولي ـ !
*   *   *   *   *
تحديد دائرة حجيّة خبر الواحد
يجب أن ننظر أوّلاً في آيات حجيّة خبر الثقة فنقول :
ذكرنا قبل قليل خلاصة الأبحاث القرآنية السابقة وقلنا :
   إنّ ما يدلّ من الآيات الكريمة على حجيّة خبر العادل هي آية النَّبَأ، وعلى حجيّة خبر المؤمن هي آيتا النَّفْر والاُذُن، والقدرُ المتيقّن من (المؤمن) هو العادل، ذلك لأنّ الفطحي والواقفي ونحوهما هم مؤمنون من جهة وغير مؤمنين من جهة اُخرى، وآية الذِّكْر تدلّ على حجيّة قول الخبراء الثقات .
   لكن يبقى في النفس شكّ كبير في المراد من العادل والمؤمن، وذلك لاحتمال أن يكون المراد منهما في مجال الأخبار هو مجرّد الوثاقة، ولذلك يجب النظر إلى الروايات فنقول :
   اِنقسمت الروايات في ذلك إلى قسمين، طائفة تفيد حجيّة خبر العادل، وطائفة تفيد حجيّة خبر مطلق الثقة ... إلى غَدٍ إن شاء الله ونتابع بقية البحث، والحمد لله ربّ العالمين .


[1]  وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج18، ص77، أبواب صفات القاضي، ب9، ح4، ط الاسلامية.
[2]  وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج18، ص75، أبواب صفات القاضي، ب9، ح1، ط الاسلامية.
[3]  وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج18، ص107، أبواب صفات القاضي، ب11، ح33، ط الاسلامية.
[4] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج18، ص106، أبواب صفات القاضي، ب11، ح27، ط الاسلامية.
[5] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج18، ص108، أبواب صفات القاضي، ب11، ح40، ط الاسلامية.
[6] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج18، ص87، أبواب صفات القاضي، ب9، ح40، ط الاسلامية.
[7] عوالي اللآلئ، محمد بن علي بن ابراهيم ابن ابي جمهور الأحسائي، ج4، ص133.
[8] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج18، ص105، أبواب صفات القاضي، ب11، ح24، ط الاسلامية.