بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/12/18

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: بقية الأدلّة القرآنية على حجيّة خبر الواحد
* ومنها : آيةُ الاُذُن، قال الله تعالى﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ، قُلْ أُذُنُ خَيـْرٍ لَّكُمْ، يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ، وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)﴾ [1]، وذلك بتقريب أنّ رسول الله (ص) كان يسمع المؤمنين ـ طبعاً في القضايا والاُمور الموضوعية لا الحُكْمِية ـ ويصدّقهم فيما يقولون، ونحن يجب أن نتأسّى برسول الله الأعظم (ص)، وقال تعالى ﴿ قُلْ ـ هو ـ أُذُنُ خَيـْرٍ لَّكُمْ ﴾ هو اُذُنُ خيرٍ لكم لأنه يؤمن بالله ويصدّق المؤمنين في أقوالهم وأخبارهم، ولا يكذّبُهم، وليس ذلك من باب علم الغيب، وإلاّ لقال ويصدّق الصادقين ويكذّب الكاذبين ويخطّئ المخطئين، مؤمنين كانوا أو فاسقين . المهم هو أنّ الله تبارك وتعالى يصفه بخصلةِ أنه يصدّق المؤمنين في سياق المدح، ممّا يعني أنّ تصديق المؤمنين أمْرٌ جيد وممدوح، بخلاف ما لو لم يكن يصدّقُهم، فإنهم ح سيقعون في الحرج والضيق مع رسول الله (ص). فإذن عندنا وجهان للزوم أن نصدّق المؤمنين، إمّا من باب التأسّي برسول الله، وإمّا ابتداءً، من باب جودة تصديق المؤمنين، سواء من قِبَلِ النبيّ أو مِنْ قِبَلِ غيرِه من سائر الناس، ممّا يعني حجيّةَ أقوالِ المؤمنين وحكاياتِهم حتى ولو لم يحصل عندنا منها عِلْمٌ، لأنه لو كان حصول العلم مشروطاً لما كان هناك محلّ للمدح، لأنّ اتّباع العلم أمرٌ عقلي واضح، ولا يناسبه انتقادُ الكافرين، ولا يناسبه هذا المدح، ولا محلّ ح للتخصيص بالمؤمنين في قوله تعالى﴿ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ ولكان الاَولى أن يقول ويؤمن بالحقّ وبمعلوم الصحّة .
   ولكي تطمئنّ لما نقولُ أكثرَ، لا بأس بذِكْرِ ما رواه في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حمّاد بن عيسى عن حريز قال : كانت لإسماعيل بن أبي عبد الله (عليه السلام)دنانير، وأراد رجلٌ من قريش أن يخرج إلى اليمن، فقال إسماعيل : يا أبَهْ، اِنّ فلاناً يريد الخروجَ إلى اليمن، وعندي كذا وكذا دينار، أفترى أن أدفعها إليه يبتاع لي بها بضاعةً مِنَ اليمن ؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ( يا بُنَيّ، أما بلغك أنه يشرب الخمرَ ؟! ) فقال إسماعيل : هكذا يقول الناس ! فقال : ( يا بُنَيّ، لا تفعلْ )، فعصى إسماعيلُ أباه ودفع إليه دنانيره، فاستهلكها ولم يأتِهِ بشيء منها ! فخرج إسماعيل، وقضى أنّ أبا عبد الله (عليه السلام)حج وحج إسماعيلُ تلك السنة، فجعل يطوف بالبيت ويقول : (اللهم أجِرْنِي واخْلُفْ علَيَّ) فلحقه أبو عبد الله (عليه السلام) فهَمَزَه بيده مِن خلفه وقال له : (يا بُنَيّ، فلا واللهِ ما لَك على الله هذا، ولا لك أن يَأْجُرَك، ولا يخلفَ عليك، وقد بلغك أنه يشرب الخمر فائتمنته ! )، فقال إسماعيل : يا أبَه، اِنّي لم أره يشرب الخمرَ، إنما سمعت الناسَ يقولون ! فقال ( يا بني، اِنّ اللهَ عز وجل يقول في كتابه﴿ يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ﴾ يقول : يصدق اللهَ ويصدَّقُ للمؤمنين، فإذا شهد عندك المؤمنون فصَدِّقْهُم، ولا تأتمِنْ شاربَ الخمرِ ... )[2] صحيحة السند .
   إذن يظهر من الآية المباركة عدّةُ اُمور :
1 ً ـ إنّ أخبار المؤمنين في الموضوعات حجّة شرعاً، سواءً حصل عِلْمٌ عند السامع أو لم يحصل، وذلك لإطلاق آية ﴿ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ وهو يقتضي الحمْلَ على الواقع تعبّداً، بما له من آثار شرعية، وهو معنى الحجيّة .
2 ـ إنّ سياق ﴿ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ ـ أي القَرْن بين الإيمان بالله جلّ وعلا وبين الإيمان للمؤمنين ـ يفيدُ مدْحَ رسول الله (ص) لأنه يؤمنُ بالله ويصدّقُه، وجاءت كلمةُ ﴿ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ بعدها مباشرةً، ممّا يعني أنّ تصديق المؤمنين أمْرٌ حسَنٌ جداً، ولازمُ حُسْنِه وَجُودِهِ هو حجيّة قولهم، كما تقول أنا أعرف الطبيبَ الفلاني، يا ليتك تؤمِنُ به وتتّبِعُه، هذا الكلام يفيدُ إعطاءَك الحجيّةَ لقوله .
فإنْ قلتَ : لعلّ قوله تعالى﴿ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ هو في مقام مدْحِ مَن يُحْسِنُ الظنَّ بالمؤمنين، ولا يتّهمهم بالكذب والإفتراء، ولو من باب المداراة، وليس في مقام إعطاء الحجيّة لهم، فالآيةُ من قبيل ما رواه الشيخ الصدوق في كتابه عقاب الأعمال عن محمد بن موسى بن المتوكل(ثقة) عن محمد بن يحيى عن سهل بن زياد عن يحيى بن المبارك(مجهول والمظنون وثاقته) عن عبد الله بن جبلة(ثقة) عن محمد بن فضيل(ضعيف يُرمَى بالغُلُوّ) عن أبي الحسن موسى (عليه السلام)قال قلت له : جُعِلْتُ فِداك، الرجل من أخواني يبلغني عنه الشيءُ الذي أكرهه، فأسألُه عنه فيُنْكِرُ ذلك، وقد أخبرني عنه قوم ثقات ! فقال لي : ( يا محمد، كَذِّبْ سمْعَكَ وبصرَك عن أخيك، فإنْ شَهِدَ عندك خمسون قسامة ـ أي على الأخ ـ وقال لك قولاً فصَدِّقْهُ وكَذِّبْهُم، ولا تُذِيعَنّ عليه شيئاً تُشِينُه به، وتَهْدِمُ به مُرُوَّتَهُ، فتكون من الذين قال الله﴿ إنّ الذين يُحِبُّونَ أنْ تَشِيْعَ الفاحِشَةُ في الذين آمنوا لهم عَذابٌ أليمٌ في الدنيا والآخِرَة [3] )، ورواه الكليني عن عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد مثله .
قلتُ : ما ذكرتُم غير صحيح، لأنّ معنى﴿ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي يصدّقهم، وهي تفيد بوضوح إعطاءَ الحجيّةِ لقولهم شرعاً، فيجب علينا أن نعمل بشرع الله بأن نؤمِنَ للمؤمنين وأن نتأسّى برسول الله (ص) في ذلك .
   خاصّةً إذا كان الأخ المؤمنُ يدافع عن نفسه، فح يجب تصديقُه، وح يلزم تكذيبُ القُسامة إذا كانت القسامةُ تَضُرّه، بمعنى أنّ الآية بصدد الإرشاد إلى أن نأخذ بما ينفع المؤمنين فقط، ولا نأخذ بما يضرّهم، لذلك هو اُذُنُ خيرٍ للمؤمنين، ولذلك قال الله تعالى﴿ قُلْ أُذُنُ خَيـْرٍ لَّكُمْ ﴾ . أمّا في مجال الإضرار والإدّعاء على المؤمنين فيدخل ح في باب الدعاوى، وح يحتاج إلى شاهدَين عادلَين أو أكثر .
فإنْ قلتَ : لا يمكن الإيمانُ بإرادة إعطاء الحجيّة لكلام المؤمن مطلقاً، وذلك لأنّ المؤمن قد يَنِمّ على مؤمن آخر، فلا يكون الرسول (ص) ح اُذُنَ خيرٍ بالنسبة إلى المؤمن الآخر .
قلتُ : هذا صحيح، ولذلك تخرج هكذا حالات ـ ضارّة بالآخرين ـ من موضوع هذه الآية، وتدخل في باب الدعاوَى، فتحتاج ح إلى شاهدَين عادلَين . إذن، بالعنوان الأوّلي : كلامُ المؤمن حجّة، أمّا في باب الدعاوى والإتّهام بالزنا والقتل ونحو ذلك فمسألة ثانية .
3 ً ـ إنّ قولَه تعال﴿ .. هُوَ أُذُنٌ .. ﴾ يُفيدُ أنه كان سريعَ التصديق للمؤمنين، وليس ذلك إلاّ لحجيّة أقوالهم شرعاً في الموضوعات .

ومن الآيات التي استدلّوا بها على حجيّة خبر الواحد : آية الكتمان، قال الله تعالى﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِمَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ(159)﴾[4] وذلك بتقريب أنّ تحريم كتمان ما أنزل الله تعالى لا سبب له إلاّ إذا كان إظهار العلماء لعلمهم ذا فائدة، أي إنّ تحريم كتمان الروايات الشرعية لا سبب له إلاّ إذا كان قولهم حجّة شرعاً . 
   ويرد على هذا التقريب احتمالُ أن يكون سبب تحريم الكتمان هو أنّ إظهار الروايات والأحكام الشرعية وتبليغَها للناس قد يورِّثُ العِلْمَ بالأحكام الشرعية أو على الأقلّ الظنّ، ممّا قد يستدعي البحث ولو عند بعض الناس ... فلا تدلّ الآية على وجوب قبول خبر الثقة إن لم يحصل عند الناس العِلمُ . المهم هو أنه قد يكون المراد : أنتم أيها العلماء بلّغوا ما عندكم من علم في دين الله ولا تكتموا الحقيقة، فإنّ من الواجب أن يبقى العِلْمُ الدينيّ الصحيحُ واضحاً إلى قيام الساعة، مع غضّ النظر عن قبول الآخرين لكلامكم أم لا، وحجيّة كلامكم أم لا .
*   *   *   *   *
* وخلاصة الأبحاث القرآنية السابقة :
1 ـ إنّ ما يدلّ من الآيات الكريمة على حجيّة خبر العادل هي آية النَّبَأ، وعلى حجيّة خبر المؤمن هي آيتا النَّفْر والاُذُن، وعلى حجيّة قول الخبراء الثقات هي آية الذِّكْر .
2 ـ آيةُ النبأ تدلّ أيضاً على تنزيل احتمال إصابة الواقع منزلة العلم، فهي إذن دليل قطعي على مسلك الطريقية .
3 ـ آيتا النبأ والذكر تدلان على حجيّة خبر الواحد في الأحكام والموضوعات .
4 ـ أمّا آيةُ النفر فتدلّ على حجيّة خبر المؤمن في خصوص الأحكام .
5 ـ وأمّا آيةُ الاُذُن فهي مختصّة بالقضايا الموضوعية فقط .
6 ـ إنّ آية الكتمان لا تفيدنا في الإستدلال على حجيّة خبر الواحد .


[1]توبه/سوره9، آیه61.
[2] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج13، ص230، كتاب الوديعة، ب6، ح1، ط الاسلامية.
[3] مرآة العقول في شرح أخبار الرسول للعلاّمة المجلسي توفّي سنة 1111 هـ ق ج 25 وهو شرح لكتاب الروضة من كتاب الكافي، الشيخ الكليني، ج8، ص147.
[4]بقره/سوره2، آیه159.