بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/12/12

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: آخر الكلام في النبأ وبداية آية النفر
ومن الطبيعي أنّ المروءة تؤكّدُ الوثاقةَ، وعدمُها يُضْعِفُها ويَخلق شكّاً في ثبوتها في نفس الراوي، ومثّلوا لعَديم المروءة بالمتسوّل بيده وبمن يأكل في الشوارع لغير أهل السوق وبمن يلبس الألبسة الغير مناسبة عند العقلاء ويعمل أعمالاً مستنكرةً ومرفوضةً عند العقلاء، فقالوا هذه تنافي المروءةَ والحياء، ومن لا يملك هذه الخصلة فإنه يُخشَى منه، لأنه لا يهتمّ بشأن نفسه وبما يقال فيه .. أمّا مَن كان عندَه خصلةُ المروءة والحياء فإنه يحترم نفسَه فلا يكذب، فتكون مروءتُه هي الرادعة عن الكذب في الحديث لأنه يخاف على نفسه من أنْ تُخدَشَ أو يقال فيه إنه مفترٍ كذّاب، ولذلك كان المشهور ـ كما في الذخيرة والكفاية ـ يعتبرُون المروءةَ في عدالة الإمام والشاهد . وفي الماحوزية نقْلُ حكاية الإجماع على ذلك .. وفي المفاتيح أنّ المشهور قدْح منافيات المروءة في العدالة . والمشهورُ ـ كما في الذخيرة ـ جعْلُها جزءً من مفهوم العدالة، وبعضهم جعلها شرطاً في قبول الشهادة، وقد جعلها العلاّمةُ الحلّي في قواعده في شهادات الكتاب شطراً وشرطاً، وربّما استُدِلّ عليه بقول الكاظم (عليه السلام) في حديث هشام : ( لا دِينَ لمن لا مروءة له، ولا مروءة لمن لا عقل )، وبقول الصادق (عليه السلام) في خبر عثمان عن سماعة في علامات المؤمن : ( مَن عامل الناس فلم يظلمهم وحدّثهم فلم يكذبهم ووعدهم فلم يخلفهم كان ممّن حرمت غِيبته وكملت مروءته وظهر عدله ووجبت إخوّته )، وبقولهم (عليه السلام) ( الحياء من الإيمان ) ( ولا إيمان لمن لا حياء له ) بمعنى أن يكون ساتراً لعيوبه كما في قول الصادق(عليه السلام)  في خبر ابن أبي يعفور ( أن يكون ساتراً لعيوبه ) . ولك أن تقول ـ في اعتبار المروءة ـ إنّ مخالفتها تكون إمّا لخبل أو لنقصان عقل أو قلّة مبالاة وقلّة حياء، وعلى كلّ التقادير لا يبعد أن يؤثّر ذلك في الوثوق بقوله وفعله، مع أنها عيوب عرفية .
الملاحظة الثالثة: مِنَ البديهي أنّ هناك أصنافاً هم كالفاسق من حيث لزوم التبيّن، أو اَولى بالتبيّن فيهم من الفاسق، وذلك من قبيل مجهول الحال، وذلك لاحتمال كونه فاسقاً أو قل لعدم عِلْمِنا بكونه عادلاً، والاَولى من الفاسق في لزوم التبيّن : المجنون، لأنه فاقد العقل، وقريبٌ منه : الصغير الذي لا يُعتمَد عقلائياً على خبره، وهذا أمورٌ واضحة عقلاً، ولك أن تستدلّ على ذلك بتعليل الآية الكريمة وببناء العقلاء، فإنهم لا يرَون قيمة لخبر المجنون أصلاً، وكذلك الصغير فإنّ قوله وشهادته غير معتبرَين عقلاً وعقلائياً، إلاّ إذا أورث ذلك الإطمئنانَ، ولذلك نقول إنّ الآية الكريمة غير ناظرة إلى الصغير أصلاً .
والملاحظةُ الرابعة:مع الشكّ في العدالةِ والوثاقةِ ـ كما في مجهول الحال والصغير ـ الأصلُ عدمُ حجيّة الخبر، حتى تثبت العدالةُ أو الوثاقة أو الحجيّة، ويكفينا حسنُ الظاهرِ في الكبير ـ من خلال المعاشرة ـ في إثبات العدالة والوثاقة، وقد يطمئنّ الشخص بوثاقة الراوي من خلال كتبه .

 ومنها : آية النفر، قال الله تبارك وتعالى﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [1][2] .
   بيان كيفية الإستدلال بهذه الآية الكريمة على حجيّة خبر العادل من وجهين :
الأوّل : إنّ قولَه تعالى﴿ وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً، فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ﴾ يفيد الحضّ الكفائي على طلب العلوم الدينية، وإلاّ يختلّ نظام الحياة، لأنّ العلم ركن أساسي في الحياة . أو قُلْ : إنّ الآية الكريمة تفيد التحضيض على نفْرِ بعض الناس لدراسة العلوم الدينية بنحو الحضّ الكفائي، والحضّ الكفائي يفيد وجوب القبول والإتّباع، كأنه يبلّغُ نفسَ الحكم الواقعي تماماً، مع العلم بأنّ المتفقّه لا يتفقّه فقط بالأحكام الواقعية، وإنما يتفقّه بالأحكام الظاهرية أيضاً وبمؤدّياتها، كالناشئة من أخبار الثقات ـ خاصّةً في زماننا ـ أو من الاُصول العملية، وأنت تعلم أنّ آيةَ النفر تأمرنا بالنفر لطلب العلوم الدينية في ذاك الزمان وفي كلّ زمان . المهمّ هو أنّ هذا الحضَّ الكفائي يفيد حجيّةَ قولِ هذا البعض ـ طبعاً إذا كان ثقة، وذلك لأنه أمْرٌ مفروغٌ منه أو قُلْ لأنه أمر عقلائي مركوز في الأذهان ـ وإلاّ لما كان هناك أيّ فائدة من بعث البعض دون الكلّ ولو بالترتيب، ولأنّ الإحتياط التامّ والدائم من قبل سائر القبيلة لا يمكن، وعدمُ حجيّة قول المبلّغ الثقةِ سوف يوقع المتديّنين في الحرج والضرر، لأنّ قوله لن يفيد العلم دائماً .
   فأنت إذا اتّصلت بخادمك وقلتَ له "إنّي بعثت لك ولدي لإخبارك باُمور" فهذا يعني أنّ تبليغه للخادم حجّة، أي يجب قبوله، وإلاّ للغا قولك لخادمك، وهذا أمر بديهي .
  والثاني : قولُه سبحانه﴿ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ ﴾ يفيد السببَ الثاني في النفر الكفائي وهو ـ إضافةً إلى السبب الأوّل والذي هو استفادة نفس الدارس للعلوم الدينية ـ إنذارُ سائرِ الفرقة التي خرج منها . وهذا وجه آخر يفيد حجيّة خبر العالِم الديني الثقة، وإلاّ للغا الإنذار والإعلام، ولعدم إمكان الإحتياط التامّ والدائم من قبل المتديّنين، لحصول الحرج والضرر عليهم، وذلك لعدم حصول العلم دائماً مِن نقل المبلّغ الفتاوى للناس، لأنه في أغلب الأحيان يكون كلّ مبلّغ في مكان لوحده في القرية أو في المدينة حين التعليم .
   ثم لعلّك تعلم أنّ معنى الإنذار هو الإعلام بأمر مهمّ، من قبيل قوله تعالى﴿يُنَزِّلُ المَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2)﴾ [3] أي أن اَعلِموا أنه لا إله إلاّ الله ..، وكقوله سبحانه﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ، إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)﴾ [4] أي إنما أنت معلّم للشريعة ومعرّف عليها .. ومثلُها قولُه تعالى ﴿بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2)﴾[5] أي معلّم .
   فإذا عرفتَ معنى﴿وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ ﴾ الذي هو الإعلام تعرف أنّ المولى تعالى نزّل قول خبر المؤمن منزلة العلم، لأنه يقول بما معناه "وليعلّموا قومهم" فاحتمالُ إصابتِه للحكم الواقعي نزّله المولى تعالى منزلة العلم بالإصابة، أو قُلْ "وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ بالأحكام فيصيروا منذَرين عالمين بالأحكام تعبّداً" رغم اعتقادنا بأنه لن يصيب الواقع دائماً، وذلك لعلمنا بوجود تعارض بين بعض الروايات الصحيحة .


[1] قال الله تعالى﴿ مَا كَانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ، إِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ (120) وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ، لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ـ أي إلى الجهاد بدليل السياق ـ فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ـ إذَنْ قِسْمٌ إلى الجهاد وقِسْمٌ إلى طلب العلوم الدينية ـ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ .(123) ﴾ سورة التوبة
[2] توبه/سوره9، آیه122.
[3]نحل/سوره16، آیه2.
[4]رعد/سوره13، آیه7.
[5] ق/سوره50، آیه2.