بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/12/08

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: ملاحظات بعد الإنتهاء من آية النبأ
بعد انتهاء الكلام من الإستدلال بآية النبأ، وبعد الإيمان بصحّة الإستدلال لها، هناك ملاحظات، ذكرنا منها الملاحظةَ الاُولى، وهذه الملاحظة الثانية :
الثانية : في المراد من كلمة [ فاسق ] فنقول : الفسقُ في اللغة هو الخروج، يقول العرب (فَسَقَتِ الرُّطْبَةُ مِنْ قِشْرِها) أي خرجت من قشرها، والمراد من [فاسق] هو الخارج عن الطاعة كالسارق والزاني والقاتل .. وقوله تعالى﴿فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾[1] أي خرج من طاعة ربّه ..
وعلى هذا فيكون المراد من (غير الفاسق) هو العادل التقيّ الذي يفعل الواجبات ويترك المحرّمات، والعدالةُ ملكة نفسانية راسخة بسبب العادة على ذلك تمنعه عن ارتكاب المحرّمات وترك الواجبات، ومنشأُ هذه الملكة هو الخوف من الله تعالى . وما يهمّنا في الآية هو الكذب والصدق .
   والمراد من [ فاسق ] في الآية ـ بقرينة السياق ـ هو الذي لا يهتمّ إذا كذب، أو قُلْ هو الذي لا يلتزم بالصدق ولا يردعه رادِعٌ عن الكَذِب ولا يؤْمَنُ منه الكذِبُ، ومقابلُه في الآيات هو (المؤمن المهتدي الذي يتذكّر الله ولا ينساه، والذي لا يرتكب الكبائر ولا يستحقّ العذاب في الآخرة)، لاحِظْ ذلك في استعمالات القرآن الكريم لكلمة [فاسق] تجد معناها :
المقابل للمؤمن، كما في قوله تعالى﴿ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً، لاَّ يَسْتَوُونَ (18)﴾[2] وكما في قوله تعالى ﴿ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)﴾ [3]. ونجدها مقابلة للمهتدي، كما في قوله تعالى﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (26)﴾ [4]، ومن الواضح أنّ المؤمن المهتدي يرتكب الصغائر أي اللمم، وفي آية ﴿ إلاّ اللمَم ﴾ إشارةٌ إلى ذلك . إذن مرتكب الصغائر يكون في المؤمنين المهتدين، ولا يكون فاسقاً . وأنت تعلم تداخل المؤمن والمهتدي، لذلك جعلناهما في باب واحد .
ونجدها بمعنى الذي يتّهم المحصنات بالزنا ثم لم يأتِ بأربعة شهداء، كما في قوله تعالى﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوَهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً، وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ (4)﴾ [5] إذن مرتكِبُ (رمي المحصنات) هو الفاسق .
ونجدها بمعنى الذين يستحقّون العذاب، أي مرتكبي الكبائر خاصّة، ذلك لعدم استحقاق مرتكبي الصغائر واللمم لدخول النار، كما في الآية ﴿ إلاّ اللمَم ﴾، لاحِظْ قولَه سبحانه﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ، كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ، بَلاغٌ، فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القَوْمُ الفَاسِقُونَ (35)﴾ [6] وكما في قوله تبارك وتعالى﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ العَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)﴾ [7] .
ونجدها بمعنى الذين نسوا الله تعالى، كما في قوله تبارك وتعالى﴿ وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ (19)﴾ [8] وهذا العقاب لا ينسجم مع مرتكب الصغائر واللمم .
ونجدها بمعنى أصحاب القلوب الزايغة عن الحق، كما في قوله تعالى ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ (5)﴾ [9].
ونجدها بمعنى الكافر، كما في قوله تعالى﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ (3) ... سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ (6)﴾ [10] وكما في قوله تعالى﴿وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الفَاسِقُونَ (99)﴾ [11] وهي أيضاً لا تنسجم مع مرتكبي الصغائر .
ومع ذلك تلاحظ التمييز بين الكافر والفاسق في قوله تعالى﴿ وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)﴾[12] وهي إشارة إلى أنّ الكفر رغم أنه فسق، إلاّ أنه في أعلى درجات الفسق صار كأنه خارج عن الفسق . وهي أيضاً تفيدنا فيما سندّعيه من المقابلة بين الإيمان والفسق .
 ونجدها بمعنى مَن أراد غيرَ دينِ الله، كما في قوله تعالى﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)﴾ [13] .
إذن يظهر أنّ معنى الفسق هو زَيْغ القلب عن الإيمان، كثيراً كان الزيغُ أو قليلاً، أعني كُفراً كان أو ارتكاباً للكبائر، ونسيانُ الله تعالى هو من نفس وادي زَيغ القلب .
وبتعبير آخر : الفاسق هو في مقابل المؤمن والمهتدي، كما مرّ في قوله تعالى﴿ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً﴾[14]و﴿ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ و ﴿ .. فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ . إذَنْ خبرُ المؤمِنِ المهتدي عِلْمٌ شرعاً وتعبداً .
والشيعةُ من غير الإمامية ـ كالفطحية والواقفة ـ هم من الفسّاق قطعاً، وغير مؤمنين وغير مهتدين، وذنبُهم أعظمُ ممّن يَتهم المحصناتِ بالزنا، لكن مع ذلك استفاضت رواياتنا في حجيّة أخبار الثقات منهم، ممّا يعني أنّ المراد بالفاسق في الآية الكريمة هو الفاسق في النقل ـ أي الغير ملتزم بالصدق، والذي لا يُؤْمَنُ منه الكَذِب ـ لا في العقيدة .


[1] کهف/سوره18، آیه50.
[2] سجده/سوره32، آیه18.
[3] حدید/سوره57، آیه27.
[4]حدید/سوره57، آیه26.
[5] نور/سوره24، آیه4.
[6]احقاف/سوره46، آیه35.
[7] انعام/سوره6، آیه49.
[8] حشر/سوره59، آیه19.
[9] صف/سوره61، آیه5.
[10] منافقون/سوره63، آیه6.
[11] بقره/سوره2، آیه99.
[12] حجرات/سوره49، آیه7.
[13] آل عمران/سوره3، آیه83.
[14] سجده/سوره32، آیه18.