بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/12/04

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: بقية كلام الشيخ الطوسي في حجية خبر الواحد
(... وأما الفِرَقُ الذين أشاروا إليهم من الواقفة والفطحية وغير ذلك، فعن ذلك جوابان : أحدهما : إنّ ما يرويه هؤلاء يجوز العمل به إذا كانوا ثقات في النقل ـ وإن كانوا مخطئين في الإعتقاد من القول بالوقف ـ إذا عُلِمَ من اعتقادهم وتمسكهم بالدين وتحرجهم من الكذب ووضع الأحاديث، وهذه كانت طريقةَ جماعةٍ عاصروا الأئمة (عليهم السلام) نحو عبد الله بن بكير وسماعة بن مهران ونحو بني فضال من المتأخرين عنهم وبني سماعة ومن شاكلهم، فإذا علمنا أن هؤلاء الذين أشرنا إليهم ـ وإن كانوا مخطئين في الإعتقاد من القول بالوقف وغير ذلك ـ كانوا ثقات في النقل، فما يكون طريقُهُ هؤلاء جاز العمل به .
   والجواب الثاني : إنّ جميع ما يرويه هؤلاء إذا اختصوا بروايته لا يعمل به، وإنما يعمل به إذا انضاف إلى روايتهم رواية من هو على الطريقة المستقيمة والإعتقاد الصحيح، فحينئذ يجوز العمل به . فأما إذا انفرد فلا يجوز ذلك فيه على حال([1])، وعلى هذا سقط الإعتراض .
   فأما ما رواه الغلاة ومن هو مطعون عليه في روايته، ومتّهم في وضع الأحاديث، فلا يجوز العمل بروايته إذا انفرد . وإذا انضاف إلى روايته رواية بعض الثقات جاز ذلك، ويكون ذلك لأجل رواية الثقة دون روايته .
   وأما المجبِّرة والمشبِّهة فأقلّ ما في ذلك أنّا لا نعلم أنهم مجبِّرَة ولا مشبِّهَة، وأكثر ما معنا أنهم كانوا يروون ما يتضمن الجبر والتشبيه، وليس روايتهم لها دليلاً على أنهم كانوا معتقدين لصحتها، بل بيّنّا الوجهَ في روايتهم، أو أنه غير الإعتقاد لمتضمنها، ولو كانوا معتقدين للجبر والتشبيه كان الكلام على ما يروونه كالكلام على ما ترويه الفرق المتقدم ذكرها، وقد بيّنّا ما عندنا في ذلك . وهذه جملة كافية في إبطال هذا السؤال .
   فإن قيل : ما أنكرتم أن يكون الذين أشرتم إليهم، لم يعملوا بهذه الأخبار لمجردها، بل إنما عملوا بها لقرائن اقترنت بها دلتهم على صحتها ولأجلها عملوا بها، ولو تجرَّدَتْ لما عملوا بها، وإذا جاز ذلك لم يمكن الإعتماد على عملهم بها .
   قيل له : القرائن التي تقترن بالخبر وتدل على صحته أشياء مخصوصة ـ نذكرها فيما بعد ـ من الكتاب والسُنّة والإجماع والتواتر، ونحن نعلم أنه ليس في جميع المسائل التي استعملوا فيها أخبار الآحاد، ذلك لأنها أكثر من أن تحصى، موجودة في كتبهم وتصانيفهم وفتاواهم، لأنه ليس في جميعها يمكن الإستدلال بالقرآن لعدم ذكر ذلك في صريحه وفحواه، أو دليله ومعناه، ولا في السُنّة المتواترة لعدم ذلك في أكثر الأحكام، بل لوجودها في مسائل معدودة، ولا في الإجماع لوجود الإختلاف في ذلك، فعُلِم أن ادعاء القرائن في جميع هذه المسائل دعوى محالة، ومَنِ ادعَّى القرائنَ في جميع ما ذكرناه كان السبر بيننا وبينه، بل كان معولاً على ما يعلم ضرورة خلافه، مدافعاً لما يعلم من نفسه ضده ونقيضه .
   ومَن قال عند ذلك : إني متى عدمت شيئاً من القرائن حكمت بما كان يقتضيه العقل، يلزمه أن يترك أكثر الأخبار وأكثر الأحكام ولا يحكم فيها بشيء ورد الشرع به .
   وهذا حد يرغب أهل العلم عنه، ومن صار إليه لا يحسن مكالمته، لأنه يكون معولاً على ما يعلم ضرورة من الشرع خلافه .
   ومما يدل أيضاً على جواز العمل بهذه الأخبار التي أشرنا إليها، ما ظهر بين الفرقة المحقة من الإختلاف الصادر عن العمل بها، فإني وجدتها مختلفة المذاهب في الأحكام، يفتي أحدهم بما لا يفتي به صاحبُه في جميع أبواب الفقه من الطهارة إلى أبواب الدّيات من العبادات والأحكام والمعاملات والفرائض وغير ذلك .. حتى أن باباً منه لا يسلم إلا وقد وجدت العلماء من الطائفة مختلفة في مسائل منه، أو مسألة متفاوتة الفتاوى، وقد ذكرت ما ورد عنهم (عليهم السلام)  من الأحاديث المختلفة التي تختص بالفقه في كتابي المعروف بـ الإستبصار وفي كتاب تهذيب الأحكام ما يزيد على خمسة آلاف حديث، وذكرت في أكثرها اختلاف الطائفة في العمل بها وذلك أشهر من أن يخفى، حتى أنك لو تأملت اختلافهم في هذه الأحكام وجدته يزيد على اختلاف أبي حنيفة والشافعي ومالك، ووجدتهم مع هذا الإختلاف العظيم لم يقطع أحد منهم موالاة صاحبه، ولم ينته إلى تضليله وتفسيقه والبراءة من مخالفته، فلولا أن العمل بهذه الأخبار كان جائزاً لما جاز ذلك، وكان يكون مَن عَمِلَ بخبر عنده أنه صحيح يكون مخالفه مخطئاً مرتكباً للقبيح، يستحق التفسيق بذلك، وفي تركهم ذلك والعدول عنه دليلٌ على جواز العمل بما عملوا به من الأخبار .
   فإن تجاسر متجاسر إلى أن يقول : كل مسألة مما اختلفوا فيه عليه دليل قاطع، ومن خالفه مخطئ فاسق يلزمه أن تفَسَّقَ الطائفةُ بأجمعها ويضلل الشيوخ المتقدمين كلهم فإنه لا يمكن أن يدعي على أحد موافقته في جميع أحكام الشرع، ومن بلغ إلى هذا الحد لا يحسن مكالمته، ويجب التغافل عنه بالسكوت .
   وإن امتنع من تفسيقهم وتضليلهم، فلا يمكنه إلا أن العمل بما عملوا به كان حسناً جائزاً خاصة، وعلى أصولنا أن كل خطأ وقبيح كبير فيمكن أن يقال : إن خطأهم كان صغيراً، فانحبط على ما تذهب إليه المعتزلة، فلأجل ذلك لم يقطعوا الموالاة وتركوا التفسيق فيه والتضليل .
   فإن قال قائل : أكثر ما في هذا الإعتبار أن يدل على أنهم غيرُ مؤاخَذين بالعمل بهذه الأخبار، وأنه قد عفي عنهم، وذلك لا يدل على صوابهم، لأنه لا يمتنع أن يكون من خالف الدليل منهم أخطأ وأثم واستحق العقاب، إلا أنه عفي له عن خطئه وأسقط عنه ما استحقه من العقاب .
   قيل له : الجواب عن ذلك من وجهين :
   أحدهما : إنّ غرضنا بما اخترناه من المذهب هو هذا، وأنّ مَن عَمِلَ بهذه الأخبار لا يكون فاسقاً مستحقاً للعقاب، فإذا سلم لنا ذلك ثبت لنا ما هو الغرض المقصود .
   والثاني : إنّ ذلك لا يجوز، لأنه لو كان قد عفي لهم عن العمل بذلك مع أنه قبيح يستحق به العقاب وأسقط عقابهم، لكانوا مغيرين بالقبيح وذلك لا يجوز، لأنهم إذا علموا أنهم إذا عملوا بهذه الأخبار لا يستحقون العقاب لم يصرفهم عن العمل بها صارف، فلو كان فيها ما هو قبيحٌ العملُ به لما جاز ذلك على حال .
   فإن قيل : لو كانت هذه الطريقة دالّة على جواز العمل بما اختلف من الأخبار المتعلقة بالشرع من حيث لم ينكِر بعضُهم على بعض، ولم يفسِّقْ بعضُهم بعضاً، ينبغي أن تكون دالّة على صوابهم فيما طريقه العلم، فإنهم قد اختلفوا في الجبر والتشبيه والتجسيم والصورة وغير ذلك، واختلفوا في أعيان الأئمة، ولم نرهم قطعوا الموالاة ولا أنكروا على من خالفهم، وذلك يبطل ما اعتمدتموه .
   قيل : جميع ما عددتموه من الإختلاف الواقع بين الطائفة فإنّ النكير واقع فيه من الطائفة، والتفسيقُ حاصلٌ فيه، وربما تجاوزوا ذلك أيضاً إلى التكفير وذلك أشهر من أن يخفى، حتى أنّ كثيراً منهم جعل ذلك طعناً على رواية مَن خالفه في المذاهب التي ذكرت في السؤال، وصنفوا في ذلك الكتب، وصدر عن الأئمة (عليهم السلام) أيضاً النكير عليهم، نحو إنكارهم على من يقول بالتجسيم والتشبيه والصورة والغلوّ وغير ذلك، وكذلك مَن خالف في أعيان الأئمّة (عليهم السلام)، لأنهم جعلوا ما يختص الفطحيةَ والواقفة والناووسية وغيرهم من الفرق المختلفة بروايته لا يقبلونه ولا يلتفتون إليه([2])، فلو كان اختلافهم في العمل بأخبار الآحاد يجري مجرى اختلافهم في المذاهب التي أشرنا إليها لوجب أن يجروا فيها ذلك المجرى، ومن نظر في الكتب وسبر أحوال الطائفة وأقاويلها وجد الأمر بخلاف ذلك، وهذه أيضاً طريقة معتمدة في هذا الباب .
   ومما يدل أيضاً على صحة ما ذهبنا إليه، أنّا وجدنا الطائفةَ ميزت الرّجال الناقلة لهذه الأخبار، ووثقت الثقات منهم، وضعفت الضعفاء، وفرَّقوا بين مَن يُعتمَدُ على حديثه وروايته، ومن لا يُعتمَدُ على خبره، ومدحوا الممدوح منهم وذموا المذموم، وقالوا فلان متهم في حديثه، وفلان كذاب، وفلان مخلط، وفلان مخالف في المذهب والإعتقاد، وفلان واقفي، وفلان فطحي، وغير ذلك من الطعون التي ذكروها، وصنَّفوا في ذلك الكتب، واستثنوا الرّجالَ من جملة ما رووه من التصانيف في فهارسهم، حتى أنّ واحداً منهم إذا أنكر حديثا نظر في إسناده وضعفه برواته . هذه عادتهم على قديم الوقت وحديثه لا تنخرم، فلولا أن العمل بما يسلم من الطعن ويرويه من هو موثوق به جائز، لما كان بينه وبين غيره فرق، وكان يكون خبره مطروحاً مثل خبر غيره، فلا يكون فائدة لشروعهم فيما شرعوا فيه من التضعيف والتوثيق وترجيح الأخبار بعضها على بعض، وفي ثبوت ذلك دليل على صحة ما اخترنا) (إنتهى كلام الشيخ الطوسي) .
   ثم قال في ص 150 : "وإذا كان الراوي من فرق الشيعة مثل الفطحية والواقفة والناووسية وغيرهم نُظِرَ فيما يرويه :
فإن كان هناك قرينة تعضده أو خبر آخر من جهة الموثوقين بهم، وجب العمل به .
وإن كان هناك خبر آخر يخالفه من طريق الموثوقين، وجب إطراح ما اختصوا بروايته والعمل بما رواه الثقة .
   وإن كان ما رووه ليس هناك ما يخالفه، ولا يعرف من الطائفة العمل بخلافه، وجب أيضاً العمل به إذا كان متحرِّجاً في روايته موثوقاً في أمانته، وإن كان مخطئاً في أصل الإعتقاد[3].
   ولأجل ما قلناه عملت الطائفة بأخبار الفطحية مثل عبد الله بن بكير وغيره، وأخبارِ الواقفة مثل سماعة بن مهران وعلي بن أبي حمزة وعثمان بن عيسى، ومن بعد هؤلاء بما رواه بنو فضال وبنو سماعة والطاطريون وغيرهم فيما لم يكن عندهم فيه خلافه .


[1] في كلامه نحو تناقض.
[2] وهذا تصريح آخر منه بعدم حجيّة روايات الفطحية والواقفة والناووسية ونحوهم.
[3] وهذا تصريح منه بحجيّة قول مطلق الثقة إذا لم نجد ما يخالفه عند الطائفة المحقّة.