بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/11/30

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: دعوى التمسّك بالإجماع :
   نسبوا إلى السيّد المرتضى دعوى الإجماع على عدم حجّية خبر الواحد، بل نسبوا إليه أنه قال ( إنّ الأخبار الآحاد من المعلوم ضرورةً من مذهبنا وحال الطائفة عدمُ جواز العمل بها حتى أنّ شأنها بالنسبة للطائفة شأن القياس بالنسبة لهم) [1] [2] (إنتهى) .
   وقبل أن نذكر الردّ على هذا الكلام يجب أن نذكر كلامَ شيخ الطائفة الطوسي الذي هو والسيد المرتضى تلميذان للشيخ المفيد، ثم بعد وفاة الشيخ المفيد تلمّذ الشيخُ الطوسي على زميله السيد المرتضى رحمهم الله جميعاً، فإنّ كلامه يوضّح كلّ أجوبتنا الآتية، وفيه فوائد كثيرة، فأقول :
   قال الشيخ الطوسي[3]  : ( فأمّا ما اخترتُه من المذهب فهو أن خبر الواحد إذا كان وارداً من طريق أصحابنا القائلين بالإمامة، وكان ذلك مرويّاَ عن النبيّ (ص)  أو عن واحدٍ من الأئمة (عليهم السلام)  وكان ممن لا يطعن في روايته، ويكون سديداً في نقله ـ ولم تكن هناك قرينةٌ تدل على صحة ما تضمنه الخبر، لأنه إن كانت هناك قرينة تدل على صحة ذلك، كان الإعتبار بالقرينة، وكان ذلك موجِباً للعلم ـ جاز العمل به .
   والذي يدل على ذلك : إجماع الفرقة المحِقّة، فإنّي وجدتها مجمِعَةً على العمل بهذه الأخبار التي روَوها في تصانيفهم ودوَّنُوها في أصولهم، لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعونه، حتى أن واحداً منهم إذا أفتى بشيء لا يعرفونه سألوه مِن أين قلت هذا ؟ فإذا أحالهم على كتاب معروف أو أصل مشهور، وكان راويه ثقة لا يُنكَرُ حديثُه، سكتوا وسلَّموا الأمرَ في ذلك وقبلوا قوله، وهذه عادتهم وسجيَّتُهم من عهد النبيّ (ص) ومَن بعدَه مِن الأئمة (عليهم السلام)، ومن زمن الصادق جعفر بن محمد (عليهم السلام)  الذي انتشر العلم عنه وكثرت الرواية من جهته، فلولا أن العمل بهذه الأخبار كان جائزاً لما أجمعوا على ذلك، ولأنكروه، لأن إجماعهم فيه معصوم لا يجوز عليه الغلط والسهو .
   والذي يكشف عن ذلك أنه لمّا كان العمل بالقياس محظوراً في الشريعة عندهم، لم يعملوا به أصلاً، وإذا شذ منهم واحدٌ عمل به في بعض المسائل، أو استعمله على وجه المحاجّة لخصمه، وإن لم يُعلمِ اعتقادُه تَركوا قولَه وأنكروا عليه وتبرّؤوا من قوله، حتى أنهم يتركون تصانيف من وصفناه ورواياتِه لما كان عاملاً بالقياس، فلو كان العمل بخبر الواحد يجري ذلك المجرى لوجب أيضاً فيه مثل ذلك، وقد علمنا خلافه .
   فإن قيل : كيف تدَّعون الإجماعَ على الفرقة المحقّة في العمل بخبر الواحد، والمعلوم من حالها أنه لا ترى العمل بخبر الواحد، كما أن المعلوم من حالها أنها لا ترى العملَ بالقياس، فإن جاز ادعاء أحدهما جاز ادعاء الآخر .
   قيل لهم : المعلوم من حالها الذي لا يُنكَر ولا يُدفع أنهم لا يرون العمل بخبر الواحد الذي يرويه مخالفهم في الإعتقاد ويختصون بطريقِهِ، فأمّا ما يكون راويه منهم وطريقُهُ أصحابُهم، فقد بيَّنّا أن المعلوم خلافُ ذلك، وبيّنّا الفرق بين ذلك وبين القياس أيضاً، وأنه لو كان معلوماً حظْرُ العملِ بخبر الواحد لجرى مجرى العِلْم بحظر القياس، وقد عُلم خِلافُ ذلك .
   فإن قيل : أليس شيوخُكم[4] لا يزالون يناظرون خصومَهم في أن خبر الواحد لا يُعمل به، ويدفعونهم عن صحة ذلك، حتى أن منهم من يقول : "لا يجوز ذلك عقلاً"، ومنهم من يقول : "لا يجوز ذلك لأن السمع لم يرد به"، وما رأينا أحداً منهم تكلم في جواز ذلك، ولا صنف فيه كتاباً ولا أملَى فيه مسألة، فكيف تدَّعون أنتم خلافَ ذلك ؟
   قيل له : مَن أشرتَ إليهم مِنَ المنكِرين لأخبار الآحاد إنما كلَّموا مَن خالفهم في الإعتقاد ودفعوهم عن وجوب العمل بما يروونه من الأخبار المتضمّنة للأحكام التي يروون هم خلافها، وذلك صحيح على ما قدمنا، ولم نجدهم اختلفوا فيما بينهم، وأنكر بعضهم على بعض العمل بما يروونه، إلا مسائل دل الدليل الموجب للعلم على صحتها، فإذا خالفوهم فيها أنكروا عليهم لمكان الأدلة الموجبة للعلم، والأخبار المتواترة بخلافه .
   فأمّا من أحال ذلك عقلاً، فقد دللنا فيما مضى على بطلان قوله، وبيّنّا أن ذلك جائز، فمن أنكره كان محجوجاً بذلك .
   على أن الذين اُشير إليهم في السؤال أقوالهم متميزة من بين أقوال الطائفة المحقة، وعلمنا أنهم لم يكونوا أئمة معصومين، وكل قول علم قائله وعرف نسبه وتميز من أقاويل سائر الفرقة المحقة، لم يُعتد بذلك القول، لأن قول الطائفة إنما كان حجة من حيث كان فيها معصوم، فإذا كان القول صادراً من غير معصوم علم أن قول المعصوم داخل في باقي الأقوال، ووجب المسير إليه، على ما نبيِّنُه في باب الإجماع .
   فإن قيل : إذا كان العقل يجوِّزُ العمل بخبر الواحد، والشرع قد ورد به، فما الذي حملكم على الفرق بين ما ترويه الطائفة المحقة، وبين ما يرويه أصحاب الحديث من العامّة عن النبيّ (ص) ؟ وهلاّ عملتم بالجميع، أو منعتم من الكل ؟
   قيل : العمل بخبر الواحد إذا كان دليلاً شرعياً فينبغي أن نستعمله بحيث قررته الشريعة، والشرعُ يَرى العملَ بما ترويه طائفة مخصوصة، فليس لنا أن نتعدّى إلى غيرها، كما أنه ليس لنا أن نتعدّى من رواية العدل إلى رواية الفاسق .
   وإن كان العقل مجوِّزاً لذلك، أجمع على أن مِن شرط العمل بخبر الواحد أن يكون راويه عدلاً بلا خلاف، وكل مَن أسند إليه ممن خالف الحق لم تثبت عدالته، بل ثبت فسقه، فلأجل ذلك لم يجز العمل بخبره[5].
   فإن قيل : هذا القول يؤدّي إلى أن يكون الحق في جهتين مختلفتين إذا عملوا بخبرين مختلفين، والمعلوم من حال أئمتكم وشيوخكم خلافُ ذلك .
   قيل له : المعلوم من ذلك أنه لا يكون الحق في جهتهم وجهة من خالفهم في الإعتقاد، فأما أن يكون المعلوم أنه لا يكون الحق في جهتين إذا كان ذلك صادراً من خبرين مختلفين، فقد بيّنّا أن المعلوم خلافه، والذي يكشف عن ذلك أيضاً أن من منع من العمل بخبر الواحد يقول : إن ههنا أخباراً كثيرة لا ترجيح لبعضها على بعض، والإنسان فيها مخير، فلو أن اثنين اختار كل واحد منهما العمل بواحد من الخبرين أليس كانا يكونان مختلفين وقولهما حق على مذهب هذا القائل ؟ فكيف يدعي أن المعلوم خلاف ذلك ؟ ويبين ذلك أيضاً : أنه قد روي عن الصادق (عليه السلام) أنه سئل عن اختلاف أصحابه في المواقيت وغير ذلك ؟ فقال (عليه السلام): ( أنا خالفت بينهم ) فترك الإنكارَ لاختلافهم، ثم أضاف الإختلاف إلى أنه أمَرَهم به، فلولا أن ذلك كان جائزاً لما جاز ذلك عنه .
   فإن قيل : اِعتباركم الطريقة التي ذكرتموها في وجوب العمل بخبر الواحد يوجب عليكم قبولها فيما طريقُهُ العِلْم، لأن الذين أشرتم إليهم إذا قالوا قولاً طريقُهُ العِلْمُ من التوحيد والعدل والنبوة والإمامة وغير ذلك، فسُئِلوا عن الدلالة على صحته أحالوا على هذه الأخبار بعينها، فإن كان هذا القدر حجة فينبغي أن يكون حجة في وجوب قبولها فيما طريقُهُ العِلمُ، وقد أقررتم بخلاف ذلك .
   قيل له : لا نسلّم أنّ جميع الطائفة تحيل على أخبار الآحاد فيما طريقُهُ العِلمُ مما عددتموهم، وكيف نسلم ذلك وقد علمنا بالأدلة الواضحة العقلية أن طريق هذه الأمور العقل، أو ما يوجب العلم من أدلة الشرع فيما يمكن ذلك فيه ؟ وعلمنا أيضاً : أن الإمام المعصوم لا بد أن يكون قائلاً به، فنحن لا نجوّز أن يكون قول المعصوم داخلاً في قول العاملين في هذه المسائل بالأخبار، وإذا لم يكن قوله داخلاً في جملة أقوالهم فلا اعتبار بها، وكانت أقوالهم في ذلك مطرحة .


[1] منتهى الدراية، السيد محمدجعفر المروّج، ج4، ص419.
[2] ما يلي : قال الشيخ الأعظم (وأمّا الإجماع فقد ادّعاه السيد المرتضى في مواضع من كلامه، وجعله في بعضها بمنزلة القياس ..)" ثم قال راجع فرائد الأصول ج 1 ص 246 ورسائل الشريف المرتضى ج 1 ص 24 وج 3 ص 309 رسالة إبطال العمل بالخبر الواحد
[3] العدّة في اُصول الفقه، الشیخ الطوسي، ج1، ص126.
[4] المراد هنا هو الشريف السيد المرتضى رحمه الله تعالى.
[5] هذا تصريح بعدم حجيّة خبر الثقة من غير الإثني عشرية.