بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/07/19

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: [ في حجيّة الإجماع ]
   لا يزالُ الكلام حول حجيّة الأمارات الظنيّة، وقد تعرّضنا حتى الآن إلى بعض مصاديق الأمارات الظنيّة، فبحثنا أوّلاً عن حجيّة الظنّ وعدمها، ثم تعرّضنا إلى حجيّة السيرة، ثم إلى حجيّة الظهور، والآن نتعرّض إلى حجيّة الإجماع .
   والسؤال في هذا الفصل هو : هل يكشف الإجماع المحصّل عن الحكم الشرعي أم لا ؟ ثم سنتعرّض للسؤال التالي : هل الإجماع المنقول حجّة أم لا، ثم نتعرّض أخيراً إلى الإجماع المركّب، فنقول :
    هل الإجماع المحصّل يكشف عن الحكم الشرعي أم لا ؟ أو قُلْ : هل هو حجّة شرعاً أم لا ؟
   الجواب هو أننا يجب أن ندرس الأمر على مستويين : الأوّل عقلي، والثاني نقلي .
   أمّا على مستوى العقل فيُدرس البحثُ عادةً من ثلاثة طرق، أو قل بثلاثة بيانات :
الأوّل : قاعدة اللطف، والثاني : قاعدة الملازمة العاديّة بين قول المرؤوسين وقول الرئيس، والثالث : على أساس كاشفية الإجماع عن رأي المعصومين  (عليهم السلام).
أمّا البيانُ الأوّل : فقد قيل بوجوب تلطّف الباري تعالى بعباده، بناءً على قاعدة اللطف العقلية، وهذه قاعدة اهتمّ بها القدماء كثيراً كالشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي .. قالوا وهذا الإستدلال بقاعدة اللطف استدلّ به هنا الشيخ الطوسي وغيرُه من القدماء .. فكما يجب على الرحمن الرحيم أن يُرسل الرسلَ لهداية عباده، يجب عليه جلّ وعلا أن يجنّبهم الإجماعَ على الضلالة في الأحكام الشرعية الفرعية، وعليه يجب على الإمام المهدي عليه صلوات الله أن يَدخل بين المجمعين على الضلالة ليُنقِذَهم من أن يتّفقوا على الخطأ .
   أقول : لا شكّ في كون الباري تعالى لطيف بعباده، ويجب عليه ـ بمقتضى لطفه ورحمته وحنانه وسائر أسمائه الحسنى وصفاته العليا ـ إرسالُ الرسل كي لا يضلّ خلقه وعبادُه عن الحقّ، لكنْ هذا، في الاُمور الخطيرة ـ كما في وجوب الصلاة والصيام والحجّ .. وكما في حرمة شرب الخمر وقطْعِ الرحم .. ـ أمّا في الاُمور الغير خطيرة فلا يجب أن يعرّفنا اللهُ تعالي الحقّ، لا عقلاً ولا عرفاً، على أننا نعلم أنّ المعصومين  (عليهم السلام )قد بلّغوا جميعَ الأحكام المهمّة بلا استثناء، حتى ورد في السواك ـ الذي هو غير واجب ـ أكثرُ من مئة رواية !! فما بالُك فيما هو أقلّ أهميّة ومصلحةً ومفسدةً من السواك ؟!! فما قد ظهر من أئمّتنا هو فوق اللطف بكثير، ولا دليل على أكثر من ذلك .
   على أنه ما الفائدة لو اَوْقَعَ الباري تعالى الخلافَ بين الاُمّة، ومع ذلك قال غالبُ فقهائنا إلى يوم القيامة بما هو خلاف الواقع في مسألة غير مهمّة ـ كما في مسألة هل يجب على الحاجّ الصرورة أن يحلق أو يكفي أن يقصّر ـ ؟!
   ثم هل يكفي اللطف بالقليل من العباد ولا يجب اللطفُ بالنسبة إلى أكثر المؤمنين ؟!
   ثم لو اتّفق كلّ علمائنا على رأيين فقط، وتبيّن لأحدنا خطأُ الرأي الأوّل مثلاً، فهل يجوز لنا أن نغمض أعينَنا ونأخذ بالرأي الآخر من دون التحقّق منه ؟! بذريعةِ أنّ الرأي الثاني لا بدّ أن يكون صائباً وصحيحاً ؟! قطعاً لا، وهذا من الاُمور المتسالم عليها .
وأمّا البيانُ الثاني : وهو ادّعاء الملازمة العاديّة بين قول المرؤوسين وقول الرئيس، فهو ادّعاء قد يصحّ على مستوى السياسة والحكم، ولكنْ في مجالنا، حيث يَحكم الفقهاءُ بالإجماع فقد يحكمون ـ كما هو الغالب ـ على أساس أمارةٍ معيّنة أو أصل عملي، وهم بالتأكيد يُفتون على أساس فهمهم للأدلّة، فقد يصيبوا الواقع وقد لا يصيبونه، فإنِ اطمأننّا بصحّة ما ذهبوا إليه نتّبعهم وإلاّ فلا، وكلّ علمائنا لم يَدّعوا غيرَ هذا، ولم يَدّعوا الملازمةَ العاديّة ..
   وهناك طريق آخر لإثبات حجيّة الإجماع عن طريق الملازمة العاديّة وهو : انّ كلّ فتوى تورّث عادةً إحتمالاً بإصابة الواقع ولو بنسبة ضئيلة، ولكنْ مع تراكم الإحتمالات يصل الإنسان عادةً إلى الإطمئنان بصحّة استدلالهم وصحّة ما ذهبوا إليه .
   والجواب على هذا أنه في مسألة الإجماع يصعب الإعتقادُ بصحّة هذا الكلام، إذ عادةً ما يتأثّر الفقيهُ اللاحقُ بالفقيه السابق في الفتاوَى، إعتماداً على فقاهة السابق وورَعِهِ .. فإنْ كان السابقُ مشتبهاً، ولو في فهْمِ الرواية أو اطمأنّ هو شخصيّاً بصحّة سندها أو بصدورها .. سرى الإشتباهُ إلى الثاني، ثم إلى الثالث .. حتى إذا وصل العدد إلى العشرة مثلاً، هان ادّعاء الإجماع على المسألة .. وأمّا الفقيه الأخير ـ الذي هو خبير بهذه التأثّرات والذي رأى بعضَ أمارات الخطأ عند الأوّل ـ فإنه قد لا يطمئنّ بصحّة ما ذهب إليه الأوّل، وهو يعلم أنّ أغلب من أتى بعد الشيخ الطوسي مباشرةً لم يكونوا محقّقين، وإنما كانوا مقلّدين له فقط، وكلّنا يعلم أنّ كثيراً من إجماعات الأوائل ضعيفةُ المدرَك، لا يُعتمد عليها غالباً، وخاصةً أنّ الروايات ـ في زمانهم ـ لم تكن كلّها مجموعةً ومفهرسةً كما حصل مؤخّراً في كتاب وسائل الشيعة وكتاب جامع أحاديث الشيعة ومع وجود كتب مفهرسة على اُسطوانات تستخدم في الحاسوب، تُستكشَفُ بها كلُّ الروايات التي تحتاج إليها فوراً وبسهولة، فمع عدم وجود كلّ هذه الإمكانات الحديثة، ومع توفّرها في زماننا يصير العُذْرُ عند المتقدّمين ـ في الإشتباهات ـ مقبولاً، وعندنا مرفوضاً . المهم هو أنّ الفقهاء الأقدمين عملوا بمقدار جهدهم التامّ، لكن الإمكانات لم تكن متوفّرةً لديهم، فلم يكونوا ذوي قدرة على التحقيق التامّ، لقصورهم ـ أي لعدم قدرتهم على الإطلاع على جميع الأحاديث الموجودة بين أيدينا اليوم ـ لا لتقصيرهم، ولهذا نقول : إنه يصعب مع ما ذكرنا، الإعتقادُ بصحّة كلّ إجماعات المتقدّمين . نعم يصحّ هذا الكلام في التواتر، وذلك لعدم تأثّر رواية باُخرى .

وأمّا البيانُ الثالث : فهو ادّعاء أنّ المجمعين يدّعون أنّ الحكم الفلاني الذي يُجمِعون عليه يكشف عن حكم الله الواقعي، أو هو ما ينبغي الإجماعُ عليه، حتى ولو كان حكمهم ناشئاً من أمارة أو أصل عملي .
   فأقول : إنِ ادّعَوا أنه حُكْمُ اللهِ الواقعي ولم يدّعوا مَدْرَكاً لذلك، فعادةً ما يطمئنّ الخبير بصحّة قولهم، وذلك لعدم احتمال أن يُجمِعوا جميعاً على قول، ولا يوجد لهم عليه دليل واضح وصحيح، وإلاّ لانجرّ الكلامُ إلى الخدْشة بتقواهم وخبرتهم .. وهذا الإجماعُ يُبرِزُ أنّ هذا الحكم كان مرتكزاً وشائعاً وذائعاً ومعروفاً ومشهوراً بحيث استغنَوا عن ذِكْرِ مَدرَكه وإلى حدّ أفتَوا كلّهم به، فلا داعي ح لأن نستشكل بما ذكره المحقّق الإصفهاني بأنهم قد يكونون اعتمدوا على دليل لا نؤمن نحن بصحّته وبصوابيّته، فنقول : نعم، هذا صحيح، ولذلك نحن لا نأخذ بإجماعهم المدّعَى إلاّ إذا كان مقروناً بقرائنَ تفيدنا الإطمئنان والوثوق بصحّة ما ذهبوا إليه، كأنْ يُجمع كلّ القدماء على الحكم، من زمان عليّ بن بابويه إلى الشيخ الطوسي، وقد لا يضرّ عندنا خِلافُ القديمين ـ العُماني والإسكافي ـ وهذا يعني أنّ جُلّ ادّعائنا هو أنّ إجماعهم هذا، عادةً ما يفيد الإطمئنان   
   وإنْ كان ما أجمعوا عليه ناشئاً من أمارة أو أصل عملي موجودَين أمامَنا فعلينا ـ بمقتضى العقل ـ أن ننظر بأنفسنا إلى هذه الأمارات والاُصول لنرى هل ما أجمعوا عليه صحيح عندنا أم لا ؟ أو قل هل يكشف إجماعُهم عن الواقع أم لا، نعم علينا أن ننظر بأنفسنا إلى أدلّتهم وهذا أمر عقلي واضح، وقد نخالفهم ونقطع بخطأ ما ذهبوا إليه، فلا نستكشف ح رأيَ المعصومين (عليهم السلام )، وكذلك لو رأينا بعض الأدلّة الضعيفة عندنا واحتملنا اعتمادَهم عليها فإنّ العقل لا يحكم علينا بلزوم اتّباع إجماعهم، وكذلك هنا لا نستكشفُ عقلاً رأيَ المعصومين(عليهم السلام ). نعم لا شكّ أنهم غالباً ما يُجمِعُون على ما ينبغي الإجماع عليه، وقد نستكشف الحكمَ الشرعي الواقعي أيضاً .
   مثال ذلك : إجماعُهم على وجوب الخمس في فاضل مؤونة السنة ـ على ما في الخلاف والغنية والمنتهى، ولا يقدح خلافُ رجل أو رجلين كإبن أبي عقيل في هذا الإجماع ـ رغم كثرة ورود روايات في تحليل الأخماس المختلطة في أموال الناس وفي تحليل الأموال المختلطة بالحرام، ففسّروا روايات التحليل بإرادة تحليل الأموال التي تأتي للشيعة مِنَ الذين لا يُخَمّسون، أي تحليل الأموال المختلطة بالخمس وبالحرام .. ونحن نطمئنّ بصحّة ما أجمعوا عليه من وجوب هذا الخمس رغم وجود مدرك لهم، فيه نظر عند البعض، وأقوى دليل على صحّة ادّعائهم إصابةَ الواقع هو أنّ التخميس على خلاف الطبع العقلائي، فمع هذا كيف كان يوجد وكلاء كثيرون يقبضون أخماس الناس في حياة أئمّتنا(عليهم السلام )، حتى إذا مات الإمام الكاظم (عليه السلام ) مثلاً وقف بعض وكلائه عليه طمعاً بما معهم من عشرات آلاف الدنانير .. ولم يُعطوا الإمامَ الرضا(عليه السلام ) هذه الأخماس .. ولو لم يكن خمس فاضل مؤونة السنة واجباً لورد في ذلك عشراتُ الروايات، وليس العكس .. لهذا يجب القول بوجوب الخمس في فاضل مؤونة السنة واقعاً حتى ولو لم يوجد إجماع ..