بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/05/24

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: حجيّة الظهور والإنسداد

المقام الأوّل في كبرى حجيّة الظهور :
   لا شكّ أنّ القوانين الوضعية العقلائية تسير على أساس الألفاظ الموضوعة للناس لإفادة معانيها، وليس على الإنسان أكثرُ من أن يتقيّد بها حتى ولو حصل عنده ظنّ بخلاف ظاهر المعنى اللغوي، كذلك الأمر تماماً في شريعة الله جلّ وعلا، فلا شكّ أنّ الله تعالى يكلّم الناس على أساس نفس القاعدة العقلائية، وأنه لم يخترع طريقة غريبة في التفهيم، فالمتشرّعة يرَون أنّ موضوع الحجيّة هي المعاني الظاهرة لهم من خلال الألفاظ، مهما حصل عندهم من ظنون موافقة أو مخالفة لظهورات الألفاظ، وهذا ما ذهب إليه الشيخ الأعظم الأنصاري وصاحب الكفاية رحمهما الله تعالى .
   بيانُ ذلك : قد يحصل عند الشخص أحياناً ظنٌّ موافقٌ للظهور وقد يحصل ظنّ مخالف للظهور، فإن كانت هذه الظنون ناشئةً من أمارات معتبرة شرعاً، كانت حجّة قطعاً، وستؤثّر بالتالي في تكوين الظهور، وأمّا إن كانت ناشئة من أمارات غير معتبرة فلا قيمة لها شرعاً، فلا ينبغي أن تؤثّر شيئاً على الظهور، ولن تكون حجّة شرعاً . وحينئذ يجب أن نبقى على حجيّة الظهور فقط، وبهذا نكون قد تعبّدنا بألفاظ الشارع المقدّس لأننا عبيده، وله أن يحتجّ علينا بها .   
   ومن هنا تعرف أنّ حجيّة الظهور لا يشترط فيها إفادتها الظنّ بإرادة المتكلّم لها بذريعة أنّ الناس لا يعملون إلاّ بما أفاد الظنّ فقط ولا يتعبّدون بالألفاظ من دون حصول ظنّ بإرادة نفس الظاهر .
   أقول : نحن متعبّدون عقلائياً وعرفاً بنفس الألفاظ وبالقرائن المعتبرة شرعاً فقط، ولا دخل لنا بالقرائن الغير معتبرة شرعاً مهما أفادتنا من ظنون أو أزالت عنّا الظنون . وذلك بدليل أنّ كلّ قضاة العالم يأخذون بظهور كلام المدّعي والشاهد والمقرّ مطلقاً حتى ولو ظنّوا من قرائن غير معتبرة أنهم لا يريدون ظاهر كلامهم .
   ثم لا شكّ في أنّ الأنبياء والمعصومين حينما يكلّمون إنساناً معيّناً في زمانهم فإنهم يريدون إيصال الجواب إلى كلّ زمان ومكان، لأنها وظيفتهم عقلاً وشرعاً، لأنهم خلفاء رسول الله (ص)  في تبليغ رسالات الله سبحانه وتعالى، فإذن يجب أن يكون كلامهم حجّة بلحاظ غير المخاطَبين أيضاً، فلا صحّة لما قاله المحقّق القمّي صاحب القوانين من اختصاص حجّية الظهور بمَن قُصِد إفهامُه . قال : ( وأما السنة المعلومة الصدور عنه صلى الله عليه وآله فيحتمل ضعيفاً أن تكون مثل المصنفات والمكاتيب، والأظهر أن يكون المراد منها تفهيم المخاطبين وبلوغ نفس الحكم إلى مَن سواهم بواسطة تبليغهم، ومع ذلك فلا يعلم من حاله رضاه صلى الله عليه وآله بما يفهمه الغير مشافهين حتى يكون ظنّاً معلوم الحجية، فهذا هو القدر الذي يمكن أن يقال إنه الظن المعلوم الحجية ... ) إلى أن قال : (وثبوت اشتراكنا معهم في أصل التكليف بالإجماع لا يوجب اشتراكنا معهم في كيفية الفهم من هذه الأدلّة، وتوجّه الخطاب إلينا، ولا إجماع على مساواتنا في العمل بالظنّ الحاصل منها لنا) (إنتهى) .
   وقال في بحث الإجتهاد والتقليد : ( المسلّمُ منه حجيّةُ متفاهَمِ المشافَهين والمخاطَبين ومن يحذو حذوهم لأنّ مخاطبته كانت معهم، والظن الحاصل للمخاطَبين من جهة أصالة الحقيقة والقرائن المجازيّة حجّة إجماعاً، لأن الله تعالى أرسل رسوله وكتابَه بلسان قومه، والمراد بلسان القوم هو ما يفهمونه، وكما أنّ التّفهيم يختلف باختلاف اللَّسان كذلك يختلف باختلاف الزّمان، وإنْ توافَقَ اللَّسانان فحجيّةُ متفاهم المتأخّرين عن زمن الخطاب وظنونهم يحتاج إلى دليل آخر غير ما دلّ على حجيّة متفاهم المخاطبين المشافهين لمنع الإجماع عليه بالخصوص ولا يمكن إثبات ذلك إلا بأحد وجهين :
الأوّل : انحصار السّبيل إلى الحكم في العمل بتلك الظنون ودلالة استحالة التّكليف بما لا يطاق عليه وهو ما ذكرناه، لأنّ ذلك هو مقتضى الدّليل العقلي المقتضي لحجيّة ما يصحّ السّبيل إليه من الظَّنون من حيث هي ظنّ، لا من حيث هي أنّه ظنّ خاصّ، إذ الدّليل القطعي لا يدلّ على حجيّة ظنّ خاصّ، والمفروض أنّ الإجماع غير مسلَّم في الظَّن الحاصل لغير المشافهين .
والثّاني : أنّ الكتاب العزيز من قبيل تأليف المصنّفين الَّذين يقصدون بكتابهم بقاءه أبد الدّهر ليفهم منه المتأمّلون فيه بكرور الأيّام على مقدار فهمهم ويعملون عليه، وكذلك المكاتيب والمراسيل والواردة من البلاد البعيدة، سيّما مع مخالفة لسان المكتوب مع المكتوب إليه، فإنّه لا ريب في جواز العمل للمدرّسين في التّأليفات والمتعلَّمين والمتأمّلين فيها وحملها على مقتضى ما يفهمون بقدر طاقتهم، ولا كذلك المكتوب إليهم المكاتيب فإنّه ممنوع، سيّما فيما اشتمل على الأحكام الفرعيّة، إذ الظاهر منها إلقاء الأحكام بين الأمّة وإعلام المخاطبين بالشرائع وإعلاؤها بينهم، وذلك لا ينافي قصد عمل الآتين بعدهم ولو بعد ألف سنة بذلك، لأجل حصول الطَّريقة واستقرار الشّريعة بعمل الحاضرين ومزاولتهم ونقلهم إلى خلفهم يداً عن يد، ولا ينافي ذلك أيضاً تعلَّق الغرض ببقائه أبد الدّهر لحصول الإعجاز وسائر الفوائد، إذ ذلك يحصل بملاحظة البلاغة والأسلوب وسائر الحكم المستفاد منها مع قطع النّظر عن الأحكام الفرعيّة التي هي قطرة من بحار فوائده .." إلى أن قال : ( والحاصل أنّ دعوى العلم بأنّ وضع الكتاب العزيز إنما هو على وضع المصنّفين سيّما في الأحكام الفرعيّة دعوى لا يفي بإثباتها بيّنة)[1] ( اِنتهى كلامه رفع مقامه) .



[1] تجد كلام المحقق القمي في منتهى الدراية، ج4، ص284.