بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/05/04

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: آخر الردود على نظرية قصد الوجه، وبداية البحث حول حجيّة الأمارات

المقام الثالث :
   بعدما عرفتَ إمكانَ قصْدِ رجاء المطلوبية والمشروعية والوجوب في المقام الثاني ـ وهو فيما لو أمكن التعرّف على الحكم الواقعي ـ تصير تعرف بالاَولوية إمكان قصد رجاء المطلوبية مع عدم إمكان التعرّف على الحكم الواقعي، وإنما يمكن التعرّف على الحكم الظاهري فقط ـ أي عِبْرَ خبرِ الثقة مثلاً أو أصل عملي ـ ففي هكذا حالة يصير من الأوضح إمكان الإحتياط وتكرار الصلاة بقصد إصابة الأمر الواقعي . فمثلاً : لو سافرتَ ولم تعرف هل أنك قَطَعْتَ المسافةَ الشرعيةَ أو  لا، فإنك يمكن لك الإعتماد على خبر الثقة، ومع عدم خبر الثقة يمكن لك الإعتماد على استصحاب عدم قطعها، فتصلّي تماماً، ولكن مع ذلك يمكن لك في كلتا الحالتين تكرار الصلاة، مرّةً تماماً ومرّةً قصراً، برجاء إصابة الواقع .

الكلام في حجّية بعض الأمارات

ويقع البحث فيه في عدّة اُمور :
الأمرُ الأوّل : عدم اقتضاء الأمارة للحجيّة لا بنحو العليّة ولا بنحو الإقتضاء .
الأمرُ الثاني : إمكان التعبّد الشرعي بالأمارة الغير علمية وعدم لزوم محال في ذلك عقلاً .
الأمرُ الثالث : في تأسيس الأصل عند الشكّ في حجيّة أمارةٍ ما، وأنّ الأصل هو عدم حجيّة الأمارات .

   بعدما انتهينا من مباحث القطع علينا أن ننتقل إلى مباحث الظنّ، وهنا عدّة اُمور :
  الأمر الأوّل : هل أنّ الحجيّة هي من ذاتيات الأمارة والظنّ كما كان الحال في القطع ؟
   لا شكّ أنك تعلم بأصالة عدم حجيّة الأمارات والظنون، فإنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً، ولكن هذا لا يمنع من إمكان إعطاء بعض الأماراتِ الحجيّةَ ـ كظهور الآيات والروايات وخبر الثقة ـ لبعض أسباب وعلل عقلائية غالبة على مفسدة اتّباع الظنّ . المهمّ هو أنه لا مانع عقلاً من إعطاء بعض الأمارات الحجيّةَ لبعض فوائد، اللهُ أعلم بها، كالتسهيل على الناس وأغلبية موافقة بعض الأمارات للواقع .

  الأمر الثاني : لا شكّ في إمكان التعبّد الشرعي بالأمارة الغير علمية ـ كما هو المشهور ـ وفي عدم لزوم محال عقلي من ذلك، وهو المعبّر عنه بـ الإمكان الوقوعي، وهو أمر مغاير للإمكان الذاتي الذي تكلّمنا فيه في الأمر الأوّل، ولا يوجد من خالف فيه من العلماء، ولكن قد يكون شيء ممكناً ذاتاً ويكون ممتنعاً بالغير، فنحن ندّعي إمكان إعطاء الحجيّة للأمارة ذاتاً وإمكان ذلك وقوعاً ـ أي ليس ممتنعاً بالغير ـ .
   كلامُنا هذا مخالف لما ادّعاه ابنُ قبة[1] من عدم الإمكان الوقوعي لما تخيّله من ترتّب محال أو باطل على التعبّد بالأمارات ـ كما سيأتي من تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة أو استلزامه الحكم بلا ملاك أو اجتماع المتعارضين ـ بعد تسليمه بالإمكان الذاتي .
   وأدلّ دليلٍ على الإمكان الوقوعي هو الوقوع الخارجي مع عدم ترتّب أي محذور .
   وقد ادّعى ابنُ قبة أنّ التعبّد بالأمارات يترتّب عليه ثلاثة محاذير :
   الأوّل : محذور ملاكي فقط
   والثاني : محذور خطابي فقط
   والثالث : محذور ملاكي وخطابي
   والمراد بالمحذور الملاكي هو لزوم اجتماع الضدّين من المصلحة والمفسدة والإرادة والكراهة فيما إذا أخطأت الأمارةُ الواقعَ، وهذا يفوّتُ المصلحةَ الواقعيةَ، كما لو قامت الأمارةُ على حليّة التتن وكان في الواقع محرّماً ! فإذن إعطاءُ الحجيّةِ للأمارة التي قد تخالف الواقع مخالف لغرض المولى من تنزيل الشرائع وبعث الأنبياء .
   والمراد بالمحذور الخطابي هو فيما توافقت الأمارةُ مع الحكم الواقعي، فيَرِدُ الخطابُ الشرعي مرّتين، مرّةً واقعي، ومرّةً ظاهري، وفيه نحو لغو، وأمّا لو تخالفتا فيا ويلتا، كلّ خطاب يفيد مؤدّى يغاير مؤدّى الخطاب الآخر، أو قُلْ : يؤدّي ذلك إلى طلب الضدّين فيما إذا أخطأت الأمارةُ الواقعَ ! وقد يمتنع ح الإمتثال، كما لو أفادت الأمارة وجوب السورة بعد الفاتحة في ضيق الوقت، وكان الحكمُ في الواقعِ الحرمةَ ! فيكون المولى تعالى ـ بإعطائه الحجيّةَ للأمارة ـ قد طلب ضدّ حكمه الواقعي ! وكأنه تعالى يطلب عكس غرضه أو يجيز فعل عكس غرضه ! وهذا حتماً يخالف الحكمة الربّانية ! وقد لا يمتنع كما لو أمكن التكرار فيُصَلّي الجمعةَ أوّلاً ثم يصلّي الظهر، أو يصلّي تماماً أوّلاً ثم يصلّي قصراً، بل تسري المشكلة ح إلى الملاكات أيضاً !
   وتسقط كلّ هذه الإدّعاءات والخيالات بكلمة واحدة : وهي أنّ المولى تعالى يعلم أنّ بعض الأمارات ستخالف الأحكام الواقعية، ولكنه رغم ذلك شرّعها عند الجهل بالحكم الواقعي ـ أي أعطاها الحجيّة الظاهرية ـ لغالبية إصابتها للواقع، فمصلحةُ تشريع حجيّتها أقوى من مفسدة الوقوع نادراً في مخالفة الواقع، ومصلحة التيسير والتسهيل على الناس ـ في إعطاء الحجيّة لخبر الثقة في الموضوعات ـ أهمّ من مفسدة مخالفة الواقع نادراً .
   كما أنه ليس عندنا اجتماع المثلين، وذلك لأنّ أحدهما واقعي مجهول، والآخر ظاهري منجّز، فأين اجتماع المثلين ؟!
   كما أنه لن نقع في التعارض أصلاً، لما عرفته من الجهل بالحكم الواقعي، فأين يقع التعارض ؟ وكيف ؟ وبالتالي لن يقع المكلّف في التزاحم بين وجوب قراءة السورة وبين حرمتها، لأنه إنما عليه ـ مع الجهل بالحكم الواقعي ـ أن يتّبع الأمارة، فهي فقط، المنجّزة عليه، دون الحكم الواقعي، وبالتالي يكون معذوراً عند الله تعالى في الآخرة باتّباعه للأمارة الحجّة، وذلك لجهله بالحكم الواقعي، وبتعبير أصحّ : تكون الأمارةُ منجّزة ومعذّرة له .



[1] أبو جعفر محمد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي، فقيه رفيع المنزلة، من عيون أصحابنا وصالحيهم المتكلّمين . راجع الكنى والألقاب ج 1  ص 437 .