بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/02/27

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: ما هو متعلق القطع والظنّ والشك ؟

الجهة الثالثة : في متعلّق الأقسام، فهل متعلّقُ هذه الأقسام الثلاثة هو خصوص الحكم الواقعي ؟ أم هو الحكمُ الجامعُ الأعمّ من الواقعي والظاهري ؟
   ذهب السيد الخوئي إلى الثاني بتقريب أنه كما يكون القطع والظنّ والشكّ بالحكم الواقعي مورداً للأثر، فكذلك الحال في القطع والظنّ والشكّ بالحكم الظاهري، فلا وجه لتخصيص الحكم بالواقعي .
   واَورد عليه سيدنا الشهيد بما يلي :
أوّلاً : ( إنّ الجمع بين التثليث وتعميم الحكم للواقعي والظاهري مستلزم للتداخل، فإنّ القطع بالحكم الظاهري ظنّ معتبر بالواقع في مورد الأمارات، وشكّ في الواقع في مورد الاُصول العملية، أي هو قطْعٌ من جهةٍ وظنٌّ أو شكٌّ من جهة ثانية ) (إنتهى) .
   أقول : يرد على هذا الكلام أنه لا بأس أن يكون شيء واحدٌ قطعاً من جهة متعلّقٍ، وظنّاً أو شكّاً من جهة متعلّق آخر، كما فيما نحن فيه، بعد فرْضِ أنّ نظر الشيخِ الأنصاري هو الحكم الجامع بين الواقعي والظاهري، فهذا قطَعَ بحجيّة خبر الواحد، وقطَعَ بحجيّة البراءة، فهو من جهةٍ قاطعٌ بحجيّة الأمارة، ومن جهةٍ ظانٌّ بإصابة خبر الثقة هذا للواقع، وأيضاً هو قاطع بحجيّة الأصل العملي الفلاني كالبراءة، ولكنه شاكّ بإصابة هذا الجواز للواقع، ولا إشكال في هذا أصلاً .
   أقصد أنه كما لا مانع من كون إنسان واحد طويلاً بلحاظ وقصيراً بلحاظ آخر، فكذلك الأمر هنا تماماً، فأي مانع من أن يكون أصلُ خبرِ الثقة حجّة من جهة، ونفسُ خبر الثقة يفيدنا الظنّ بالواقع، ولا يفيدنا القطع به، خاصةً مع تعدّد المتعلّق كما فيما نحن فيه ؟!
   لا، بل أيّ أثر للظنّ بالواقع إن لم يكن ذا أثر شرعي ؟! أقصد أنّ التقسيمات إن كانت بلحاظ الواقع فينبغي أن تكون قسمين لا ثلاثة، فإمّا أن يكون الشخصُ عالماً بالواقع ـ كما في الضروريات ـ وإمّا أن يكون جاهلاً به، ولا أثر للظنّ في ذلك، إنْ هذا إلاّ لغْوٌ محض، ولذلك تلاحظ من أبحاث الشيخ الأعظم الأنصاري+ أنه كان ناظراً في التقسيمات إلى خصوص الحكم الظاهري، فقد تظنّ بإصابة الواقع من خلال خبر العامّي مثلاً، أو قُلْ : قد تظنّ بصحّة كلام العامّي فتنظر هل أن خبر العامّي حجّة أم لا، فلم يكن الشيخ الأنصاري ناظراً إلى الحكم الواقعي أصلاً .
   ثم قال السيد الشهيد : (وثانياً : ليس الشكّ في حكم ظاهري ـ كما لو شكّ في حجيّة خبر العامّي ـ  موضوعاً لحكم ظاهري آخر ـ كالبراءة ـ أو قُلْ : ليس الشكّ في حكمٍ ظاهري منجّزاً لحكم ظاهري آخر . توضيحُ ذلك : ليس الجهلُ والشكّ في حكم ظاهري موضوعاً لوظيفة عملية ثابتة بالأمارة أو الأصل، فلا يقع الشكّ في حكمٍ ظاهري ما موضوعاً للبراءة مثلاً أو الإشتغال، ولكن الشكّ في الحكم الواقعي هو موضوع البراءة أو الإشتغال، إذ غرضُ المولى تعالى ونظرُه إنما هو إلى الحكم الواقعي لا غير، والحكمُ الظاهري ليس إلاّ طريقاً صِرْفاً لإدراك الواقع، فليس الشكّ في حجيّة خبر الثقة مثلاً موضوعاً لأصالة الإشتغال مثلاً، وإنما شرّعَ اللهُ تعالى الإشتغالَ للتحفّظ على الواقع لا غير، فلو فرضنا أنّ البيّنة قامت على نجاسة أحد إناءين، لوجب الإحتياط، لكنْ لا مراعاةً للبيّنة، وإنما مراعاةً للواقع، ولذلك أيضاً لو شككنا في حجيّة أمارةٍ ما لوَجَبَ علينا إجراءُ البراءة عن الحكم الواقعي لا عن الحكم الظاهري المشكوك الحجيّة أو المشكوك الوجود، لأنّ إجراء البراءة عن حجيّة الحكم الظاهري المشكوك لا يكفي في براءة الذمّة عن الواقع , وكذا لو دلّ الإستصحابُ على بقاء حجيّة خبر الثقة رغم ارتكابه للصغائر، فإنك يجبُ عليك العمل على أساس حجيّة قوله .
   ولذلك ترانا نقول بأنّ موضوع العقاب إنما هو مخالفة الحكم الواقعي، والعقابُ في الآخرة إنما يناسب مخالفة الواقع لا مخالفة الأمارة، فلو استصحبتَ حجيّةَ خبرِ الثقة الذي يقول بوجوب صلاة الجمعة مثلاً فلم تصلّها فإنك تستحقّ العقاب بمقدار معصية الحكم الواقعي ـ لا بمقدار معصية الأمارة الحجّة ـ وكأنك عصيت الحكمَ الواقعي تماماً، ولا تستحقّ العقاب بمقدار التجرّي فقط، بينما لو كان التنجيزُ ثابتاً على الحكم الظاهري لم يكن معاقباً بغير عقاب التجرّي، كما أنه ليست مخالفةُ الحكم الظاهري موضوعاً للعقاب الاُخروي، فلا معنى لإدخال الشكّ في الحكم الظاهري في تقسيم الشيخ الأعظم الأنصاري)[1] (إنتهى بتوضيحٍ منّي) .
   أقول : وهذا أيضاً يَرِدُ عليه إيرادان :
الأوّل : لا شكّ ولا خلاف بين العلماء في أنّ الجهل والشكّ في حجيّة الأمارة هو الموضوع للأصول العملية، كما لا شكّ عندهم في أنّ بعض الأمارات واردة على بعض، وأنّ بعض الاُصول واردة على بعض، ولذلك ترى كلّ علمائنا يعتبرون أنّ موضوع الاُصول العملية هو عدم وجود أمارة حجّةٍ، فيقولون بأنّ الأمارةَ الحجّةَ واردةٌ على الأصول العملية لأنها تلغي موضوع الأصول العملية .
والثاني: لا شكّ في أنّ موضوع العقاب الاُخروي هو مخالفة الحكم الظاهري، وأنّ الإنسانَ مكلّف بما أتاه وعلِمَهُ لا أكثر، ويبعد عقابُه على مصادفة مخالفته للواقع وبمقدار المعصية الواقعية ـ وإن كان ذلك ممكناً ثبوتاً ـ فلو خالف المكلّفُ أمارةً مثْبِتَةً للتكليف كصلاة الجمعة مثلاً، فخالف الحكمَ الظاهري ولم يصلّها، وصادف أنّه لم تكن صلاةُ الجمعة واجبةً في الواقع، أفلا يستحقّ العقاب ؟ هل ستقول ـ كما هو لازم مبنى سيدنا الشهيد ـ أنه لا يستحقّ العقاب لأنه لم يخالف الواقع ؟! لا شكّ أنك ستقول بأنه يستحقُ العقابَ، ولا يمكن أن تقول بأنه لا يستحقّ العقاب أصلاً، وهذا أقوى دليل على أنّ موضوع الثواب والعقاب إنما هو الحكم الظاهري . على أنه اعترف بذلك في حلقاته الأصولية فقال : ( إنّ حق المولى على الإنسان هل في أن يطيعه في تكاليفه التي انكشفت لديه أو في كل ما يتراءى له من تكاليفه، سواء كان هناك تكليف حقاً أو لا ؟ فعلى الأول لا يكون المكلف المتجرّي قد أخلّ بحق الطاعة إذ لا تكليف، وعلى الثاني يكون قد أخل به فيستحق العقاب، والصحيح هو الثاني لأنّ حق الطاعة ينشأ من لزوم احترام المولى عقلاً ورعاية حرمته، ولا شك في أنه من الناحية الإحترامية ورعاية الحرمة لا فرق بين التحدّي الذي يقع من العاصي، والتحدّي الذي يقع من المتجرّي، فالمتجرّي اِذَن يستحق العقاب كالعاصي) (إنتهى) .

   هذا تمام الكلام فيما ذكره الشيخ الأعظم الأنصاري من التقسيم وموضوعه ومتعلّق الأقسام،


[1] مباحث الاُصول لاُستاذنا السيد كاظم الحائري حفظه الله، ج1، من القسم الثاني، ص211.