بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/02/26

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: حُكْمُ المجتهدِ غير الأعلم

2 ـ حُكْمُ المجتهدِ غير الأعلم
   لا شكّ أنّ المجتهد غير الأعلم ـ بنظر الناس ـ يرى نفسَه الأعلمَ في المسألة التي بحث فيها وبَذَلَ أقصى جهدِه في سبيل معرفة الحكم الشرعي الواقعي أو الظاهري وراجع آراء العلماء وو . نعم، قد يذهب المفضولُ أخيراً إلى الأعلم ويناقشه ـ مع أنه لا يجب على المجتهد أن يذهب إلى الأعلم ويناقشه في كلّ مسألةٍ يقتنع بإصابته فيها ـ فيتغيّر رأيه عند مناقشته للأعلم، وهذا الذهابُ والنقاش كمال فيه لأنه لا يزال يحاول معرفة الواقع، فبعد مناقشته مع الأعلم قد يقتنع بما قاله له الأعلم فيرى نفسَه ـ بعد ذلك ـ أنه لا أعلم منه في هذه المسألة، لأنّ المفروض أنّ رأيه ورأي الأعلم متوافقان، وقد لا يقتنع فيرى نفسَه الأعلم، وقطْعُه حجّةٌ واضحة له وعليه . نعم، إن لم يكن المجتهدُ المفضولُ مطمئنّاً بالحكم الذي توصّل إليه وواثقاً بصحّته فمِنَ الأصلِ لا يكون حجّة، لكن هذا الفرض خارجٌ عن محلّ الكلام .
   ثم إنه ليس من المعلوم أنّ الأعلم يكون دائماً الأعلم في كلّ مسألة، فقد يكون في بعض الأحيان ـ عند استنباطه للحكم المبحوث فيه ـ مبتلى بمرض أو بعارض روحي أو مشكلة حياتية تمنعه من البحث التامّ، فيكون غيرُ الأعلم ـ أي المفضول ـ أعلمَ منه هذه المسألة المبحوث فيها، على أنه لا مانع من تغيّر رأي الأعلم في بعض المسائل، كما هو معلوم في الخارج . إضافةً إلى أنه لا فرق كبير ـ عادةً ـ بين مستوى الأعلم وغير الأعلم فيمكن للمفضول ادّعاءُ أنه أعلم من الأعلم في هذه المسألة المبحوث عنها، وحينئذٍ يكون معنى الأعلم هو الأعلم إجمالاً لا تفصيلاً وفي كلّ مسألة، فإنّ الأعلم حينما كان يكتب رسائلَه العِلْمية كان بمستوى المفضول تقريباً، والصعود على الدرج يكون عادةً درجةً درجة، فإذا ناقش المفضولُ الأعلمَ في مسألة كتبها الأعلمُ حينما كان في بدايات اجتهاده يمكن جداً أن يغلبه المفضول الآن، فإنّ الأعلم لم يقف على قمّة العلم من أوّل اجتهاده كالمعصوم، فيمكن للمفضول أن يغلبه الآن إذا بحث المسألةَ أكثرَ من الأعلم، وإلاّ فسينسدّ باب الإجتهاد .
   وبتفصيل أكثر : إذا كان الإختلاف في الإستظهارات العرفية، فيدّعي المفضول ظهور الكلام في الأمر الفلاني بشكلٍّ لا يتردّد فيه، ويدّعي الأعلمُ أنه ظاهر في أمر آخر، فما هو موضوع الحجّية على المجتهد إنما هو ظهور الكلام عند نفسه لا ظهوره عند غيره، وعلى هذا سيرة كلّ العقلاء والمتشرّعة في العالَم .
   وكذا إذا كان الإختلاف في مسألة عقلية، فادّعى المفضولُ الترتّبَ مثلاً، وادّعى الفاضلُ عدم صحّته، أو ادّعى المفضولُ قبحَ التورية، وادّعى الفاضلُ عدمَ قبحها، فالحجّة هي ما يراه الشخص من خلال عقله وتفكيره، لا ما يراه غيرُه من خلال عقله وتفكيره، فإنّ الأحكام العقلية وجدانية، لا تقبل النقاش عادةً إلاً من باب التنبيه، وذلك كما في الإستدلال على مسلكَي قبح العقاب بلا بيان وحقّ الطاعة، وكما في قاعدة الملازمة بين الحكم العقلي والحكم الشرعي .. وكذا الأمر في سائر الموارد .

* الجهة الثانية : في موضوع التقسيم، وهو تثليث الأقسام التي ذكره الشيخ فقد قال : (إنّ المكلّف إمّا أن يحصل له القطع أو الظنّ أو الشكّ)، ولا شكّ في أنه ناظر في تقسيمه هذا إلى التقسيم النظري ـ أي مع غضّ النظر عن أحكام هذه الأقسام الثلاثة ـ ولا بأس بتقسيمه الثلاثي هذا، لأنّ أبحاث كتابه ثلاثة لا إثنين، بحث القطع وبحث الظنّ وبحثُ الشكّ، ولكلّ موضوعٍ وظيفةٌ، وإلاّ ـ أي لو لاحَظَ الأحكامَ ـ فمن المعلوم أنّ الظنّ قد يدخل في القطع إذا كان معتبراً، وقد يدخل في الشكّ إن لم يكن معتبراً، فتصير الأقسام بلحاظ الحجيّة قسمين فقط إمّا معتبرة وإمّا غير معتبرة .

الجهة الثالثة : في متعلّق الأقسام، فهل متعلّقُ هذه الأقسام الثلاثة هو خصوص الحكم الواقعي ؟ أم هو الحكمُ الجامعُ الأعمّ من الواقعي والظاهري ؟
   ذهب السيد الخوئي إلى الثاني بتقريب أنه كما يكون القطع والظنّ والشكّ بالحكم الواقعي مورداً للأثر، فكذلك الحال في القطع والظنّ والشكّ بالحكم الظاهري، فلا وجه لتخصيص الحكم بالواقعي .
   واَورد عليه سيدنا الشهيد بما يلي :
   أوّلاً : (إنّ الجمع بين التثليث وتعميم الحكم للواقعي والظاهري مستلزم للتداخل، فإنّ القطع بالحكم الظاهري ظنّ معتبر بالواقع في مورد الأمارات، وشكّ في الواقع في مورد الاُصول العملية، أي هو قطْعٌ من جهةٍ وظنٌّ أو شكٌّ من جهة ثانية ) (إنتهى) .
   أقول : يرد على هذا الكلام أنه لا بأس أن يكون شيء واحدٌ قطعاً من جهة متعلّقٍ، وظنّاً أو شكّاً من جهة متعلّق آخر، كما فيما نحن فيه، بعد فرْضِ أنّ نظر الشيخِ الأنصاري هو الحكم الجامع بين الواقعي والظاهري، فهذا قطَعَ بحجيّة خبر الواحد، وقطَعَ بحجيّة البراءة، فهو من جهةٍ قاطعٌ بحجيّة الأمارة، ومن جهةٍ ظانٌّ بإصابة خبر الثقة هذا للواقع، وأيضاً هو قاطع بحجيّة الأصل العملي الفلاني كالبراءة، ولكنه شاكّ بإصابة هذا الجواز للواقع، ولا إشكال في هذا أصلاً .
   أقصد أنه كما لا مانع من كون إنسان واحد طويلاً بلحاظ وقصيراً بلحاظ آخر، فكذلك الأمر هنا تماماً، فأي مانع من أن يكون أصلُ خبرِ الثقة حجّة من جهة، ونفسُ خبر الثقة يفيدنا الظنّ بالواقع، ولا يفيدنا القطع به، خاصةً مع تعدّد المتعلّق كما فيما نحن فيه ؟!
   لا، بل أيّ أثر للظنّ بالواقع إن لم يكن ذا أثر شرعي ؟! أقصد أنّ التقسيمات إن كانت بلحاظ الواقع فينبغي أن تكون قسمين لا ثلاثة، فإمّا أن يكون الشخصُ عالماً بالواقع ـ كما في الضروريات ـ وإمّا أن يكون جاهلاً به، ولا أثر للظنّ في ذلك، إنْ هذا إلاّ لغْوٌ محض، ولذلك تلاحظ من أبحاث الشيخ الأعظم الأنصاري أنه كان ناظراً في التقسيمات إلى خصوص الحكم الظاهري، فقد تظنّ بإصابة الواقع من خلال خبر العامّي مثلاً، أو قُلْ : قد تظنّ بصحّة كلام العامّي فتنظر هل أن خبر العامّي حجّة أم لا، فلم يكن الشيخ الأنصاري ناظراً إلى الحكم الواقعي أصلاً .
   ثم قال السيد الشهيد  : ( وثانياً : ليس الشكّ في حكم ظاهري ـ كما لو شكّ في حجيّة خبر العامّي ـ  موضوعاً لحكم ظاهري آخر ـ كالبراءة ـ أو قُلْ : ليس الشكّ في حكمٍ ظاهري منجّزاً لحكم ظاهري آخر . توضيحُ ذلك : ليس الجهلُ والشكّ في حكم ظاهري موضوعاً لوظيفة عملية ثابتة بالأمارة أو الأصل، فلا يقع الشكّ في حكمٍ ظاهري ما موضوعاً للبراءة مثلاً أو الإشتغال، ولكن الشكّ في الحكم الواقعي هو موضوع البراءة أو الإشتغال، إذ غرضُ المولى تعالى ونظرُه إنما هو إلى الحكم الواقعي لا غير، والحكمُ الظاهري ليس إلاّ طريقاً صِرْفاً لإدراك الواقع، فليس الشكّ في حجيّة خبر الثقة مثلاً موضوعاً لأصالة الإشتغال مثلاً، وإنما شرّعَ اللهُ تعالى الإشتغالَ للتحفّظ على الواقع لا غير، فلو فرضنا أنّ البيّنة قامت على نجاسة أحد إناءين، لوجب الإحتياط، لكنْ لا مراعاةً للبيّنة، وإنما مراعاةً للواقع، ولذلك أيضاً لو شككنا في حجيّة أمارةٍ ما لوَجَبَ علينا إجراءُ البراءة عن الحكم الواقعي لا عن الحكم الظاهري المشكوك الحجيّة أو المشكوك الوجود، لأنّ إجراء البراءة عن حجيّة الحكم الظاهري المشكوك لا يكفي في براءة الذمّة عن الواقع , وكذا لو دلّ الإستصحابُ على بقاء حجيّة خبر الثقة رغم ارتكابه للصغائر، فإنك يجبُ عليك العمل على أساس حجيّة قوله .
   ولذلك ترانا نقول بأنّ موضوع العقاب إنما هو مخالفة الحكم الواقعي، والعقابُ في الآخرة إنما يناسب مخالفة الواقع لا مخالفة الأمارة، فلو استصحبتَ حجيّةَ خبرِ الثقة الذي يقول بوجوب صلاة الجمعة مثلاً فلم تصلّها فإنك تستحقّ العقاب بمقدار معصية الحكم الواقعي ـ لا بمقدار معصية الأمارة الحجّة ـ وكأنك عصيت الحكمَ الواقعي تماماً، ولا تستحقّ العقاب بمقدار التجرّي فقط، بينما لو كان التنجيزُ ثابتاً على الحكم الظاهري لم يكن معاقباً بغير عقاب التجرّي، كما أنه ليست مخالفةُ الحكم الظاهري موضوعاً للعقاب الاُخروي، فلا معنى لإدخال الشكّ في الحكم الظاهري في تقسيم الشيخ الأعظم الأنصاري )([1]) (إنتهى بتوضيحٍ منّي) .



[1] مباحث الاُصول لاُستاذنا السيد كاظم الحائري حفظه الله، ج1، من القسم الثاني، ص211.