الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الفقه

37/06/27

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : عالم البرزخ

أنكر أحد الناس عذابَ البرزخ من القبر إلى يوم القيامة ، وأنكر الحياةَ البرزخيّة والنعيم البرزخي ، ثم قال ولننظر إلى القرآن الكريم وأنا ليس لي شغلٌ بالروايات !! فأقول :

قال الله تعالى [حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ ، كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ (101)] [1] .

وقال عز وجل [وَلاَ تَقُولُوا لِمْن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ (154)] [2] .

أقول : هذه من الآيات الدالّة بوضوح على وجود برزخ يعيشون فيه .

وقال عزّ وجلّ [ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)] [3] .

أقول : وهذه أيضاً من الآيات الصريحة في وجود حياةٍ برزخيّة ، يُرزقون فيها العلم ، لأنه هو المناسب لأرواحهم . وفي الحقيقة أنّ الشهداء يستمتعون بنيل العلوم الربّانيّة والكثيرِ من الحقائق الوجوديّة واللقاء مع الأنبياء والأولياء ، وهم يستمتعون بذلك أكثر بألف ألف مرّة من متاع الطعام والشراب الذي يتوهّمُه بعضُ الناس . وكلّ من قَتَلَ نفسَه الخبيثة في هذه الحياة الدنيا فهو في البرزخ عند الله شهيد لا محالة ، فرسول الله شهيد والإمام الخميني شهيد وأولياء الله شهداء والشيخ بهجت شهيد ، الشهيد هو الذي يقتل نفسه بمعنى يقطع علائق نفسه بهذه الحياة الدنيا وتكون نفسه معلّقة بعالم الله جلّ وعلا .

وقال سبحانه وتعالى [ فَوَقَاهُ اللهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ العَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُواًّ وَعَشِياًّ ، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ (46)][4] . يقول هنا العلاّمةُ الطباطبائي إنّ المراد هنا هو عالم البرزخ ، ثم قال (إذ من المعلوم أن يوم القيمة لا بُكرة فيه ولا عشيّ فهو يوم غير اليوم) . ويمكن مراجعة تفسير الميزان في ج 1 ص 350 بحث تجرّد النفس . يعني بتعبير آخر : يوم القيامة لا يرون فيها شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً ، يقول الله تعالى [ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ ، لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً (13)] [5] أي ليس فيها بكرة وعشيّاً ، لأنه لا يوجد شمس كي يقال الآن جاء الصباح والآن جاء العشيّ .

أقول : والآيةُ صريحة في العطف الزماني ، لاحِظْ قولَه تعالى [النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُواًّ وَعَشِياًّ ، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ ] أي هذا العذاب هو في البرزخ ، أمّا يوم القيامة فسوف يُقال للملائكة [ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ ]

ثم ذكر الشيخُ قولَه عزّ وجلّ [ وَنُـفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا ، مَنْ بَعَثَـنَا مِن مَّرْقَدِنَا ؟! هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ المُرْسَلُونَ (52)] [6] وقال : لو كانوا مسبوقين بحياةٍ برزخيّة لماذا يتفاجؤون ؟!

أقول : الإنسان في البرزخ كالنائم ، لا يشعر بالزمان ، فإنّ تعريف الزمان هو مقدار حركة المتحرّك ، ثم قالوا بأنّ المتحرّك هو المادّي ، أمّا الميّت فهو يعيش حياةً روحانيّة ، أي لا يشعر بالزمان ، فهو من هذه الناحية كالنائم تماماً ، النائم لو نام ساعة أو نام ثلاثمئة سنة لا يشعر بمقدار الزمان ، لأنّ روحه التي تتنعّم في منامها أو في موتها لا تشعر بالزمان، ولذلك أهل الكهف ـ مع أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمئةٍ سنينَ وازدادوا تسعاً باعتبار السنة القمريّة ـ لم يشعروا ولم يعرفوا كم لبثوا حتى قال قائل منهم [ لبثـنا يوماً أو بعض يوم ]، قال الله تعالى [ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ ، إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْـتُمْ إِلاَّ يَوْماً (104)] [7] ، إذن في عالم البرزخ يشعرون بالمدّة بأقلّ قدر ممكن ، يعني لا يستطيعون على قياس الزمان .

بتعبير آخر : هذا الإنسان سواء كان نائماً أو في البرزخ وسواءً كان يتنعّم أو يتعذّب هو لا يشعر بالزمان أصلاً ، كما رأيت في الآيات الكريمة . والسرُّ في هذا هو أنّ كلّ ما هو روحاني ـ وهم الملائكة الروحانيّون وأرواح الأموات ـ لا حركة عنده ، ولا شمس ولا قمر في عالمهم ولا ليل ولا نهار ، حركتهم بالطفرة أي بالإنتقال من صورة إلى صورة ، لا من حالة إلى حالة كالإنسان الذي يمشي من مكان إلى مكان ويكون بذلك بحاجة إلى وقت ، فهو في منامه وفي حياته البرزخيّة لا يتحرّك مثل الماديّين ، وإنما يكون هنا تارةً فينظر مباشرةً إلى أمريكا ، وذلك لأنّ سعته الوجوديّة ـ وهو روح ـ تكون أوسع من سعة نظره وفكره في الدنيا ، بتعبير آخر : الناس في الدنيا [يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)][8] ، أمّا في عالم الأرواح فهو ينـتـقل من صورة إلى صورة ومن عالم إلى عالم في آن ، وأنت تعلم أنّ الآن هو طرف الزمان ، وليس له مدّة ، هو ينـتقل من عالم إلى عالم في آنٍ واحد ، أي بأقلّ من ثانية ، فهو ينطق بلغة إلقاء المعاني ، لا بلغة إلقاء الألفاظ التي تحتاج إلى مدّة زمنيّة ، زمانهم الدهر ، الذي هو فوق الزمان ، لذلك إذا ركع الملك الروحاني فلا مانع عنده من الركوع مئة سنة ، لأنه لا يتعب ـ لكونه روحانيّاً ـ ولا ينعس ولا ينام ، ولا يملّ ، ولا يشعر بالملل مثلَ الإنسان المادّي ... وفي الحقيقة أنّ الميّت يدخل في باطن هذا العالم ، حيث يشرف على عالم الدنيا ، من عالم الأرواح الباطني ، الذي هو مشرف على عالمنا هذا .

بتعبير آخر : عالمُ الروح مغايرٌ تماماً لعالم المادّة ، فالروح تُخلق بالأمر ، أي بشكل دفعي، لا بالخلق التدريجي ، يقول الله تعالى [ أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ ] فالأمرُ إذن غير الخلق ، الأمرُ دفعيٌّ ، والخلقُ تدريجيّ ، في عالم الأرواح كلّ شيء دفعي ، وفي عالم الخلق كلّ شيء تدريجي خاضع لقوانين عالم الخلق . قال الله تعالى [ يسألونك عن الرُّوحِ ، قُلِ الروحُ مِنْ أمْرِ رَبِّي ] [9] ، فأفاد جلّ وعلا أن الروح من سنخ أمره ، ثم عَرَّف الأمرَ في قوله تعالى [ إنما أمْرُهُ إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ، فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء ] [10] ، إذن عالَمُ الأمْرِ هو عالم كن فيكون .

ثم تطرّق الشيخ إلى قوله تعالى [ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّـنَا اثْـنَـتَيْنِ وَأَحْيَـيْتَـنَا اثْـنَـتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ (11)] [11] .

أقول : في الرواية عن الإمام الصادق (عليهم السلام) أنّ ذلك في الرجعة ، والمعنى : قالوا ربّنا أمتّـنا اثـنـتين ، يعني الموت الأوّل المتعارف بـينـنا ، ثم أحيا اللهُ مَن مُحِضَ الإيمانَ محضاً ومَن مُحِضَ الكفرَ مَحضاً ، فيكلّفهم ، فيعصون الله مرّةً اُخرى ، ممّا يعني أنهم مصرّون على المعصية ، فينـتـقم الله تعالى منهم بأوليائه المؤمنين ، ويجعل لهم الكرّةَ عليهم ، فلا يـبقَى منهم أحدٌ إلا وهو مغموم بالعذاب والنقمة والعقاب ، وتصفو الأرض من الطغاة ، ويكون الدين لله تعالى . والرجعة إنّما هي لممحَّضي الإيمان من أهل الإسلام ، وممحّضي النفاق منهم ، قال الشيخ المفيد (دون من سلف من الأمم الخالية) ، ولأنهم رجعوا إلى الدنيا مكلّفين هم يندمون في الآخرة جدّاً ، وهذا أيضاً مقالة الشيخ المفيد في تفسيره .

ومن الآيات الدالّة على البرزخ قوله تعالى [ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِـيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)] [12] ، أي كيف تكفرون بالله ، وكنتم قبل ولوجِ الروح أمواتاً ، ثم أولج الله فيكم الروح ، ثم أماتكم الإماتة المعروفة ، ثم يحيـيكم في البرزخ ، ثم إليه ترجعون .

وفي الكافي عن أبي عبد الله (عليهم السلام) قال : ( إن للقبر كلاماً في كل يوم يقول : أنا بـيت الغربة ، أنا بـيت الوحشة ، أنا بـيت الدود ، أنا القبر ، أنا روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار )[13] .

أقول : في كتاب فروع الكافي لوحده (أبواب أنّ الميّت يزور أهلَه وما بعد) يوجد 46 روايةً في جنّة البرزخ وعذاب البرزخ ، وهو عدد فوق التواتر ، والحمد لله ربّ العالمين .

 


[1] السورة المؤمنون، الآیة 99.
[2] السورة البقرة، الآیة 154.
[3] السورة آل عمران، الآیة 196.
[4] السورة غافر، الآیة 45.
[5] السورة الإنسان، الآیة 13.
[6] السورة يس، الآیة 51.
[7] السورة طه، الآیة 39.
[8] السورة الروم، الآیة 7.
[9] الإسراء، الآیة 85.
[10] السورة يس، الآیة 83.
[11] السورة غافر، الآیة11.
[12] السورة البقرة، الآیة 5.
[13] الكافي، الشیخ الکلینی، ج3، ص242، ح2.