الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الفقه

37/06/07

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : من شرائط الوضوء عدم الضرر

الشرط السابع : أن لا يحصل ضررٌ كبير أو خوفُ ضررٍ كبـيرٍ من استعمال الماء وإلا فهو مأمور بالتيمُّم ، ولو توضأ ـ والحالُ هذه ـ فقد فَعَلَ حراماً ويَـبطُلُ وضوؤه. وأمّا لو كان جاهلاً بالضرر صحَّ وضوؤه إن كان الضرر قليلاً عرفاً ، كما لو كان سيتأخّر شفاؤه بضعة أيام أخرى ، وأمّا إن كان تضرّرُه كـثيراً عرفاً ، فلا يمكن التحقّقُ من بقاء المصلحة والمحبوبـيّة لهذا الوضوء الضرري ، فيُحكَمُ ـ لا محالةَ ـ ببطلان وضوئه على قاعدة (الإشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني) . أمّا لو كان استعمالُ الماءِ يُوقع في الحرج فقط ، ولا يَضُرّ ، فلا شكّ في صحّة وضوئه .

لا شكّ أنك تعلم أنّ قاعدة (لا ضَرَرَ) ظاهرة في حرمةِ أن يَضُرّ الإنسانُ نفسَه ، كما أنك تعلم أنّ رفع الحرج هو إمتناني ، وليس إلزاميّاً . وعليه ففي الحالة الأولى يكون الإنسان مكلّفاً ـ بنحو الوجوب ـ بالتيمّم ، وفي الحالة الثانية يكون الإنسانُ مخيّراً بين الوضوء وبين التيمّم ، وذلك كما لو كان الإنسانُ عطشاناً جدّاً ، ولكنه إن توضّأ فلن يتضرّرَ ، ولكنه سوف يقعُ في حرج شديد ، فله ح أن يتوضّأ بهذا الماء ، وله ـ لِرَفْعِ الحرَجِ الشديد ـ أن يَشرب الماءَ ويتيمّم . ومِثْلُه مَن إذا استعمل الماءَ الباردَ جِدّاً في الهواء البارد جدّاً يقع في حرج شديد وتجمُدُ يداه ، لكنه لا يتضرّر ، فله أن يتيمّم وله أن يتوضّأ . وبتعبير آخر : يبقى ملاك الوضوء قائماً ، ولا دليل على رفعه ، فإنّ الحرج لا دخل له في مرحلة الملاك ، وإنما يُحرَجُ الإنسانُ في مرحلة الإمتـثال ، ولذلك يَـبْعُدُ جدّاً رَفْعُ الحرجِ لملاك الوضوء بالماء البارد وفي الهواء البارد ، ولذلك يصحّ للشخص أن يتوضّأ رغم وقوعه في الحرج الشديد ، وذلك لبقاء المصلحة ـ أي في مرحلة الملاك ـ في وضوئه ، ولذلك يقول العلماء بأنّ أدلّة رفع الحرج إنما ترفع الإلزامَ ، والإمتـنانُ لا يَرفع الملاكَ ، وذلك لعدم الإمتنان في رفع الملاك ، كما لا داعي لِرَفْعِه ، ولذلك لو توضّأ ـ رغم الحرج الشديد ـ لصحّ وضوؤه لبقاء الأمر الفعلي به ، وإن توسوستَ فقُلْ : لبقاء وجود الملاك فيه ، وبالتالي لبقاء محبوبـيّته ولبقاء الأمْرِ به فعلاً ، حتى ولو قلنا برفع منجِّزيّته .

وهذا بخلاف حالةِ الوقوع في الضرر المحرّم ، فإنّ المفسدة الحاصلة فيه تغلب المصلحة في الوضوء في مرحلة الملاك ، فيكون الوضوء مبغوضاً ومحرّماً ، وعلى الأقلّ ـ مع الشكّ في تبدّل المصلحة إلى مفسدة ـ نقول : عندنا شكّ في بقاء الملاك في الوضوء في حال التضرّر من الوضوء . على كلٍّ ، فقد أجمع العلماء على تحريم إيقاع النفسِ في الضرر ، فإذا ثبتت الحرمةُ ، ولم يثبت بقاءُ الملاك والمحبوبـيّة في الوضوء الضرري ، لم يمكن ح القولُ بصحّة الوضوء الضرري، وصعب التقرّب إلى المولى تعالى بفعلٍ يُحَرّمُه .

كما يصعب التقرّب إلى المولى بفعل يحتمل التضرر منه ، وح يصعب القول بصحّة الوضوء المشكوك الضرريّة ، وذلك لعدم إحراز وجود الملاك والمحبوبيّة فيه ، كما لو كان يحتمل حصول إلتهاب في جُرْحِه لو توضّأ . كما ويصعب استصحاب بقاء الملاك في هكذا حالة لكونه استصحاباً في الشبهات الحكميّة ، ولذلك لطروء تغيّرٍ في الحالة عليه ، أي قَبل الجُرح وبَعد الجُرح .

لو كان الإنسانُ جاهلاً بتحقّق الضرر فتوضّأ رغم ذلك ، فهل يكون وضوؤه صحيحاً أو باطلاً ؟ وبتعبير آخر : هل الضررُ الواقعي يُسقط الملاكَ أم لا ؟

الجواب متوقّف على العِلْم ببقاء المصلحة والمحبوبيّة ، فإن لم نعلم ببقاء المصلحة والمحبوبـيّة فح يجب القولُ ببطلان الوضوء . وح يمكن القولُ بأنّ تحريم الإضرار بالنفس هو لمصلحة الإنسان ، فلو فعل فِعْلاً تضرر به واقعاً مع اعتقاده بعدم الضرر فح لا يـبعد القولُ بصحّة وضوئه ، كما لو كان عنده جرح وكان يعتقد أنه بغسله لن يتضرّر ، فتوضّأ ، ثم أخبره الأطبّاء بأنه سوف يتضرّر ، فح قد يقال بصحّة وضوئه ، وذلك لأنّ هذا النهي وهذا التحريم لإضرار النفس هو لمصلحة الإنسان ، وفيه امتنان عليه ...

أقول : لكنَّ الجزمَ بذلك صعب ، لأنه بسقوط الخطاب ، أو قُلْ بالنهي عن الإضرار بالنفس، لا يمكن ادّعاءُ بقاء الملاك ، لعدم وجود كاشف عن بقائه . ثم أليست كلّ التحريمات هي لمصلحة الإنسان ، كشرب الخمر وأكْلِ الميتة ؟! ولذلك يصعب القول بصحّة الوضوء .

نعم ، إذا كان الضرر قليلاً بحيث تطول مدّة الشفاء بضعة أيام أزيد ممّا لو لم يتوضّأ ، ففي هكذا حالة لا يـبعد صحّة ادّعاء بقاء الملاك والمحبوبيّة ، وأنّ النهي عن الإضرار بالنفس في هكذا حالة هو لمجرّد الإمتـنان ولمصلحة الإنسان .

الشرط الثامن : أن يكون الوقت واسعاً للوضوء والصلاة ، بحيث لا يلزم من

التوضُّئِ وقوعُ بعض صلاته خارجَ الوقت ، ولو جزء ركعة ، وإلا وجب التيمُّمُ ، إلا أن يكون التيمم أيضاً عنده يأخذ وقتاً بمقدار وقت الوضوء أو أكـثر ، إذ حينئذ يتعين الوضوء عقلاً . لكن لو توضأ رغم وقوعِ بعض صلاته أو حتى كلّ صلاته خارجَ الوقتِ لَصَحَّ وضوؤه ، وذلك لأنّ الوضوء محبوب ذاتاً ، وهذا أشبه شيء بمن ترك الإنقاذَ وصلّى ، حيث يقول علماؤنا بصحّة صلاته رغم تركه للأهمّ أي رغم استحقاقه للعقاب الأليم.

لا شكّ أنك تعلم بمحبوبـيّة الوضوء ذاتاً ، ويصعب أن يتوضّأ المتديّن إلاّ لغاية راجحة ، كالكون على الطهارة ، فهو يعلم أنّ الله تعالى﴿ يحبّ المتطهّرين[1] وأنّ (الوضوء على الوضوء نورٌ على نور) [2] ، وروى الحسن بن محمد الديلمي في (إرشاد القلوب) قال قال النبي صلى الله عليه وآله : يقول الله تعالى﴿ مَن أحدث ولم يتوضأ فقد جفاني [3] وغيرها من الروايات ، ويفهم من كلّ الأدلّة أنّ نفس الكون على طهارة محبوب شرعاً ، بل كلّ متشرّعٍ يَعرف أنّ الكون على وضوء محبوب شرعاً .

وبعد هذا لا يبقى وجه لبطلان وضوئه إن توضّأ للصلاة في حال استلزام الوضوء لخروج بعض أو كلّ الصلاة من وقتها ، فإنّ الأمْرَ بشيء ـ كالتيمّم ـ لا يستلزم النهيَ عن ضدّه الخاصّ، وذلك كما لو كان يجب عليه الإنقاذُ لأهميّته على الصلاة ، فقام وصلّى ، فإنّ صلاته تصحّ ولا تبطل ، وذلك تمسّكاً بإطلاقات الأمر بالصلاة . وكذلك الأمرُ في التيمّم والوضوء تماماً ، فإنّ التيمّم هو المطلوب في حال ضيق وقت الصلاة ، لكن هذا لا يعني سقوطَ المصلحةِ والمحبوبـيّةِ والأمرِ بالوضوء ، وعلى الأقلّ نتمسّكُ بإطلاقات الأمر بالوضوء الذي هو مستحبّ ذاتاً .

كما لا دليل على استدعاء الصلاة للوضوء ، وإنما تدعو الصلاة إلى نفسها ، والعقلُ يدعو الإنسانَ إلى الكون على الطهارة لتحقيق شرط الصلاة . وبتعبير آخر : يشترط في الصلاة الكونُ على الطهارة ، لكن هذا الإشتراط لا يفهم منه استدعاء الصلاة للوضوء أو التيمّم أو الغسل ، وإنما العقل هو الذي يدعو المكلّف إلى الوضوء لتحقيق شرط الصلاة .

 


[1] سورة البقرة، آية 222.
[2] مَن لا يحضره الفقيهُ، الشيخ الصدوق، ج1، ص41.
[3] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج1، ص268، أبواب الوضوء، ب11، ح2، ط الاسلامية.