الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الفقه

37/05/30

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : من حاز ملك

مسألة 17 : إذا اجتمع ماءٌ مباحٌ ـ كماء المطر مثلاً ـ في مُلْكِ الغَير ، فإنْ استولَى مالكُ الأرضِ عليه ـ كأنْ وضَعَه في خزّانه مثلاً ـ صار له ، وإلا فإن لم يستولي عرفاً على الماء بعملٍ ما ـ كأن يجعل خزّاناً مثلاً لحَصْرِ الماء فيه ـ وإنما قصد الحيازة بنيّته فقط، فمجرّدُ النيّة لا يجعل الماءَ مُلْكاً لصاحب الأرض ، وإنما يَـبقَى الماءُ على إباحته ولو لاستصحاب بقائه على الإباحة 1 ، وعليه فلو أخَذَه غيرُه ـ في حال بقاء الماء على إباحته ـ واستولى عليه فقد مَلَكَه ، إلا أنه عَصَى من حيث التصرفِ في دخوله إلى مُلْكِ الغَير . لكن قد يجهر مالكُ الأرضِ أمامَ الناس بأنه حاز هذا الماءَ وأنه سوف يأخذه ويحصره ليَنـتَـفِع منه فلا يـبعد ح أن يَصيرَ له حقُّ الإختصاص به ، بدليل العرف ، وأنّ سَلْبَ الماءِ منه بعد ذلك التصريحِ يُعَدّ اعتداءً عليه وغصْباً لمائه . أمّا إذا وَقَعَ ماءُ المطرِ في خزّان المالك فقد صار مُلْكاً له قطعاً ، بدليل حكم العرفِ بذلك ، خاصّةً إذا كان المالك قد أعدّ الخزّانَ بنحوٍ بحيث إذا أمطرت السماءُ انحدر الماءُ إلى الخزّان ـ كما هو المعروف في القرى ـ ، والدليلُ على حصول الحيازةِ هو ـ كما قلنا ـ العرفُ ، فإذا رأى العرفُ أنّ مالك الأرض أو مالك الخزّان هو الحائزُ على الماء فأخَذَ الآخرون الماءَ من خزّان الغير من دون إذنه ، فإنهم يكونون مُتَعَدِّين وغاصبين عرفاً وعقلاً ، وبالتالي يكون الوضوء به حراماً وباطلاً ، وكذا الحال في غير الماء من المباحات مثل الصيد ، فمجرّدُ وقوفِ الطيرِ على أرض الغير لا يصيّر الطائرَ ملكَ صاحبِ الأرض ، نعم ، لو وضَعَ صاحبُ الأرض قفصاً ليلتقط به الطيورَ فوقع الطائرُ في القفص ـ حتى مع جهْلِ صاحبِ الأرضِ بوقوع الطائر في القفص ـ فإنّ صاحب القفص يكون هو المالك للطائر ، وكذا الأمر تماماً فيما لو وقعت سمكةٌ في قارب صيد الغير ، فإن لم يَحِزْ صاحبُ القاربِ السمكةَ بمعنى لم يستولي عليها ـ كأنْ لم يعلمْ بها مثلاً ـ فإنّ للناس أن تستملك السمكةَ ، لكنْ لو فُرِضَ أنّ الصيّادَ وضَعَ شبكةً في البحر أو قَفَصاً ليَصِيدَ به فَعَلِقَ السمكُ به من حيث لا يدري صاحبُ القفص أو صاحبُ الشبكة ، فإنّ صاحب الشبكة أو القفص يملك السمكَ العالقَ ، لأنه عرفاً هو الذي استولى بفِعْلِه على السمك ، وكذا الأمرُ فيما لو أطارت الريحُ بعضَ النباتات المباحة إلى أرضه ، فإن استولى عليها صاحبُ الأرضِ ـ بنظر العُرْفِ ـ فقد مَلَكَ ، وإلاّ فإنها تبقى على الإباحة ... فالمسألةُ إذن عُرْفيّة . نعم لو نَبَعَ ماءٌ في أرضه أو نَبَتَ عُشْبٌ في أرضه ـ كالأعشاب البرّيّة مثلاً ـ فله حقُّ منْعِ الغَيرِ من دخول أرضه أو الإستيلاء على ما فيها من ماء وأعشاب .

1 لو أمطرت السماءُ على الأرض ، وصار الماء ينحدر من الأراضي العالية إلى الأراضي السافلة ، فليس لصاحب الأرض العالية أن يقول أنا قصدتُ الإستيلاءَ على كلّ قطرة ماء هطلت على أرضي ولا أسامح صاحبَ الأرض السافلة أن يستـفيد من هذا الماء شيئاً ، وكذلك لو وقف طائر على أرض شخصٍ فليس لصاحب الأرض أن يقول إنّي قصدت حيازةَ هذا الطائر ... كلّ ذلك دليلُه العرفُ ، فهو الذي يشخّص أنّ صاحب الأرض صار حائزاً ومستولياً على ماء المطر والطيور أو لا .

أمّا لو سَلّطَ أرضَه على خزّان الماء لينحدر ماءُ المطر إليه ـ كما هو المعروف في القرى ـ فإنّ ماء المطر يصير ملكاً لصاحب الأرض لأنه تصرّف بالأرض بطريقةٍ بحيث ينزل ماء المطر إلى الخزّان ، فهو بنظر العرفِ حائزٌ على هذا الماء ، لأنه في أرضه وقد أعدّ أرضَه بطريقة منحدرة بحيث ينحدر ماءُ المطر نحو خزّانه ، وهذا يكفي ـ عرفاً ـ في صِدْقِ الحيازة ، وأنت تعلمُ أنّ (مَن حاز مَلَكَ) .

وقد يَحُوزُ الشخصُ على ماءٍ كثير في أرض مشاعة ، وهو وغيرُه يعلمون بأنه لن يستطيع على تملّك كلّ هذا الماء ، لأنّ خزّانه ـ مثلاً ـ لا يَسَعُ لكلّ الماء الموجود المحاز ، ولذلك هو لا يقصد تملّكَ كلّ هذا الماء ، لكن حتى في هكذا حالة ، للحائزِ على الماء حقّ التقدّمِ والأولويّةِ في تملّك ما يريد تملّكَه ، لأنّ كونَه هو الذي حاز ـ أي جَمَعَ هذا الماءَ وحاصَرَه ـ يخوّله عرفاً بأن يكون له حقّ التقدّم على غيره . ولذلك تجدُ العرفَ أنه يرى أنّ آخذ الماء من هذا الماء المحاز من دون إذن الحائز هو متعدٍّ على حقّ الحائز .

نعم لو نَبَعَ ماءٌ في أرضه أو نَبَتَ عُشْبٌ في أرضه ـ كالأعشاب البرّيّة مثلاً ـ فله حقُّ منْعِ الغَيرِ من دخول أرضه أو الإستيلاء على ما فيها من ماء وأعشاب ، وذلك لأنّ هذه الاُمورَ تابعةٌ عرفاً لأرضه ، وهي نماء أرضه ، فهي ـ عرفاً ـ مُلْكٌ له . وهذا بخلاف ما لو علق طائر بين الأشواك في أرضه ، أو وقع في الوحل فلم يستطع على الطيران ، فهذا الطائر يَـبقَى على الإباحة الأصليّة ، وللغير الإستيلاءُ عليه ، لكن المشكلة في دخول أرض الغير ، فلو لم يأذن مالكُ الأرضِ فليس للآخرين دخولُ أرضِه ، رغم إباحةِ الطائر .

إعادةٌ للسؤال السابق مرّةً ثانية : هل مجرّدُ أنْ وَقَعَ ماءُ المطر في أرضه وقَصَدَ التملّكَ فإنه يملكه أم ماذا ؟

لو فرضنا أنّ العقلاء قالوا نعم يملكه ، قلنا : لم يُعلم أنّ الشارع المقدّس قد أمضى هذا الإرتكاز العقلائي .

ولو نظرنا إلى الروايات من قبيل :

ما رواه في الكافي بإسناده عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن حماد (بن عيسى) عن حريز (بن عبد الله) عن زرارة ومحمد بن مسلم وأبي بصير وفضيل وبكير وحمران وعبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) قالا قال رسول الله(ص) : ( مَن أحيا أرضاً مواتاً فهي له )[1] صحيحة السند .

وروى في الكافي أيضاً عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى عن (الحسن)ابن محبوب عن هشام بن سالم عن أبي خالد الكابلي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : > وجدنا في كتاب عليّ(عليه السلام) (أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبةُ للمتقين) ، أنا وأهل بيتي الذين أورَثَنا اللهُ الأرضَ ، ونحن المتقون ، والأرض كلها لنا ، فمَن أحيا أرضاً من المسلمين فليعمّرها وليؤدّ خَراجَها إلى الإمام من أهل بيتي وله ما أكل منها ، فإن تركها أو أخربها وأخذها رجل من المسلمين من بعده فعمّرها وأحياها فهو أحق بها من الذي تركها ، يؤدي خراجها إلى الإمام من أهل بيتي ، وله ما أكل منها حتى يظهر القائم من أهل بيتي بالسيف ، فيحويها ويمنعها ويخرجهم منها ، كما حواها رسول الله (ص) ومنعها إلا ما كان في أيدي شيعتنا فإنه يقاطعهم على ما في أيديهم ويترك الأرض في أيديهم )[2] صحيحة السند ، فإنّ أبا خالد الكابلي هو ـ على ما في الخرايج ـ كنكر وقد سمّته أمه وردان ، وهو رجل واحد ـ لا رجلين ـ وذلك لكثرة ما روي عنه وتكلّموا حوله بهذه الكنية من دون تعيين ، ولتصريح الفضل بن شاذان بأنّ اسمه (وردان) ولقبُه (كنكر) ، وهو ثقة لعدّة قرائن .

لكن السؤال هو أنّ الإحياء إنما يكون في الأراضي ، ولا يكون في الماء إلاّ بالحَصْرِ ، في خزّانٍ أو إناء أو نحو ذلك ، لكنْ هل مجرّد النيّة كافية في التملّك ؟

الجواب : إنْ كان العرفُ يرى أنّ الجهر أمام الناس بأنه تملّكه كافٍ في حصول التملّك ، وأنّ أخْذَ الماءِ بعد ذلك هو تعدٍّ واضحٌ على صاحب الماء وصاحب الأرض ، وأنه غصب ، فلا يبعد ح وجوب الأخذ بنظر العرف ، بمعنى أنّ النظرَ في تشخيص الصغرى هو للعرف ، وإن تردّد العرفُ في ذلك فالأصلُ هو عدم حصول التملّك .

مسألة 18 : إذا دخل المكان الغصبي غفلةً وفي حال الخروج توضأ بحيث لا ينافي فوريته وبشرط عدم التصرّف الزائد عن الخروج ـ أي التصرّف المبغوض عرفاً ـ فالظاهر صحتُه لعدم حرمته حينئذٍ2 ، وكذا إذا دخل عصياناً ثم تاب وخرج بقصد التخلص من الغصب على إشكال ضعيف . وإن لم يَتُبْ ولكنه يتوضّا وهو خارج من الأرض المغصوبة ، لكنْ لا بقصد التخلص فلا شكّ في مبغوضيّة هذا الوضوء شرعاً وعقلاً ، لأنه تصرّفٌ واضح في أرض الغَير بلا إذنه ، فلا محالة يكون وضوؤه حراماً ملاكاً وفعليّةً ـ ولو بلحاظ الدخول ابتداءً بسوء اختياره ـ وبالتالي سوف يكون باطلاً .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

2 لا شكّ في كون الوضوء ح عبادةً محبوبةً لدى الباري سبحانه وتعالى ، ولا مانع ح من القول بصحّته ، تمسّكاً بإطلاقات الوضوء . وبتعبير آخر : هو مضطرٌّ للخروج شرعاً وعقلاً ، وهو يخرج فعلاً ، فلا حرمة إذن ولا مبغوضيّة ، طبعاً بشرط عدم التصرّف الزائد عن مقدار الخروج .

وكذا لو دخل عصياناً ثم تاب وخرج بقصد التخلص من الغصب ، وذلك لنفس السبب تماماً ، والتوبةُ أسقطت الذنب السابق ، فلا وجه لأن يكون الخروج منهيّاً عنه بالنهي السابق، ولا بنهي فعلي ، وذلك لتوبته ولخروجه بقصد التخلّص ، فإذن يجب أن يكون وضوؤه محبوباً ومقرّباً إلى الله جلّ وعلا.


[1] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج17، ص326، أحيا أرضاً مواتاً فهي له، باب1، ح1، ط الاسلامية.
[2] شرح اصول الكافي، الملا صالح‌ المازندراني، ج7، ص35.