بحوث الفقه

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

37/04/24

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : قاعدة الفراغ في الوضوء
مسألةٌ : لو كان بعض أعضاء وضوئه متنجّساً، ونسي النجاسةَ وتوضّأ، ثم بعد وضوئه شكّ في تطهيره للموضع المتنجّس للشكّ في التفاته لوجود النجاسة أثناء وضوئه، فهل يبني على صحّة وضوئه بناءً على قاعدة الفراغ أم ماذا ؟ وماذا لو علم بعدم التفاته للنجاسة ؟ 
الجواب : لا شكّ في أنّ قاعدة الفراغ لا تجري إلاّ فيما إذا كان الشخصُ يَعلم بالحكم والموضوع وشكّ ـ بعد الفراغ من العمل ـ في أنه هل تصرّف صحيحاً، أم أنه ـ حين العمل ـ كان ساهياً أو ناسياً لبعض الشرائط أو الأجزاء أو أنه أخطأ في العمل لعدم التفاته .
دليلُنا ما ورد في الروايات :
فقد روى في الفقيه بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال : ( إذا شكّ الرجل بعدما صلّى فلم يدرِ أثلاثاً صلّى أم أربعاً وكان يقينُه حين انصرف أنه كان قد أتمّ لم يُعِد الصلاةَ، وكان حين انصرف أقربَ إلى الحقّ منه بعد ذلك )، ورواها ابنُ إدريس في آخر السرائر نقلاً من كتاب محمد بن علي بن محبوب عن يعقوب بن يزيد عن ابن أبي عمير عن محمد بن مسلم، صحيحة السند .
  لاحِظْ هذه الرواية ـ ومثلُها ما بعدها ـ تعرف أنّ هذا الشخص الشاكّ كان يعرف كيفية الصلاة، إلاّ أنه شكّ ـ بعد الفراغ من الصلاة ـ في صحّة عمله، فهنا من المؤكّد أنّ العقلاء سيقولون له يجب عليك أن تبني على أنك كنت ملتفتاً حين العمل وأنّ الأصل العقلائي أنك لم تسهو ولم تخطئ ولم تنسَ، فيجب عليك أن تبني على صحّة العمل وعدم الوسوسة بعد الفراغ، وهذا تماماً هو الذي صدر من الشارع المقدّس، لا أكثر .
وروى في التهذيب بإسناده ـ الصحيح ـ عن الحسين بن سعيد عن فُضالة(بن أيوب) عن أبان بن عثمان[1] عن بُكَير بن أعيَن(مستقيم جداً ومشكور جداً) قال قلت له : الرجل يشكّ بعدما يتوضّأ ؟ قال : ( هو حين يتوضّأ أذكرُ منه حين يشكّ ) . أقول : هذه الرواية ـ ظاهراً ـ مرويّة عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ذلك لأنّ بُكَيراً هذا يروي رواياتِ الوضوء عنه (عليه السلام) . وعلى أيّ حال لا شكّ في أنّ بُكَير لم يروِ هذه الرواية عن غير المعصوم وإلاّ لكان غاشّاً في أسانيد الروايات بل لكان غاشّاً في دين الله عزّ وجلّ، وحاشا لمثل بُكَير أن يرتكب مثل هذا . المهم أنّ هذه الرواية موثّقة السند . وكما قلنا في الرواية السابقة، هو بعد الفراغ قد ينسى، فمن الطبيعي أن يقول له الشارعُ المقدّس إبنِ على صحّة العمل .
وهذا التعليل العقلائي من الإمام (عليه السلام) يفيدنا أيضاً أنّ قاعدة الفراغ هي قاعدة عقلائية، لا محض تعبّد من دون سبب عقلائي، وبالتالي هي أمارة بوضوح لا أصل . ولذلك تلاحظ أنّ كلّ اللوازم تَثبُتُ بقاعدة الفراغ، فهي من قبيل البناء على تذكية اللحم المشترى من سوق المسلمين وطهارة مأكولاتهم وصحّة العقود والطلاقات والإجارات وما يترّتّب على ذلك ...
مثال ذلك : لو كان محل وضوئه من بدنه نجساً فتوضّأ وشكّ بعده في أنه طهّره أم لا فإنه يبني على التطهير قبل الوضوء فلا يجب التطهير لما يأتي من أعمال، وكذا وضوؤه محكوم بالصحّة، ودليل المسألتين قاعدة الفراغ، فإنّ التطهير مقدّمة شرعية ومتشرّعية للوضوء، ولذلك يدخل في مقدّمات الوضوء، فيبني على التطهير، إلاّ مع علمه بعدم التفاته حين الوضوء إلى الطهارة والنجاسة، والروايتان السابقتان صريحتان في ذلك .
   وقريب منهما صحيحة الفضيل بن يسار قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : أستتمّ قائماً فلا أدري ركعتُ أم لا ؟ قال : ( بلى قد ركعتَ، فامضِ في صلاتك، فإنما ذلك من الشيطان )[2] فلم يقل الإمام (إبنِ على صحّة العمل) وإنما قال ( بلى قد ركعتَ ) أي بناءً على أصالة أنّ الإنسان حين العمل يكون أذكر منه حين الفراغ يجب أن يقول له العقلاء (بلى قد ركعت) وذلك لأصالة الإلتفات العقلائية أو قُلْ لأصالة الصحّة العقلائية، إذن فهذه الرواية إشارةٌ إلى كون قاعدة الفراغ أمارة لا أصلاً عملياً، وأنّ الإمام (عليه السلام) حين اعتبره قد ركع فإنّ ذلك يعني أنّ عليه أن يبني على التفاته حين العمل، وأنّ شكّه بعد الصلاة وسوسةٌ من الشيطان .
فإذن النظر في هذه الروايات إنما هو إلى احتمال طروء الغفلة أو السهو أو النسيان فنفاها الشارع المقدّس، واعتبر الشخص ـ الذي هو في مقام الإمتثال ـ ملتفتاً .
وقد تقول : يوجد إطلاقات يمكن الإعتماد عليها وهي لا تشترط أن يكون عند الشخص علم بالموضوع والحكم وأن يكون محتملاً للإلتفات أثناء العمل وهي :
 ما رواه في التهذيب بإسناده ـ الصحيح ـ عن أحمد بن محمد(بن عيسى) عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن حمّاد بن عيسى عن حريز بن عبد الله عن زرارة قال قلت لأبي عبد الله(عليه السلام) : رجل شكّ في الأذان وقد دخل في الإقامة ؟ قال : ( يمضي )، قلت : رجل شكّ في الأذان والإقامة وقد كبّر ؟ قال : ( يمضي )، قلت : رجل شكّ في التكبير وقد قرأ ؟ قال : ( يمضي )، قلت : شكّ في القراءة وقد ركع ؟ قال : ( يمضي )، قلت : شكّ في الركوع وقد سجد ؟ قال : ( يمضي على صلاته )، ثم قال : ( يا زرارة، إذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء ) صحيحة السند،
  وفي التهذيب أيضاً عن أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسن بن محبوب عن علي بن رئاب عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : ( كل ما شككت فيه بعدما تفرغ من صلاتك فامضِ ولا تُعِد ) [3] صحيحة السند أيضاً.



[1] قال عنه علي بن الحسن بن فضّال الفطحي إنه كان ناووسياً، والناووسي هو الذي وقف على الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) وقال عنه إنه حيّ لن يموت حتى يَظهَرَ ويَظهَرُ أمرُه، وهو القائم المهدِيّ . وعن الملل والنحل : وقالوا إنّ عليّا ً(عليه السلام) مات وستنشقّ الأرض عنه قبل يوم القيامة فيملأ الأرض عدلاً، قيل : نُسِبوا إلى رجل يُقال له ناووس، وقيل : إلى قرية يُقال لها ذلك . ثم إنه لا شكّ في وثاقة أبان بن عثمان لشهادة الكشي أنّ (العصابة أجمعت على تصحيح ما يصحّ عن هؤلاء وتصديقهم لما يقولون ... وهم : ... وأبان بن عثمان ...)، والصدوق في الفقيه يروي عنه مباشرة .
[2] راجع وسائل الشيعة، الحر العاملي : ج 4، ص 936،  ب 27 من أبواب الخلل أحاديث 1، 2 و 3، الاسلامية . لعلّك تذكر بأنّ قاعدة الفراغ ناظرةٌ إلى الشكّ في صحّة العمل، وقاعدةُ التجاوز ناظرةٌ إلى الشكّ في أصل الوجود، وهاتان القاعدتان هما أمارات وليستا أصولاً عملية .
[3] راجع وسائل الشيعة، الحر العاملي : ج 5، ص 342، ب 27 من أبواب الخلل أحاديث 1، 2 و 3، الاسلامية..