بحوث الفقه

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

37/04/21

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : الإسباغُ في الوضوء والإسراف
 مسألة 45 : يستحبّ الإسباغُ في الوضوء، وهو غسل الوجه واليدين جيّداً ومن دون تباخل في صرف الماء ومن دون إسراف، فإنّ الإسراف في الماء وغيرِه مكروه، وقد يحرم إذا وصل إلى حدّ المنكر عقلائيّاً، وقد مَرَّ سابقاً في مستحبّات الوضوء أنه يستحب أن يكون ماء الوضوء مع مقدّماته ـ مِن غسْلِ اليدين والمضمضة والإستنشاق ـ بمقدار مُدّ وهو 737 غراماً، وإذا غسلتَ وجهَك واليدين مَثْنَى مَثْنَى ـ كما وَرَدَ في روايات مستفيضة ـ فقد أسْبَغْتَ وضوءَك .
عن الحسين بن سعيد عن صفوان(بن يحيى) عن (عبد الله)ابن مسكان عن محمد(بن علي) الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ( أسبغِ الوضوءَ إن وجدتَ ماءً، وإلا فإنه يكفيك اليسير )[1] صحيحة السند، وهي تفيد استحباب إكمال الوضوء بماء وافٍ وعدمِ التباخل فيه كأنه يمسح وجهه ويديه مسْحاً، ولا يعني الإسراف فيه، ومثلها ما رواه في ثواب الأعمال عن أبيه عن محمد بن يحيى عن العمركي (بن علي بن محمد البوفكي النيشابوري شيخ من أصحابنا ثقة) عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) عن أبيه جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال قال رسول الله (ص) : ( مَن أسبغ وضوءه، وأحسن صلاته، وأدى زكاة ماله، وكَفَّ غضبَه، وسجن لسانه، واستغفر لذنبه، وأدى النصيحة لأهل بيت نبيه فقد استكمل حقيقة الإيمان، وأبوابُ الجنة مفتحة له )[2] صحيحة السند .
وقد ذكرنا سابقاً في (فَصْلٌ في بعض مستحبات الوضوء) وقلنا أنْ يكونَ وضوؤه مع المستحبّات بمُدٍّ وهو 737 غ، وأنْ يَغْسِلَ كلاًّ مِنَ الوجه واليدين مرتين مرّتين , ومَن فَعَلَ ذلك فقد أسْبَغَ وضوءَه، وأنّ هذا هو مقتضى الجمع بين الروايات .
 ( نَظْرَةٌ إلى الإسْراف )
معنى الإسراف هو الإفراط، أو قُلْ هو مجاوزة القصد والإعتدال، قال الله تعالى [وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً (67)] [3]، وقال تعالى [ .. وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ (141)] [4]، وقال [ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي القَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً (33)] [5].
قد يكون الإسرافُ مكروهاً، وهو الإسراف العقلائي الذي جرت السيرة العقلائيّة عليه، فإنه من غير المعقول أن يكون كلّ إسرافٍ محرّماً وإلاّ لوقع الناس في الوسوسة والحرج العظيم، ولا أقلّ من جريان البراءة من تحريمه عند الشكّ في التحريم . وقد يكون حراماً إذا كانت قيمة الماء معتدّاً بها وكان سرفها منكراً عقلائيّاً، أي متجاوزاً للسيرة العقلائيّة، فيدخل ذلك ح في [ المنْكَر ] قال اللهُ تعالى [وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ] [6] . وروى في الكافي عن علي بن محمد(بن ابراهيم بن أبان الرازي المعروف بـ علاّن الكُلَيني ثقة عين) وغيرِه عن سهل بن زياد(القمّي الرازي أي من الريّ أي الطهراني اليوم، ثقة عندي) عن محمد بن الحسن بن شمون(واقف ثم غلا وكان ضعيفاً جداً فاسدَ المذهب) عن حمّاد بن عيسى عن حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ) إنَّ لله ملكاً يكتب سَرْفَ الوضوءِ كما يكتب عُدوانَه ([7] أي أنّ سرْفَ الماءِ هو بمثابة العدوان والظلم . بل قد ورد أنّ الإسراف هو من الكبائر، فقد روى في عيون الأخبار بأسانيده ـ أي قال : حدّثني عبد الواحد بن محمد بن عبدوس النيسابوري العطّار قال : حدثني أبو الحسن علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري قال : ـ قال أبو محمد الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام) في كتابه إلى المأمون (لعنه الله) قال : (الإيمان هو أداء الأمانة، واجتناب جميع الكبائر، وهو معرفة بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان ... واجتناب الكبائر وهي قتل النفس التي حرم الله تعالى، والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف، واكل مال اليتيم ظلما، واكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به من غير ضرورة، وأكْل الربا بعد البينة، والسحت، والميسر وهو القمار، والبخس في المكيال والميزان، وقذف المحصنات، والزنا، واللواط، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، ومعونة الظالمين، والركون إليهم، واليمين الغموس، وحبس الحقوق من غير عسر، والكذب والكبر، والإسراف والتبذير، والخيانة، والإستخفاف بالحج، والمحاربة لأولياء الله، والإشتغال بالملاهي، والإصرار على الذنوب)[8] وهي مصحّحة السند، وذلك لأنّ عبد الواحد المذكور ثقة، فإنّ الشيخ الصدوق يروي عنه مباشرة ويذكره مترضياً عليه فلا يحتمل أن يكون مجهولاً أو كذاباً. وعليّ بن محمد بن قتيبة أيضاً ثقة لاعتماد أبي عمرو الكشي عليه في كتاب الرجال وكان فاضلاً وكان راويةَ كُتُبِه، وكان له كتب، ورَوَى عنه أعاظمُ رواتنا مثل أحمد بن إدريس والحسن بن حمزة اللذين هما من أعاظم فقهائنا، فهو إذن ليس مجهولاً عندهم على الأقلّ . من مجموع ما ذكرنا يطمئن الإنسان بوثاقة عليّ بن محمد المذكور .
مسألة 46 : يجوز الوضوء برمس الأعضاء كما مَرّ سابقاً في مسألة 21، ويجوز برمس أحدها وإتيان البقية على المتعارف، بل يجوز التبعيض في غسل عضو واحد مع مراعاة الشروط المتقدمة من البَدأ بالأعلى وعدم كون المسح بماء جديد وغيرهما .
ذكرنا مسألةَ الوضوء الإرتماسي في مسألة سابقة تحت رقم 21، وقلنا هناك بأنّ المهم هو حصول الغَسل كيفما حصل ـ بدليل الإطلاق في آية الوضوء وفي الروايات ـ سواء رَمَسَ بعضَ الأعضاء وصَبّ الماءَ على البعض الآخر، أو رَمَسَ بعضَ أجزاء العضو وصَبّ على جزئه الآخر .. المهم في الوضوء الإرتماسي وغيره هو مراعاةُ الأعلى فالأعلى، ولا بدّ أن يكون مسحُ الرأس والقدمين ببلّة اليد من الوضوء، لا بماء خارجي، فإذن عليه أن لا ينوي غسْلَ كلا يديه بالتمام، وإنما ينوي ترْكَ جزءٍ من اليسرى، فيمسح يسراه بيمناه ليُتِمّ غَسْلَ اليسرى بذلك، ثم يمسح ببقيّة بلّة يديه رأسَه وقدميه .. والظاهر أنّ ما ذكرناه في المتن والشرح مجمع عليه بين العلماء .


[1] وسائل الشيعة، الحر العاملي : ج 1، ب 52 من أبواب الوضوء، ح 4، ص 341، الاسلامية.قال الجوهري في الصحاح  ج 4 مادّة (سبغ) : ( شيء سابغ أي كامل واف، وسبغت النعمة تسبغ بالضم سبوغاً : اتسعت، وأسبغ الله عليه النعمة أي أتمها، وإسباغ الوضوء إتمامه، وسبغت الناقة تسبيغاً : ألقت ولدها وقد أشعر، وذنب سابغ أي واف، والسابغة : الدرع الواسعة) (.إنتهى) . وقال في لسان العرب : ( وكلّ شيء طال إلى الأرض فهو سابِــغ، وقد أسْبَغَ فلانٌ ثوبَه أي أَوْسَعَه، وإسباغُ الوضوءِ : المبالغةُ فيه وإتمامه، وأَسْبَغَ اللهُ عليه النعمةَ : أَكْمَلَها وأتمّها ووسّعها، وإنهم لفي سَبْغَةٍ مِنَ العَيشِ أي سَعَة) (إنتهى) .
[2] وسائل الشيعة، الحر العاملي : ج 1، ب 51 من أبواب الوضوء، ح 2، ص 342، الاسلامية. .
[3] سورة الفرقان : 67..
[4] سورة الأنعام : 41..
[5] سورة الإسراء : 33..
[6] سورة النحل : 90..
[7] وسائل الشيعة، الحر العاملي : ج 1، ب 52 من أبواب الوضوء، ح 2، ص 340، الاسلامية..
[8] وسائل الشيعة، الحر العاملي : ج 11، ب 46 من أبواب جهاد النفس، ح 33، ص 260، الاسلامية..