بحوث الفقه

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

37/04/07

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : لو ترك التقيةَ في مقام وجوبها ومسح على البشرة
 مسألة 36 : لو ترك التقيةَ في مقام وجوبها ومسح على البشرة فإنّ مسْحَه على البشرة يكون حراماً شرعاً، لأنّ العمل الضرري حرام، فيكون مسْحُه باطلاً، وبالتالي يكون وضوؤه باطلاً، وأمّا إن كانت التقيّة مداراتيّة فلا شكّ في صحّة مسْحِه .
لا شكّ في أنّ مفاد (لا ضرر) هو حرمة العمل الضرري سواء كان في حال التقيّة أو غيرها، وذلك بقرينة سياق ما رواه في الكافي عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد عن أبيه عن عبد الله بن بكير(فطحي ثقة) عن زرارة عن أبي جعفرt قال : ( إنّ سَمُرَة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار ـ وكان منزل الأنصاري بباب البستان ـ وكان يمرّ به إلى نخلته ولا يستأذن، فكلّمَه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء، فأبى سمرة، فلمّا تأبّى جاء الأنصاري إلى رسول الله wفشكا إليه وخبّره الخبر، فأرسل رسولُ الله وخبّره بقول الأنصاري وما شكا، وقال : إن أردت الدخول فاستأذن، فأبَى، فلمّا أبَى ساومه حتى بلغ به من الثَمَن ما شاء الله، فأبَى أن يبيع، فقال w: ( لك بها عذق يُمدّ لك في الجنة !) فأبَى أن يقبل، فقال رسول الله للأنصاري : (إذهب فاقلعها وارمِ بها إليه، فإنه لا ضَرَرَ ولا ضِرار)[1] موثّقة السند، فأنت تفهم منها ـ بوضوح ـ أنه يحرم الإضرارُ بالغَير، فكذلك ـ بمقتضى وَحدة السياق ـ يجب أن يكون معنى (لا ضرر) هو أيضاً حرمةُ الإضرار بالنفس، هكذا يَفهم كلُّ العرف، والشرعُ يكلّم الناسَ، ومعنى النهي عن الإضرار بالنفس هو أنّ الله جلّ وعلا يُبْغِضُ الإضرار بالنفس، ممّا يعني أنّ الإنسان إذا مسح على البشرة وخالف التقيّة الضررية فإنّ الله تعالى يبغض عمله هذا، وهذا البُغْضُ يَمنع من تحقّق العبادة بهذا المسح . المهم هو أنّ الإنسانَ في حال الضررِ مكلّفٌ بحكمٍ واقعيّ ثانويّ وهو هنا المسح على طبق التقيّة، فالمسح طبقَ الحكم الواقعي الأوّلي يرتفع في هكذا حالة، ولا يبقى، وهذا ما أجمعت عليه الأمّة ظاهراً ولا أعلم فيه مخالفاً، وأنت تعلم أنه لا يمكن أن يتّصف الحرامُ بالعبادة، أي أنه لا يصحّ أن يكون الحرام المبغوضُ عبادةً مقرّبةً إلى المعبود لأنهما متضادّان . ولك أن تقول إنّ مسحه على البشرة مبغوض شرعاً وعقلاً، فيكون الوضوء باطلاً لمبغوضيّته . ولذلك نقول : إنْ كانت التقيّة معلومةَ الضرر لوجب القول ببطلان وضوئه لأنّ إيقاع النفس بالضرر حرام، فتكون العبادة باطلة، كما في غسل الجنابة في الهواء البارد وبالماء البارد الذي نعلم بترتّب الضررِ عليه .
وكذلك الأمْرُ إن كان يحتمل في مخالفة التقيّةِ الضررُ المعتدّ به عقلائيّاً فلا شكّ أيضاً في الحرمة التكليفيّة، حتى ولو لم يترتّب ضرر واقعاً، وذلك لأنّ تارك التقيّة كتارك الصلاة، كما سيأتيك في الرواية بعد قليل، وحتى مع فرْضِ الإتيانِ بنيّة القربة يظهر أنّ العمل مبغوض مبغوضيّة تامّة، فأنت تشعرُ في وجدانك أنك لو سألت المعصوم عن المسح على البشرة مع احتمال حصول ضرر معتدّ به عقلائيّاً لقال لك إنّ الله يُـبْغِضُ لك ذلك، كما يبغض إلقاء النفس بالتهلكة، ولذلك يصعب الرجوعُ في هكذا حالة إلى البراءة من تقييد الوضوء بعدم الإتيان بالفعل المخالف للتقيّة أو إلى استصحاب بقاء ملاك المسح على البشرة وبقاء ملاك الوضوء الواقعي الأوّلي .
وأمّا إن كانت التقيّة مداراةً وتحبّباً ـ كما في مساجد أهل العامّة الذين يكرهون هكذا وضوء مخالفاً لهم، ولكن مع ذلك لا ضرر من مخالفتهم لا على النفس ولا على الإسلام ـ فلا شكّ في عدم رفع الأحكام الواقعيّة الأوليّة وعدمِ تبدّل المصلحة في الوضوء الواقعي إلى مفسدة ومبغوضيّة . ونحن لا نستدلّ هنا باستصحاب بقاء الملاك، لأنه استصحاب في الشبهات الحكميّة، وهو استصحابٌ باطل، وإنما نستدلّ بالعلم ببقاء المصلحة، وذلك لعدم وجود داعٍ لرفعها ولعدم وجود داعٍ لمبغوضيّة هذا الوضوء الواقعي الأوّلي .
فإن قلتَ : في التقيّة المداراتيّة لا أمر بالعمل المخالف للتقيّة، وذلك للإطلاق في الروايات التي مفادها ما رويناه قبل قليل عن المعلّى بن خنيس ـ في صحيحته ـ قال قال لي أبو عبد اللهt : ( يا مُعَلَّى، اُكتم أمرنا ولا تُذِعْهُ، فإنه مَن كَتَمَ أمْرَنا ولا يُذيعُه أعزه اللهُ في الدنيا، وجعله نوراً بين عينيه يقوده إلى الجنة، يا مُعَلَّى، إن التـقية ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تـقية له، يا مُعَلَّى، إن الله يحب أن يُعْبَدَ في السر كما يحب أن يعبد في العلانية، والمذيع لأمْرنا كالجاحد له )[2] فيجب أن يكون الوضوء المخالف للتقيّة المداراتيّة باطلاً لأنّ الوضوء الأوّلي ـ في هكذا محلاّت ـ ليس دِيناً، أي مَن يتوضّأ عندهم بالوضوء الأوّلي لا دين له، وعمله ليس دين الله في مساجدهم، وذلك كما كان الحال في التقيّة الضررية حيث قلنا ببطلان المسح على البشرة بلا خلاف فيه .
قلتُ : لم يتّضح أنّ تارك التـقيّة المداراتيّة هو كتارك الصلاة، وإن كان يحتمل ذلك، لكن مع ذلك وحتى لو قلنا إنّ تارك التقيّة هو كتارِكِ الصلاةِ فإننا نقول بأنّ تارك إنـقاذ النفس المحترمة أيضاً هو كتارك الصلاة، لكنْ لو ترك الإنقاذَ وصلّى لكانت صلاته صحيحةً بلا شكّ، لما ذكرناه في مسألة الترتّب مِن بقاءِ فعليّة الأمر بالصلاة، ورفْعِ خصوصِ التنجيز لا أكثر، وذلك لبقاء الملاك والمصلحة التامّة والمحبوبيّة التامّة للصلاة، وذلك لأنّ وجود الأهمّ هو أمر خارج عن حقيقة الصلاة، فهو يرفع منجّزيّتها فقط، ولا يرفع فعليّتها، ذلك لما قلناه من أنّ وجود الإنقاذ هو أمْرٌ خارج عن الصلاة بالكليّة، وإنما الأمر به يزاحم الأمر التنجيزي بالصلاة لا أكثر . ولذلك نقول إنه لا دليل على رفع الوجوب الفعلي للصلاة، لا بل نحن نعلم بعدم تقيّد وجوب الصلاة بعدم المزاحم المساوي أو الأهمّ، ولذلك تكون الصلاة واجبة فعلاً بنحو الإطلاق، ويستحقّ العقاب بتركِهِ للأهمّ، لكن هذا لا يعني أنه يكون قد فعل حراماً وهي الصلاة .وكذا لو ترك المسْحَ على الخفّ، فإنّ مسْحه على البشرة لا يرتفع وجوبه الفعلي في مقام التقيّة المداراتيّة، ولا دليل على الإرتفاع، فنبقى على الإطلاق . ولك أن تقول : إنّ الأمر بالمسح على الخفّين كالأمْرِ بالإنقاذ لا يقتضي القولَ بحرمة ضدّه الخاصّ ـ وهو المسح على البشرة ـ كما قلنا في الأصول في بحث الترتّب، خاصةً وأنّا لم نَرَ آية أو رواية تنهى عن العمل المخالف للتقيّة . نعم، نحن نعلم أنّ العمل بالتقيّة المداراتيّة هي دين الله، وكذلك أيضاً تفيدنا رواياتُ الحثّ على الصلاة في مساجدهم، لكن هذه الروايات لا تفيدنا سقوطَ الأوامر الواقعيّة الأوليّة . 
سؤال : هل أنّ روايات التقيّة تفيد أنّ المسح على الخفّين هو جزء واجب بدل المسح على القدمين بحيث لو ترك المسح على الخفّين لكان وضوؤه ناقصاً وبالتالي باطلاً بدليل ما رواه في الفقيه قال : وقال الصادقt : ( لو قلتَ إنّ تاركَ التقيةِ كتارك الصلاة لكنت صادقاً )[3]، ورواها محمد بن إدريس في آخر السرائر نقلاً من كتاب مسائل الرجال ومكاتباتهم عن مولانا علي بن محمد عليهما السلام من مسائل داود الصرمي قال : قال لي : ( يا داود، لو قلت : إن تارك التقية كتارك الصلاة لكنت صادقاً )[4]  أي أنه إن ترك المسح على الخفّين فكأنه ترك الصلاة الواجبة أو كأنه ترك المسح على البشرة ؟ أو أنّ مفاد أدلّة التقيّة عدمُ المسح على البشرة، وبالتالي يمكن لنا أن نمسح على الخفّين وأن لا نمسح عليهما، فهو كالعدم، وبالتالي يمكن ترْكُه إذا لم يكن أحدٌ مِنَ النواصب ينظر إليه ؟
الجواب : لا تفيدنا روايةُ داوود الصرمي أكثر من حرمة ترك التقيّة فيما لو كانوا ينظرون إلينا، لا أنها تفيدنا وجوبَ المسح على الخفّين حتى فيما لو كان العامّة لا ينظرون إلينا، فإنّ المسح على الخفّين حينذاك لا شكّ أنه لغو محض، وإنما أمرنا به مداراةً أو خوف الضرر لا أكثر، فلو انتفت المداراة والضرر فلا محلّ للمسح على الخفّين قطعاً .



[1] وسائل الشيعة، الحر العاملي : ج 17، ص 341، ب 12 من أبواب إحياء الموات، ح3، الاسلامية. .
[2] وسائل الشيعة، الحر العاملي : ج 11، ب 24 من أبواب الأمر والنهي، ح 23، ص 465، الاسلامية..
[3] من لا يحضره الفقيه : ج 2، رقم الرواية 1927، ص 127..
[4] وسائل الشيعة، الحر العاملي : ج 11، ص 466، ب 24 من كتاب الأمر والنهي، ح 26،، الاسلامية..