بحوث الفقه

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

37/03/26

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : بقيّة الكلام في التقيّة المداراتية
 مسألة 35 : إنما يجوز المسح على الحائل في الضرورات ـ ما عدا التقيّة ـ إذا لم يمكن رفْعُه ولم يكن بد من المسح على الحائل ولو بالتأخير إلى آخر الوقت، وأما في خصوص التقية فالأمر أوسع، فلا يجب الذهاب إلى مكان لا تقية فيه وإن أمكن بلا مشقة، نعم لو أمكنه ـ وهو في ذلك المكان ـ ترك التقية وإراءَتُهم المسحَ على الخف ـ مثلاً ـ فالأحوط بل الأقوى ذلك .
قلنا أمس إنه لا شكّ في وجوب العمل بالتقيّة فيما لو لم يمكن التفصّي بالذهاب إلى مكان آخر ولو بتأخير الصلاة إلى آخر وقتها وذلك بدليل حكم العقل بلزوم تقديم الأهمّ، والعمل بالتقيّة لدفع الضرر الخطير هو أهمّ من الإتيان بالعبادات تامّةً وأيضاً لروايات التقيّة ولأدلّة رفع الضرر والحرج، بل العمل بالتقيّة لدفع الضرر المهمّ هو من الاُمور الفطريّة عند كلّ عاقل في العالَم .
لكن السؤال هو أنه ـ في حال التقيّة ـ هل يجوز لنا أن نتوضّأ معهم بالتقيّة ونصلّي معهم صلاة التقيّة ونحن قادرون على أن نصبر إلى أواخر الوقت فنصلّي في بيوتنا صلاة المختار، أم لا يجوز ؟
ذكرنا سابقاً أربع طوائف من الروايات ونقول اليوم :
إنّ مفاد الطائفة الثانية كان (التقيّة ديني ودين آبائي، من لا تقيّة له لا دين له، ولا إيمان له)، ومفاد الطائفة الثالثة كان ( التقية في كل ضرورة، وصاحبها أعلم بها حين تنزل به )[1]، ومفاد الطائفة الرابعة كان ( صَلُّوا في عشائرهم ) وقلنا إنّ هذه تـقيّة مداراتيّة لأنها مطلقةٌ لحالة ما لو لم يوجد خوف على النفس، وإنما لمجرّد اللياقات الأدبية معهم . فإذا كانت مداراتهم هي العلّة، فالوضوء مع وجود مندوحة هو أيضاً مصداق لمداراتهم، ومثلها ما بعدها .
وروى في الفقيه بإسناده الصحيح عن حماد بن عثمان عن أبي عبد اللهt أنه قال : ( من صلى معهم في الصف الأول كان كمن صلى خلف رسول الله wفي الصف الأول )، ورواها في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حماد(بن عثمان) عن (عبيد الله بن علي)الحلبي عن أبي عبد اللهt قال : ( من صلى معهم في الصف الأول كان كمن صلى خلف رسول الله w)[2] وهما صحيحتا السند، وهذه الرواية تحثّنا على الصلاة معهم، وهي مطلقة من حيث وجود مندوحة . هذا الحثُّ على مداراتهم والتودّد إليهم والتحبّبُ إليهم يدلّنا على أهمّية ذلك على الصلاة التامّة والوضوء الصحيح، وبما أنها كلّها لا تأمر بوجوب الإعادة فإننا نـتمسّك بهذا الإطلاق المقامي لنقول بالإجزاء، ومِثْلُها ما بَعدَها .
وفي يب بإسناده الصحيح عن أحمد بن محمد بن عيسى عن (محمد بن خالد)البرقي عن جعفر بن المثنَّى(ثقة وجه) عن إسحق بن عمار(ثقة فطحيّ) قال قال لي أبو عبد اللهt : ( يا إسحاق، أتُصَلّي معهم في المسجد ؟ ) قلت : نعم، قال : ( صَلِّ معهم، فإنَّ المصلي معهم في الصف الأول كالشاهر سيفَه في سبيل الله)[3] موثّقة السند، وهي كغيرها مطلقة لحالة ما لو كان يوجد مندوحة .
وروايات الطائفة الرابعة مستفيضة جداً وهي تدلّ بوضوح على جواز الوضوء أمامهم رغم وجود مندوحة في الوضوء الصحيح في بيوتنا . إذن يجب الجمع بين الطائفتين على أنّ التقيّة صنفان : تقيّة اضطرارية، وتقيّة مداراتيّة، وفي كليهما لنا أن نمسح على الخفّين ونحو ذلك من مقتضيات التقيّة لو اقتضت التقيّةُ ذلك، حتى ولو علمنا ببطلان ذلك في الحكم الواقعي الأوّلي .
وقد تـقول : لا تصحّ الصلاة مع المندوحة، وذلك لما رواه في يب بإسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن ابراهيم بن شيبة قال : كتبت إلى أبي جعفر الثانيt أسأله عن الصلاة خلف مَن يتولَّى أميرَ المؤمنينt وهو يرى المسح على الخفين ! أو خلف مَن يُحَرِّمُ المسحَ وهو يمسح ؟! فكتبt : ( إن جامعك وإياهم موضعٌ فلم تجد بُدّاً من الصلاة فأذِّنْ لنفسك وأقِمْ، فإنْ سبَقَك إلى القراءة فسَبِّحْ )[4] يمكن تصحيحها سنداً ومتناً لرواية البزنطي لها عن ابن شيبة .
وقريب منها ما رواه في الدعائم عن جعفر بن محمد صلوات الله عليه أنه قال : ( لا تعتدَّ بالصلاة خلف الناصب ولا الحروري، واجعله سارية من سواري المسجد، واقرأ لنفسك كأنك وحدك، فهذا إذا كان في حيث يُتَّقَون ويُخاف منهم، فأما إذا لم يكن ـ بحمد الله ـ خوفٌ ولا تقيةٌ وظهر أمْرُ اللهِ جل ذكره وعز دينه وغلب أولياؤه، فلا يجب أن يصلَّى خلفَ أحدٍ منهم ولا كرامة لهم )، وقد رُوِينا عن أبي جعفر محمد بن علي صلوات الله عليه أنه قال : ( لا تصلوا خلف ناصب ولا كرامة، إلا أن تخافوا على أنفسكم أن تُشهَروا ويُشار إليكم، فصَلُّوا في بيوتكم ثم صَلُّوا معهم، واجعلوا صَلاتَكم معهم تطوُّعاً، فقد ذهب الخوف بحمد الله ومَنِّه ونِعْمَتِه، وسقطت التقية في مثل هذا، فلا يُصَلَّى خلفَ ناصبٍ ولا نُعْمَى عينٍ له )[5] وهي مرسلة جداً لأنها بلا أي سند .
وجوابُ الرواية الاُولى أنها ناظرة إلى مَن كانت صلاته باطلة بنظر نفس إمام الجماعة، فإمامُ الجماعة في الواقع لا يصلّي، فهي خارجة عن موضع البحث، وجواب الثانية أنها مرسلة جداً، على أنّ لنا أن نجمع بينها وبين روايات الطائفة الرابعة على الإستحباب .
 المهمّ هو أنّ قولَهt ( صَلُّوا في عشائرهم .. واللهِ ما عُبِدَ اللهُ بشيءٍ أحبَّ إليه من الخباء ) صريحة في جواز بل في استحباب أن يصلّيَ الشيعيُّ في عشائرهم بصلاتهم، وأنها مجزية تماماً، وكذلك الأمر في الوضوء، فقد روينا سابقاً عن الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن حمّاد(بن عيسى) عن حريز عن زرارة قال قلت له : في مسح الخفين تقيةٌ ؟ فقال : ( ثلاثة لا أتقي فيهن أحداً : شرب المسكر ومسح الخفين ومتعة الحج[6] )[7]، وقريب منها ما رواه في الكافي بإسناده عن علي بن ابراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عمر الأعجمي(مهمل) قال قال لي أبو عبد اللهt : ( يا أبا عمر، إنّ تسعة أعشار الدين في التقية، ولا دين لمن لا تقية له، والتقيةُ في كل شيء إلا في النبيذ والمسح على الخـفّين [8] مصحّحة المتن، فإنّ قولهt إنه لا تقيّة في مسح الخفّين يعني أنك إن توضّأت وضوء التقيّة ما عدا المسح على الخفّين فهو صحيح .
يبقى إشكال وهو أنّ الإمامt لم يحثَّنا على الوضوء معهم إذا أمكن التوضُّؤُ في بيوتنا، وفرقٌ بين الوضوء والصلاة ! أقول : لكنك عرفت المناطَ في ذلك، وعلى هذا الأساس نقول بجواز الوضوء عندهم رغم وجود مندوحة في الوضوء في مكان لا تقيّة فيه، وذلك لروايات التقيّة المداراتيّة، وعرفت أنه لا تجب إعادة الوضوء ولا الصلاة للإطلاق المقامي في ذلك، فإنه لم يقل إمام إنه تجب الإعادة أو القضاء .
لا يبعد القول بأنّ كثرةَ التحريضِ على العمل بالتقيّة وأنها (دِيني ودين آبائي ... ) تشير إلى جواز أن يتوضّأ المؤمنُ معهم وضوء التقيّة ويصلّي معهم كصلاتهم حتى مع وجود مندوحة بالذهاب إلى بيته .
وقد تقول : لكنْ روايات الضرورة والإضطرار قد تقف مانعاً من أن يفتي الفقيه بجواز أن يتوضّأ معهم ـ مع وجود مندوحة ـ كما يتوضّؤون .
فأقول : لكنِ الأخذُ بالروايات الحاضّة على الذهاب إلى مساجدهم والصلاةِ معهم أصرحُ من روايات الضرورة هذه، فإنّ روايات الضرورة القائلة بأنّ ( التقية في كل ضرورة، وصاحبُها أعلم بها حين تنزل به )[9] ـ كما في صحيحة زرارة مثلاً ـ يمكن تأويلُها بأنه إن اختار العمل بالتقيّة والذهابَ إلى مساجدهم ـ مع المندوحة ـ فهو فعلاً في التقيّة وهو فعلاً مضطرّ لأن يصلّي مثلهم، فلا تُعارِضُ الطائفةُ الثانيةُ الطائفةَ الرابعة .
نعم، لو ترك الصيام تقيّة لأنهم حكموا بعيد الفطرِ مثلاً فإنّ عليه أن يقضي اليومَ قطعاً، وذلك لأنه لم يَصُم أصلاً، لا أنه فعل فعلاً ناقصاً وللرواية التي رواها في الكافي عن محمد بن يحيى عن محمد بن أحمد عن أيوب بن نوح عن العباس بن عامر عن داود بن الحصين عن رجل من أصحابه عن أبي عبد اللهt أنه قال وهو بالحيرة في زمان أبي العباس : ( إني دخلت عليه وقد شك الناس في الصوم وهو والله من شهر رمضان، فسلمت عليه، فقال : يا أبا عبد الله، أصُمْتَ اليوم ؟ فقلت : لا، والمائدة بين يديه، قال : فادْنُ فَكُلْ، قال : فدنوت فأكلت، قال وقلت : الصوم معك والفطر معك )، فقال الرجل لأبي عبد اللهt : تفطر يوماً من شهر رمضان ؟ فقال : (إي والله أفطر يوماً من شهر رمضان أحبُّ إليَّ من أن يَضرِبَ عنقي )[10].
مسألة : هل يتابَع القاضي الناصبي تقيةً إذا حكم بخلاف الواقع في توقيت يوم
عرفة ؟ وقد أجبنا أمس عن السؤال ونزيد اليوم بأننا نقول بصحّة حجّنا إن اتّبعناهم، وذلك
لأن أدلة التقية متكفّلة بوضوح للحكم الوضعي أيضاً، وأنها تفي بإلغاء جزئية الشيء الفلاني أو شرطيتِه، كما وردت الصحّة في الوضوء ـ كمسألة غسل اليدين منكوساً في الوضوء وغسل الرجلين ـ وفي الصلاة ـ كالتكتف في الصلاة وقول آمين ـ، وإنّ عدم أمرهمi بالقضاء والإعادة في الموارد التي يكثر فيها الإبتلاء يكفي في الحكم بالصحة .
ومن هنا تعرف حكم الوقوف في عرفاتٍ أيضاً في غير وقته ـ تبعاً لحكّام شبه الجزيرة العربيّة ـ فضلاً عن مورد الشك بالخلاف، فهو مصداق واضح لقولهمi ( التقيّة من ديني ودين آبائي )، وهو يعني أنّ وظيفتنا اتّباعُهم والإحتياط حرام، وأكتفي برواية واحدة فقط ـ لكثرة الروايات في ذلك وبألسنة عديدة[11] :
روى سعد بن عبد الله الأشعريّ القمّي الثقة الجليل في كتابه (بصائر الدرجات) عن أحمد بن محمد بن عيسى ومحمد بن الحسين بن أبي الخطاب كلاهما عن غير واحد ممن حدّثهما عن حماد بن عيسى وغيره من أصحابنا عن حريز بن عبد الله عن المعلى بن خنيس(ثقة) قال قال لي أبو عبد الله t: ( يا معلى اُكتُمْ أمرَنا ولا تُذِعْهُ، فإنه من كتم أمرنا ولم يُذعه أعزه الله في الدنيا، وجعله نوراً بين عينيه يقوده إلى الجنة، يا مُعَلَّى، إن التقية ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقية له، يا معلَّى، إن الله يحب أن يُعبَدَ في السر كما يحب أن يعبد في العلانية، والمذيع لأمرنا كالجاحد له )، مصحَّحة السند . ورواها في الكافي بسند مصحّح أيضاً وهو : عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد عن أبيه عن عبد الله بن يحيى(الكاهليّ موثّق) عن حريز عن معلى بن خنيس .
هذا مضافاً إلى رواية أبي الجارود الواردة في الشك فإنها دالة على الصحة، فإن المستفاد منها لزوم متابعتهم وعدمُ جوازِ الخلاف والشقاق بيننا وبينهم، فقد روى في التهذيب بإسناده الصحيح عن محمد بن علي بن محبوب عن العباس(بن معروف) عن عبد الله بن المغيرة عن أبي الجارود(زياد بن منذر) قال : سألت أبا جعفر t: إنّا شككنا في عام من تلك الأعوام في الأضحى، فلما دخلتُ على أبي جعفرt وكان بعض أصحابنا يضحي، فقال: ( الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس، والصوم يوم يصوم الناس )، مصحّحة السند عندنا، وإن كان في صحّة سندها كلام معروف وهو في أبي الجارود، ولكننا نوثّقه لتوثيق المفيد له ولمدحه مدحاً بليغاً، ولتوثيق سعد بن عبد الله له، نقله النجاشي في ترجمة زياد بن عيسى، وقاله ابن فضّال، نقله عنه الكشّي، وقال العلاّمة ثقة صحيح، ولا يضر فساد عقيدته بوثاقته . فمقتضى روايات ( التقية ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقية له ) وخبر أبي الجارود لزوم ترتيب جميع الآثار من الوقوف وسائر الأعمال كمناسك منى .



[1] وسائل الشيعة، الحر العاملي :ج  11، ب 25 من أبواب الأمر والنهي، ح 1، ص 468، الاسلامية. .
[2] وسائل الشيعة، الحر العاملي :ج 5، ص  381،ب 5 من أبواب صلاة الجماعة، ح 1 و 4، الاسلامية..
[3] وسائل الشيعة، الحر العاملي :ج 5، ص 382، ب 5 من أبواب صلاة الجماعة، ح 7، الاسلامية..
[4] وسائل الشيعة، الحر العاملي :ج 5، ب 33 من أبواب صلاة الجماعة، ح 2، ص 427، الاسلامية..
[5] دعائم الإسلام:  ج 1، ذكر الإمامة، ص 151..
[6] المراد بـ متعة الحجّ : عمرة التمتّع السابقة لحجّ التمتّع، ولعلّك تعلم أنّ عمر حينما نَهَى عن متعة الحجّ ومتعة النساء كان يقصد عمرة التمتّع والزواج المؤقّت . .
[7] وسائل الشيعة، الحر العاملي : ج 1، ص 321، ب 38 من أبواب الوضوء، ح 1، الاسلامية ..
[8] وسائل الشيعة، الحر العاملي : ج  11، ب 24 من أبواب الأمر بالمعروف، ح 2، ص 460، الاسلامية..
[9] وسائل الشيعة، الحر العاملي :ج  11، ب 25 من أبواب الأمر والنهي، ح 1، ص 468، الاسلامية..
[10]وسائل الشيعة،الحر العاملي :ج 7، ص 95، ب 57 من أبواب ما يمسك عنه الصائم،ح 4،الاسلامية..
[11] راجع  وسائل الشيعة، الحر العاملي : ج 11، ب 24 من أبواب الأمر والنهي، ح 23، ص 465، الاسلامية وفيه حوالي 35 رواية..