بحوث الفقه

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

37/03/25

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : الوضوء في مكان التقيّة
 مسألة 35 : إنما يجوز المسح على الحائل في الضرورات ـ ما عدا التقيّة ـ إذا لم يمكن رفْعُه ولم يكن بد من المسح على الحائل ولو بالتأخير إلى آخر الوقت(428)، وأما في خصوص التقية فالأمر أوسع، فلا يجب الذهاب إلى مكان لا تقية فيه وإن أمكن بلا مشقة .
ذكرنا في الدرسين السابقين الأدلّة والروايات المستفيضة في ذلك، والآن نكرّر السؤال السالف الذكر وهو أنه ـ في حال التقيّة ـ هل يجوز لنا أن نتوضّأ معهم بالتقيّة ونصلّي معهم صلاة التقيّة ونحن قادرون على أن نصبر إلى أواخر الوقت فنصلّي في بيوتنا صلاة المختار، أم لا يجوز ؟
ذكرنا الطائفة الثانية والتي مفادها ( التقيّة ديني ودين آبائي، من لا تقيّة له لا دين له، ولا إيمان له)
والطائفة الثالثة والتي مفادها ( التقية في كل ضرورة، وصاحبها أعلم بها حين تنزل به )[1].
والطائفة الرابعة وهي أكثر الطوائف نفْعاً فيما نحن فيه وهي :
ما رواه في الكافي عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد(بن عيسى) عن علي بن الحكم(ثقة جليل القدر) عن هشام(بن الحكم) الكِنْدي(ثقة حسن التحقيق بهذا الأمر فَتَقَ الكلامَ في الإمامة) قال : سمعت أبا عبد اللهt يقول : ( إياكم أن تعملوا عملاً نُعَيَّرُ به، فإنَّ وَلَدَ السوءِ يُعَيَّرُ والدُه بعمله، كونوا لمن انقطعتم إليه زَيناً، ولا تكونوا عليه شَيناً، صَلُّوا في عشائرهم، وعُودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، ولا يسبقونكم إلى شيء من الخير أنتم أولى به منهم، واللهِ ما عُبِدَ اللهُ بشيءٍ أحب إليه من الخباء )، قلت : وما الخباء ؟ قال : ( التقيّة )[2] صحيحة السند جداً، وهذه تـقيّة مداراتيّة لأنها مطلقةٌ لحالة ما لو لم يوجد خوف على النفس، وإنما لمجرّد اللياقات الأدبية معهم .
ومِثْلُها ما رواه في الفقيه بإسناده ـ الضعيف بأبي جميلة المفضّل بن صالح ـ عن زيد الشحام(ثقة عين) عن أبي عبد اللهt أنه قال : ( يا زيد، خالقوا الناس بأخلاقهم، صَلّوا في مساجدهم، وعودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزَهم، وإن استطعتم أن تكونوا الأئمة والمؤذِّنين فافعلوا، فإنكم إذا فعلتم ذلك قالوا : هؤلاء الجعفرية، رحم الله جعفراً ما كان أحسنَ ما يؤدِّبُ أصحابَه، وإذا تركتم ذلك قالوا : هؤلاء الجعفرية، فعل الله بجعفر، ما كان أسوأ ما يؤدب أصحابَه )[3].
وينفعنا هنا ما رواه في الكافي عن محمد بن يحيى العطّار عن أحمد بن محمد(بن عيسى) عن علي بن الحكم عن سيف بن عميرة(ثقة) عن أبي الصباح(إبراهيم بن نعيم ثقة) قال : والله لقد قال لي جعفر بن محمد o: ( اِنّ الله علم نبيه التنزيل والتأويل فعلَّمَه رسولُ اللهw عليّاًt )، قال : ( وعَلَّمَنا واللهِ )، ثم قال : ( ما صنعتم من شيء أو حلفتم عليه من يمين في تقية فأنتم منه في سعة )[4] صحيحة السند، ومعناها أنك إن كان بيتك قريباً من مسجد النواصب وتوضّأتَ أمامهم في مسجدهم عمداً وأنت قادر على التوضّي في بيتك فأنت في سعة، كما أنك لو عرّضت نفسَك لقَسَمِ اليمين أمامهم ـ ولو مع إمكان التهرّب منه ـ فإنّ يمينك باطل .
على أنّ مصحّحة مسعدة بن صدقة السالفة الذكر تجيز الصلاة معهم أيضاً لصدق أنه يوجد تقيّة رغم وجود مندوحة، لاحِظْها مرّة ثانية ( فكلُّ شيءٍ يَعمل المؤمنُ بـينهم لمكان التـقية مما لا يؤدّي إلى الفساد في الدين فإنه جائز )، فإنه رغم أنّ بيتَه قريبٌ من مسجدهم فهو يصدق عليه أنه يَصلّي بينهم كما يصلّون لمكان التقية .
يبقى إشكال وهو أنّ الإمامt لم يحثَّنا على الوضوء معهم إذا أمكن التوضُّؤُ في بيوتنا،وفرقٌ بين الوضوء والصلاة، إلاّ أن تـقول بوَحدة المناط .
 نعم لا يبعد القول بأنّ كثرةَ التحريضِ على العمل بالتقيّة وأنها (دِيني ودين آبائي ... ) تشير إلى جواز أن يتوضّأ المؤمنُ معهم وضوء التقيّة ويصلّي معهم كصلاتهم حتى مع وجود مندوحة بالذهاب إلى بيته .
وقد تقول : لكنْ روايات الضرورة والإضطرار قد تقف مانعاً من أن يفتي الفقيه بجواز أن يتوضّأ معهم ـ مع وجود مندوحة ـ كما يتوضّؤون .
فأقول : لكنِ الأخذُ بالروايات الحاضّة على الذهاب إلى مساجدهم والصلاةِ معهم أصرحُ من روايات الضرورة هذه، فإنّ روايات الضرورة القائلة بأنّ (التقية في كل ضرورة، وصاحبُها أعلم بها حين تنزل به )[5] ـ كما في صحيحة زرارة مثلاً ـ يمكن تأويلُها بأنه إن اختار العمل بالتقيّة والذهابَ إلى مساجدهم ـ مع المندوحة ـ فهو فعلاً في التقيّة وهو فعلاً مضطرّ لأن يصلّي مثلهم، فلا تُعارِضُ الطائفةُ الثانيةُ الطائفةَ الرابعة .
نعم، لو ترك الصيام تقيّة لأنهم حكموا بعيد الفطرِ مثلاً فإنّ عليه أن يقضي اليومَ قطعاً، وذلك لأنه لم يَصُم أصلاً، لا أنه فعل فعلاً ناقصاً .
مسألة : هل يتابَع القاضي الناصبي تقيةً إذا حكم بخلاف الواقع في توقيت يوم عرفة ؟
الجواب : نعم، بلا شكّ، وذلك لأنّ التقيّة ديني ودين آبائي كما في الروايات المتواترة .
تفصيل البحث يقتضي البحث في نقطتين :
الاُولى : في وجوب اتّباع التقية فأقول :
لا شكّ ولا خلاف في وجوب متابعتهم وحرمة مخالفتهم، والأخبار في ذلك بلغت فوق حد التواتر كقولهم i( التقية ديني ودين آبائي ) وأنه ( لا دين لمن لا تقية له ) وأنه ( لو قلت : إن تارك التقية كتارك الصلاة لكنت صادقاً ) وغير ذلك من الروايات الدالة على وجوب التقية وجوباً تكليفياً .
والنقطة الثانية : في الحكم بصحّة الأعمال فنقول :
الصحيح هو أن أدلة التقية متكفّلة بوضوح للحكم الوضعي أيضاً، وأنها تفي بإلغاء جزئية الشيء الفلاني أو شرطيتِه، كما وردت الصحّة في الوضوء ـ كمسألة غسل اليدين منكوساً في الوضوء وغسل الرجلين ـ وفي الصلاة ـ كالتكتف في الصلاة وقول آمين ـ، وإنّ عدم أمرهمi بالقضاء والإعادة في الموارد التي يكثر فيها الإبتلاء يكفي في الحكم بالصحة .
ومن هنا تعرف حكم الوقوف في عرفاتٍ أيضاً في غير وقته ـ تبعاً لحكّام شبه الجزيرة العربيّة ـ فضلاً عن مورد الشك بالخلاف، فهو مصداق واضح لقولهمi ( التقيّة من ديني ودين آبائي)، وهو يعني أنّ وظيفتنا اتّباعُهم والإحتياط حرام، وأكتفي برواية واحدة فقط ـ لكثرة الروايات في ذلك وبألسنة عديدة [6] ـ :
روى سعد بن عبد الله الأشعريّ القمّي الثقة الجليل في كتابه (بصائر الدرجات) عن أحمد بن محمد بن عيسى ومحمد بن الحسين بن أبي الخطاب كلاهما عن غير واحد ممن حدّثهما عن حماد بن عيسى وغيره من أصحابنا عن حريز بن عبد الله عن المعلى بن خنيس(ثقة) قال قال لي أبو عبد الله t: ( يا معلى اُكتُمْ أمرَنا ولا تُذِعْهُ، فإنه من كتم أمرنا ولم يُذعه أعزه الله في الدنيا، وجعله نوراً بين عينيه يقوده إلى الجنة، يا مُعَلَّى، إن التقية ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقية له، يا معلَّى، إن الله يحب أن يُعبَدَ في السر كما يحب أن يعبد في العلانية، والمذيع لأمرنا كالجاحد له )، مصحَّحة السند . ورواها في الكافي بسند مصحّح أيضاً وهو : عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد عن أبيه عن عبد الله بن يحيى(الكاهليّ موثّق) عن حريز عن معلى بن خنيس .



[1] وسائل الشيعة، الحر العاملي :ج  11، ب 25 من أبواب الأمر والنهي، ح 1، ص 468، الاسلامية..
[2] وسائل الشيعة، الحر العاملي :ج 11، ب 26 من أبواب الأمر والنهي، ح 2، ص 471، الاسلامية..
[3] وسائل الشيعة، الحر العاملي : ج 5، ص 477، ب 75 من أبواب صلاة الجماعة، ح 1،الاسلامية..
[4] وسائل الشيعة، الحر العاملي : ج 16، ب 12 من أبواب جواز الحلف باليمين الكاذبة، ح 2، ص 134، الاسلامية..
[5] وسائل الشيعة، الحر العاملي :ج  11، ب 25 من أبواب الأمر والنهي، ح 1، ص 468، الاسلامية..
[6] راجع  وسائل الشيعة، الحر العاملي : ج 11، ب 24 من أبواب الأمر والنهي، ح 23، ص 465، الاسلامية وفيه حوالي 35 رواية. .