بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/08/16

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : لو قيّد نيّة الوضوء
مسألة 3 : الوضوءات المذكورة في المسألة السابقة ـ إلاّ الوضوءات الواردة في القسم الثالث ـ كلّها ترفع الحدث، فلو جدّد وضوءَه ثم تبيّن له بطلانُ وضوئه الأوّلِ فقد رفع وضوؤه الثاني الحدثَ وجازت له الصلاةُ وغيرها، ومن توضّأ لمقاربة زوجته الحامل ثم أراد أن يصلي قبل المقاربة أو أن يمسّ كتابةَ القرآن الكريم جاز له ذلك، وكذا مَن أدخل الميّتَ قبرَه ثم توضّأ، وكذا من توضّأ قبل أن يَرِدَ مِنَ السفرِ على أهله، وكذا لو توضّأ ليكتب القرآن الكريم جاز له أن يصلّي بوضوئه هذا .
   أمّا الوضوءات الواردة في القسم الثالث فإنها لا ترفع الحدث، وإنما ترفع درجة من شدّة الحدث، لا أكثر، فوضوءُ الحائضِ لِذِكْرِ اللهِ، ووضوءُ الجنبِ لِرَفْعِ كراهيةِ نومِه، وكذا وضوؤُه الإستحبابيً ليأكل أو ليشرب، ووضوؤُه لمعاودة الجماع، كلّها لا ترفع الحدثَ ولا تبيح شيئاً، وهذا أمر واضح381.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 (381) قد يُتساءل بأنه إذا توضّأ الإنسانُ لقراءة القرآن مثلاً، فهل يجوز له أن يصلّي بوضوئه هذا أم لا ؟ قد يقال هو لم ينوِ نيّةَ رفع الحدث مطلقاً ولا نيّة استباحة الصلاة، وقد يجاب أيضاً بعدم ثبوت كونه متطهّراً .
   والجواب على هذا التساؤل هو عدم اعتبار نيّة رفع الحدث ولا نيّة الإستباحة، بل ثبت رفع الحدث به وأنه متطهّر، فقد ورد في جملة من الروايات أنّ الوضوء يرفع الحدث، بل لا ينبغي الإشكال في رفع الوضوء للحدث في الموارد المذكورة أعلاه، لاحِظْ مثلاً ما رواه في الكافي عن أبي علي الأشعري عن محمد بن عبد الجبار، وعن محمد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان جميعاً عن صفوان بن يحيى عن عبد الحميد بن سعد (مهمل) قال قلت لأبي الحسن (عليه السلام) : الجنازة يُخرَجُ بها ولست على وضوء، فإن ذهبت أتوضأ فاتتني الصلاة، أيُجزِئُني أن أصلي عليها وأنا على غير وضوء ؟ قال (عليه السلام) : ( تكون على طُهْرِ أحبَّ إلَيّ )[1] يمكن تصحيحها من طريقين، فإنّ صفوان لا يروي إلاّ عمّن يوثق به، وروايات الكافي صحيحة حتى يثبت كذب أحد رواتها . فاعتبره الإمامُ (عليه السلام) على طُهْرٍ مع أنه قد يكون قد نوى الإتيان بصلاة الجنائز .
   وفي عيون الأخبار وفي العلل بإسناده عن الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام) قال : ( إنما أمر بالوضوء وبدئ به لأنْ يكون العبد طاهراً إذا قام بين يدي الجبار عند مناجاته إياه .. )[2] وهذا قد توضّأ، ولو لقراءة القرآن، فهو إذن طاهر، وهذا أمْرٌ ينبغي أن يكون من الضروريّات الدينية، ولا سيّما وأنّ المتديّن حينما يتوضّأ ليقرأ القرآنَ فإنه لا ينوي الوضوء لخصوص قراءة القرآن لوحدها دون غيرها، وإنما ينوي الكون على طهارة، فتكون نيّة قراءة القرآن هي الداعي للوضوء، ولا تكون قراءة القرآن بنحو القيد في نيّة الوضوء . لا بل حتى ولو توضّأ بنيّة قراءة القرآن فقط لا غير فهو قد توضّأ، وتكون العلّة للوضوء فقط غايته النفسية، ولكن الوضوء يرفع الحدث شرعاً، مهما كان الداعي، وهو كما لو صلّى ليرى في الآخرة محمّداً وآل محمّد (ص)، فقط لا غير، لكنه على أيّ حال هو قد صلّى، وسقطت عنه الصلاة . ولا يوجد عندنا وضوء لخصوص قراءة القرآن ثم وضوء ثانٍ لكَتْبه ثم وضوء ثالث للأذان ثم وضوء رابع للإقامة .. ودليلنا على ما نقول هو إدراك العقل، والإعتقاد بأنه لا يصحّ القول بأنّ الإنسان إذا توضّأ لخصوص صلاة الظهر، عليه أن يتوضّأ لصلاة العصر، وأنّ هذا ما يفهمه المتشرّعة من روايات الوضوء والطهارة .
   والخلاصةُ هي أنّ الحدث والطهارةَ ـ العارضتين على المكلّف ـ حقيقتان متضادّتان، لا ثالث لهما، لا يخلو المكلّف منهما، كالنوم واليقظة تماماً، وكالطهارة والنجاسة أيضاً، فإن أحدث الإنسان مرّة أو عشرين مرّة فقد أحدث، ولم يزد الحدث عليه، ولو توضّأ مرّة أو عشرين مرّة فقد تطهّر وارتفع الحدث، ولو نوى ما نوى من النيّات المشروعة، ولو قيّد نيّته ما استطاع ـ طالما نوى القربة ولم ينوِ البدعة في دين الله ـ فقد حصلت الطهارة، وهي أمر معنويّ بسيط، ولا يوجد وضوء له أثر واحد، ووضوء له أثران، ووضوءٌ له ثلاثة آثار، أصلاً وأبداً . حتى ولو قلتَ بأنّها تزداد شدّةً مع تجديد الوضوء، وأنّ الغسلَ أشدّ طهراً من الوضوء ـ كما في الروايات ـ لكنْ مع ذلك الوضوءُ للصلاة على الجنائز ولقراءة القرآن تُنتِجُ شيئاً بسيطاً هو الطهارة المعنويّة وهي مضادّة مع الحدث شرعاً، فيترتّب على الطهارة تمام آثارها . أو قُلْ لا دليل على أنّ النيّةَ تقيّدُ آثارَ الوضوء . 
   كما لا إشكال في عدم رفع الحدث في الموارد الاُخرى المذكورة أيضاً كوضوء الجنب لرفع كراهية النوم، وإنما الوضوء لهذه الموارد هي لرفع درجة من الحدث لا أكثر، وهذا أمر يفهمه كلّ متشرّع، لأنه يرى أنّ هذا الشخص لا يزال مجنباً، وأنّ المرأة لا تزال حائضة .
   نعم لا شكّ ولا إشكال في أنه لو توضّأ الجنبُ للأكل فإنه يكتفي به في الشرب أيضاً وللجماع ثانياً وللنوم، لأنه فعلاً قد توضّأ ولم يُنتقَض وضوؤه، فيكتفي به لغير الأكل أيضا.


[1]وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج2، ص798، أبواب صلاة الجنائز، ب21، ح2، ط الاسلامية.
[2]وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج1، ص257، أبواب الوضوء، ب1، ح9، ط الاسلامية.