بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/07/24

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : اشتراط الطهارة المعنويّة في مسّ كتابةِ القرآن الكريم

أمّا اشتراط الطهارة المعنويّة في مسّ كتابةِ القرآن الكريم
   فقد اشتهر بين الأصحاب الحكمُ بحرمة مسّ الآيات القرآنية الكريمة على المحْدِثِ، على تفصيل، فقد حرّم الشيخ المفيد ـ في أحكام النساء ـ مسّ كتابة القرآن الكريم على خصوص الحائض والنفساء والجنب من النساء والرجال، فقال بحرمة أن يضعوا أيديهم على شيء من كتابة القرآن مكتوب في لوح أو صحيفة أو غير ذلك . وأيضاً فصّل الشيخ الطوسي في المبسوط وغيرِه[1] وابنُ إدريس الحلّي والقاضي ابنُ البرّاج بالنسبة إلى المحْدِث بالحدث الأصغر فكرهوا ذلك وحرّموا مسّ الجنب والحائض لكتابة القرآن الكريم .
   وخالفهم في ذلك بعض العلماء ـ كابن الجنيد الإسكافي والمقدس الأردبيلي ـ فقالوا بالكراهة،   وما يهمّنا هو النظر إلى أدلتهم .
 فأدِلَّةُ التحريم :
1 ـ من القرآن الكريم :
   قوله تعالى ( فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ (78) لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ (79) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82))[2].
   وذلك بتقريب ظهور ( لا يمسّه ) في حرمة مسّه إلاّ للمطَهَّرين الذين وضَّحتهم الروايات التالية : روى في التهذيب بإسناده ـ الصحيح عندنا ـ عن علي بن الحسن بن فضّال (دي ري) عن جعفر بن محمد بن حكيم (مجهول، ظم، قيل إنه ليس بشيء) وجعفر بن محمد بن أبي الصباح (مهمل جداً) جميعاً عن إبراهيم بن عبد الحميد(ثقة له أصل، ق ظم) عن أبي الحسن(الكاظم (عليه السلام)) : ( المصحف لا تمَسَّه على غير طُهر، ولا جُنباً، ولا تمسَّ خطَّه، ولا تعلِّقْه، إنّ الله تعالى يقول( لا يَمَسُّه إلاّ المطَهَّرون ) )[3] . وقد لاحظتَ الإرسالَ بين علي بن الحسن بن فضّال وبين جعفر بن محمد بن حكيم، فهي ـ إضافةً إلى ضعف رجالها ـ مرسلة، على أنّ السياق يفيد الكراهة لعدم حرمة تعليق المحْدِث للقرآن الكريم .
   وروى الفضل بن الحسن الطبرسي في (مجمع البيان) عن محمد بن علي الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى ﴿ لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ [4] [5] قال : ( مِن الأحداث والجنابات )، وقال : ( لا يجوز للجنب والحائض والمحدِث مسُّ المصحف ) مرسلة .


2 ـ من الروايات :
ـ روى في الكافي عن محمد بن يحيى (العطار) عن أحمد بن محمد(بن عيسى) عن الحسين بن سعيد عن حمّاد بن عيسى عن الحسين بن المختار(القلانسي) عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عمّن قرأ في المصحف وهو على غير وضوء ؟ قال : ( لا بأس، ولا يمسَّ الكتابَ )[6]، بفَتْحِ سين (يمسّ) على معنى النهي ـ لا النفي ـ، وهي موثقة السند بناءً على كون الحسين بن المختار واقفياً .
ـ وروى في التهذيبين بإسناده عن الحسين بن سعيد عن حمّاد(بن عيسى) عن حريز عمَّن أخبره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : كان إسماعيل بن أبي عبد الله عنده فقال : ( يا بُنَيّ، اِقرأ المصحف )[7]، فقال : إنّي لستُ على وضوء ؟ فقال : ( لا تمسّ (الكتابَ ـ تهذيب) (الكتابةَ ـ استبصار) ومسَّ الورقَ، واقرأه ) مرسلة، ولكن بما أنّ حمّاد بن عيسى ممَّن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم ـ أي من روايات ـ لأنّ كتبهم كانت مراجع الشيعة وعليها معوَّلهم فلا بُدّ من الإحتياط فيها حتماً .
   وقد اعتمد السيد الخوئي على الموثقة فقط في الإفتاء بالحرمة، والسيد الحكيم على الموثقة والمرسلة مع دعوى الإجماع على الحرمة وصاحبُ الجواهر على الآية والروايات والإجماع ...

3 ـ دعوى الإجماع في كتاب ( الخلاف ) 
   وذهب أكثر العامّةُ ـ أئمّتهم الأربعة وقيل بل خصوص مالك وأبو حنيفة والشافعي وقيل بل وجمهور علمائهم أيضاً ـ إلى حرمة مسّ كتابة القرآن الكريم للمحْدِث، ونَسَبوا ذلك إلى عليّ (عليه السلام) وسعد بن أبي وقّاص وابن عمر، وذهب أهلُ الظاهر إلى أنّ الطهارةَ ليست شرطاً في مسّ كتابة القرآن الكريم، ومنشأُ اختلافهم فَهْمُ معنى ﴿ لا يمسّه إلاّ المطهّرون ﴾ وما رووه عن النبيّ (ص) ـ في كتاب له ـ إلى عمرو بن حزام أن ( لا تمسّ القرآن إلاّ على طهر ).

أقول : في كلامهم نظرٌ من وجوه :
1 ـ أمّا الإستدلالُ بالآية المباركة ففيه :
   أولاً : يبعد إرادة المتطهِّرين من ( المطهَّرون ) إذ يحتمل قوياً إرادة المطهَّرين ذاتاً وهم أهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام)، يقول الله تعالى ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [8] فهم المطهَّرون، وكذلك الملائكة ـ كجبرائيل (عليه السلام) ـ مطهّرون .
   وبهذا القول قال جمع من علمائنا كالسيد الحكيم والسيد الخوئي وصدر المتألهين الشيرازي في أول كتابه القيّم ( مفاتيح الغيب ).
   اُنظُرْ إلى الإستعمالات القرآنية : ﴿ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا، وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ[9] أي المتطهّرين ولم يقل ( المطَهَّرين )، وقال أيضاً ﴿ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ[10] ولم يقل ( المطَهَّرين )، والمراد من المطَّهِّرين والمتطهِّرين هو من يتطهَّر بعد عروض النجاسة أو الحدث عليه، أمّا قوله تعالى ﴿ وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ[11] أي ذاتاً طاهرة لا تعرض عليهنّ الأحداث والأخباث، و﴿ رَسُولٌ مِّنَ اللهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً[12] أي من كلّ عيب .. وهكذا ..


[1] قال الشيخ الطوسي بحرمة مسّ الجنب كتابةَ المصحف أو شيء عليه اسم الله أو أسماء الأنبياء أو الأئمّة .(عليهم السلام).
[2] واقعه/سوره56، آیه75.
[3] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج1، ص384، أبواب الوضوء، باب12، ح3، ط آل البیت.
[4] مجمع البيان، الطبرسي، ج9، ص377.
[5] واقعه/سوره56، آیه79.
[6] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج1، ص383، أبواب الوضوء، باب12، ح1، ط آل البیت.
[7] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج1، ص384، أبواب الوضوء، باب12، ح2، ط آل البیت.
[8] احزاب/سوره33، آیه33.
[9] توبه/سوره9، آیه108.
[10] بقره/سوره2، آیه222.
[11] آل عمران/سوره3، آیه15.
[12] بینه/سوره98، آیه2.