بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/05/13

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : هل يصحّ الوضوء من الإناء المغصوب ؟

( فَصْلٌ في حكم الأواني )

  مسألة 1 : ... أمّا استعمال الظروف المغصوبة فلا يجوز مطلقاً، عقلاً ونقلاً، والوضوء والغسل منها بالإغتراف مع العلم بالغصبيّة صحيح، نعم لو صب الماء منها في ظرف مباح فتوضأ أو اغتسل صحَّ، وإن كان عاصياً من جهة تصرفه في المغصوب، وأمّا إن توضّأ بالإرتماس فوضوؤه باطل330.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
330 أمّا حرمة التصرّف بمال الغير ـ كالإناء في مثال المتن ـ فأمْرٌ واضحٌ عقلاً ونقلاً ولا شكّ ولا خلاف في ذلك، إنما الكلام في بطلان وضوئه وغسله لأنه يأخذ الماء من الإناء المغصوب فنقول :
  يجب أن تكون العبادةُ مقرّبةً من المولى تعالى ومحبوبةً لديه، فإن لم تكن مقرّبة ولا محبوبة فليست بعبادة، فيجب أن يكون الوضوء والغسل بالماء المغصوب باطلاً .
  وعليه فإن كان يأخذُ الماءَ المباحَ بيده من الإناء المغصوب ويُلقي به على أعضائه، سواءً ألقاه فوراً أو ألقاه بعد ساعة مثلاً، فإنْ كان ينوي القربةَ إلى الله تعالى، وتحقَّقَ ذلك منه، فيجب أن يكون وضوؤه وغسله صحيحَين، خاصّةً إذا أخَذَ كلَّ الماء دفعةً واحدة ووضعه في إناء مباح .
  أقول : إنّ أخْذ الماءِ المباح من الإناء المغصوب هو مقدّمة المقدّمة للغَسل، وإنّ إلقاء الماء على الوجه هو مقدّمة الغَسل، ولا دخْل لمحبوبيّة الوضوء بمبغوضيّة مقدّمة المقدّمة، وهو بعد كلّ غَرفة محَرَّمَةٍ وَجَدَ الماء ليُكْمِلَ وضوءه، أو قُلْ هو يعلم أنه سوف يجد الماءَ المباحَ بمقدّمة محرّمة ... ويصعب القول بأنه (بعد غسل وجهه مثلاً هو لا يجد ماءً شرعاً، فهو إذن مكلّف بالتيمّم، فإذن بطل وضوؤه) ! فإنّ لنا أن نقول نستصحب بقاء هذا الجزء من الوضوء، لعدم الدليل على بطلانه بمجرّد فقْدِ الماءِ للحظة مثلاً، وللأمر بالتيمّم . وبإختصار : مبغوضيّةُ مقدّمة المقدّمةِ أجنبيّةٌ بالكليّة عن محبوبيّة نفس التوضّي بعد الإغتراف .
  وقد يمكن أن تقول : يكفي الوجدانُ التكويني للماء في تحقّق ملاك الوضوء، حتى ولو كان استعماله محرّماً شرعاً ابتداءً، فهو في كلّ غَرفة يجد الماء ولو بمقدّمة محرّمة، فإنه لا وجه لبطلان بعض وضوئه إن كان اغترافه الثاني محرّماً . لا، بل لو فعل حراماً وأخذ الماء اغترافاً لصار وضوؤه مأموراً به أيضاً، وليس واجداً للملاك فقط . وبتعبير آخر : لماذا لا يحصل عندنا قطع ببقاء الملاك على الأقلّ ـ وهو المصلحة والمحبوبيّة ـ في الوضوء، بل برجوع فعليّة الوجوب ومنجّزيّتِه بعدما أَوجَدَ الماءَ المباحَ ولو بمقدّمة محرّمة ؟! خاصةً إذا قلنا إنّ اغتراف مائه من الإناء المغصوب هو حقّ عقلي وشرعي له، لأنّ الماء ماؤه، وله أن يستنقذه، حتى ولو وضعه فيه بسوء اختياره، لكن ـ بالنهاية ـ عليه أن يفْرِغ الإناءَ من الماء . 
  طبعاً نعود ونؤكّد : إذا تحقّقت منه نيّةُ القربة، وهي تحصل عند المستهترين بدِينهم وبالغصب وقليلي الإلتزام، خاصّةً عند عدم توجّههم إلى الغصب حين الوضوء لكون المغصوب قديماً عندهم ـ مثلاً ـ .
  هذا كلّه، إذا كان الماء المباحُ محصوراً في إناء مغصوب، ولا يوجد عنده ماءٌ غيرُه .
  أمّا إذا كان يوجد عنده ماءٌ آخر مباح فهو إذن مأمور بالوضوء، فيُلغَى إشكال أنه مأمور بالتيمّم، ونقول ح : هو مأمور بالوضوء، وقد حصّل الماءَ المباحَ بمقدّمة محرّمة، لكن حينما صار الماءُ في يده وجب عليه التوضّي حتماً .
وأمّا إن كان الوضوء بالإغتراف مرّة واحدة بمقدار يفي بكلّ وضوئه فلا مجال للإشكال ح، إذ أنّ الماء مباح له، وقد فعل حراماً مرّةً واحدة، ولكنّ الماءَ الآن صار خارج الإناء المغصوب، فهو يتوضّأ من دون أيّ إشكال فعليّ عليه .

وأمّا إن كان الوضوء بالإرتماس ـ وهو نادر ـ فالأقوى أن وضوءه وغسله يكونان باطلين، لأنه ـ بنظر العرف ـ هو يتصرّف بالإناء المغصوب في نفس أفعال وضوئه، لأنه على الأقلّ إرتماسُه هذا سيخلق تموّجاتٍ على الإناء، وهو تصرّف واضح، وهو يقتضي البطلانَ عقلاً، لأنه لن يكون المحرّمُ عبادةً ولن يكون مقرّباً إلى الباري تعالى، ولك أن تقول لا مصلحة ولا ملاك في هكذا وضوء ولا في هكذا غسل، لأنه يستعمل مال غيره بغير إذنه .
  لكن فيما ذكرناه نظرٌ، إذ يمكن أن يقال : هناك تغاير بين الإرتماس في الماء المباح ـ والإرتماس هو التوضّي ـ وبين لازمه العادي ـ وهو تموّجُ الماء ـ فلماذا لا يقال الإرتماسُ في الماء المباحِ صحيحٌ، ولازمُه العادي قبيحٌ محرّم ؟!
  إذن المسألةُ مشكلةٌ، ففي هكذا حالة لا يمكن الوثوق بوجود ملاك ـ أي مصلحة ومحبوبية ـ في هذا التوضّي بالإرتماس، إذن يصعب القول بصحّة هذا الوضوء، وقاعدةُ (الإشتغال اليقيني تستدعي الفراغ اليقيني) تُلْزِمُنا بإعادة الوضوء , واللهُ العالم.