بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/04/06

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : غَيبة المسلم ذي اليد تكشف عن تطهيره
  الثالث عشر : غَيبة المسلم ذي اليد، فإنّها تكشف ـ ولو احتمالاً ـ عن تطهيره لما كان يعلم المسلمُ بنجاسته إذا كان يُستعمَلُ طاهراً وكان يستعمله فيما يشترط فيه الطهارة، وكان يُحتمل أن يكون قد طهّره، بل يكفي احتمال معرفته بالنجاسة . حينئذٍ يكونُ هذا الإستعمالُ أمارةً احتمالية على طهارته من باب حمل فعل المسلم على الصحّة، إلاّ إذا كنّا نعلم بعدم مبالاة هذا المسلم بالنجاسة . وفي الحقيقة هذا الإحتمالُ هو دليل تعبّديّ مستقلّ على كفاية احتمال تطهير ذي اليد لما هو تحت تصرّفه وكان يستعمله فيما يشترط فيه الطهارة، فهو بمنزلة إخباره بالطهارة310 .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
310 السؤالان الرئيسيّان في هذه المسألة هما :
 1 ـ هل يشترط حصول الظنّ بالتطهير أم يكفي مجرّد الإحتمال ؟
 الجواب : ذهب السيد الطباطبائي في منظومته والشيخ كاشف الغطاء والسيد اليزدي والسيد محسن الحكيم والسيد الخوئي والسيد السبزواري في مهذّب أحكامه وكلّ مَن علّق على العروة الوثقى (طبعة المجلّدين) إلى الإكتفاء بالإحتمال، وذهب الشيخ الأعظم الأنصاري إلى اشتراط حصول الظنّ بالتطهير . والصحيح ما ذهب إليه المشهور .
  دليل الشيخ الأنصاري هو ظهور حال المسلم في التنزّه عن النجاسات، وقد جعله الشارع المقدّس أمارةً على الطهارة بدليل السيرة وغيرها كما جعل سوق المسلمين أمارةً على التذكية . أقول وقد تفهم من الروايات أيضاً اشتراطَ حصول الظنّ .
  هذا، ولكنك تلاحظ المتشرّعة يكتفون باحتمال التطهير، وذلك لوضوح قلّة تديّن الكثير من المسلمين، خاصّةً أهل العامّة والأعراب . إذن فلنلاحظ الروايتين التاليتين : 
 1 ـ روى في يب بإسناده ـ الصحيح ـ عن أحمد بن محمد(بن عيسى) عن سعد بن إسماعيل (مهمل) عن أبيه إسماعيل بن عيسى قال : سألت أبا الحسن(الرضا) (عليه السلام) عن جلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل، أيَسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلماً غير عارف ؟ قال : (عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك، وإذا رأيتم (المسلمين ـ ظ) يصلّون فيه فلا تسألوا عنه )[1] قد يُتوهّمُ ضعفُها لإهمال سعد بن اسماعيل وأبيه، أقول : ولكنْ رواها بعينها الصدوق في الفقيه هكذا : (792 ـ وسأل إسماعيل بنُ عيسى أبا الحسن الرضا (عليه السلام)عن الجلود والفراء يشتريه الرجل في سوق من أسواق الجبل ..)، إذن تصحّح هذه الروايةُ بلحاظ أنّ الصدوق رواها في الفقيه عن اسماعيل مباشرةً فيكون ثقةً لأنه يكون من أصحاب الكتب التي عليها معوّل الشيعة وإليها مرجعهم، هذا أوّلاً، وثانياً : قال الشيخ الصدوق في مشيخة فقيهه : ( وما كان فيه عن اسماعيل بن عيسى فقد رويته عن محمد بن موسى بن المتوكّل رضي الله عنه(هو ثقة عندي وعند العلاّمة وابن داوود) قال حدّثنا علي بن ابراهيم عن أبيه عن اسماعيل بن عيسى) (إنتهى كلامه في مشيخة الفقيه) وهو سند مصحّح، وبهذا يوثّق إسماعيل وتوثّق رواياته .
  أقول : هذه أصرح رواية في المطلوب، وهي تفيد حجيّة فِعْلِ المسلمين من غير أهل المعرفة، فكيف إن كان المسلم من أهل المعرفة بالحقّ ؟! وذلك لقوله ( وإذا رأيتم (المسلمين) يُصَلّون فيه فلا تسألوا عنه ) ممّا قد يعني أنّ استعمال المسلمين من أهل العامّة للأشياء فيما يشترط فيه الطهارة والتذكية أمارة ظنيّة للآخرين تفيدهم لزوم البناء على الطهارة والتذكية . ويجاب على هذا التوهّم أن يكون هؤلاء ممّن يصلّون ولكنهم لا يهتمّون بطهارتهم لضعفِ دِينهم .
 2 ـ وقد تستفيد أيضاً ممّا رواه في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن الحسن بن عطية(ثقة) عن عمر بن (محمد بن) يزيد[2] قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : الرجل يُهدَى إليه البُخْتَجُ من غير أصحابنا ؟ فقال : ( إن كان ممن يستحل المسكر فلا تشربه، وإن كان ممّن لا يستحل فاشربه )[3] صحيحة السند . هذا الإهداء هو تصرّف عملي، وأنت إذا لاحظتَ جواب الإمام (عليه السلام) تراه يفيدنا لزومَ البناءِ على حِلِّيّة  هذا الشراب، ممّا يعني لزوم البناء على طهارة وحليّة ما يعمله المسلم، لكن إن ممّن لا يستحلّ شراب المسكر والبختج قبل زوال ثلثيه، ممّا قد يعني لزوم أن يحصل ظنّ بزوال الثلثين .
  لكن يمكن الإجابة عن اشتراط حصول الظنّ هو إمكان أن لا يستحلّ شرب المسكر ويؤمن بحرمته ولكن مع ذلك لا نعلم باهتمامه بالصلاة والطهارة .
  على أنك تعلم ـ ممّا سبق في بحث حجيّة خبر ذي اليد ـ استفاضةَ الروايات في أنّ خبر ذي اليد حجّة بلا شكّ، حتى ولو كان عاميّاً، المهمّ أن لا يكون معروفاً بالفسق وبالإستهتار بدِين الله، والإخبارُ العملي مِثْلُ الإخبارِ القَولي أو أكثر، أو قُلْ المناطُ في الحجيّة واحدٌ . لاحِظِ الروايتين التاليتين :
 ـ روى في الكافي عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد(بن عيسى) عن محمد بن إسماعيل(بن بزيع) عن يونس بن يعقوب(ثقة) عن معاوية بن عمّار قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) : عن الرجل من أهل المعرفة بالحق يأتيني بالبُخْتَجْ ويقول : قد طبخ على الثلث، وأنا أعرف أنه يشربه على النصف، أفأشربه بقوله وهو يشربه على النصف ؟ فقال (عليه السلام) : ( لا تشربه )، فقلت : فرَجُلٌ من غير أهل المعرفة ممن لا نعرفه يشربه على الثلث، ولا يستحله على النصف، يخبرنا أن عنده بُخْتَجاً على الثلث قد ذهب ثلثاه وبقيَ ثلثُه، نشربُ منه ؟ قال : (نعم )[4] وهو سند صحيح .
  ولا نشكّ في أنّ جواز الأخذ بقول العامّي ـ في السؤال الثاني ـ منشؤه حجيّة خبر ذي اليد وإن كان عامّيّاً، أمّا ذاك الذي نهَى الإمامُ (عليه السلام) عن شربه، وبالتالي لم يصدّقه، فالظاهر أنّ شربه له قبل ذهاب الثلثين أمارةُ ظنيّةٌ أنه لا يهتمّ بدين الله، فالمظنون أنه يكذب . إذن لا ينبغي أن نأخذ بقول ذي اليد مطلقاً إلاّ حيث تجري سيرة العقلاء وهي حالة ما لو أفادت الظنّ، لا في حالة الظنّ بالكذب، أقول : هذه الروايةُ مطابقةٌ للمنهج العقلائي تماماً، ومناطُ الحجيّةِ واحدٌ، سواءً في قول ذي اليد أو في عمله، أي سواء أخبرنا أنّ حنفية الماءِ طاهرةٌ أو كان يستعملها فيما يُشترَطُ فيه الطهارةُ .
 ـ ومثلها ما رواه في الكافي أيضاً عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن علي بن الحكم عن معاوية بن وهب قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن البختج فقال : ( إن كان حلواً يُخَضِّبُ الإناءَ وقال صاحبُه "قد ذهب ثلثاه وبقي الثلث" فاشربه )[5] صحيحة السند، وهي أيضاً تفيد جواز الأخذ بقول ذي اليد لكن إذا كان هناك أمارةٌ ظنيّة على صدقه، أي كان يوجد ظنّ بصدقه . أقول : وهذه أيضاً مطابقة للمنهج العقلائي تماماً في الإخبار والإستعمال .
  المهمّ هو أنّ مجرّد كونِ الشيء بصدد الإستعمال ـ كسكّين اللحّام وحنفيّات محلّه ـ هو إخبار عمليّ بطهارتها، وإخبارُ ذي اليدِ حجّةٌ . وقد ذكرنا دليلنا على حجيّة خبر ذي اليد عند قولنا (فصلٌ : طريقُ ثبوتِ النجاسة أو التنجُّس : العِلْمُ الوجداني وو .. وتثبت أيضاً بقول صاحب اليد بملك أو إجارة أو إعارة أو أمانة) فراجع .
  وأنت إذا تلاحظ الروايات ترى أنها تأخذ بعين الإعتبارِ الظنَّ بعدم إمكان استعمال المسلم ـ عادةً ـ لما يَعلم بلزوم طهارته فيما يشترط فيه الطهارة، أو قُلْ إنّ بناءنا على طهارة الغرض المتنجّس سابقاً هو من باب حمْلِ فِعْلِ المسلم على الصحّة، حتى ولو كان فاسقاً، فإذا خرج المسلم من الإستنجاء مثلاً وصار يستعمل يديه فيما يشترط فيه الطهارة كالطعام مثلاً فأنت بلا شكّ تأكل من هذا الطعام وتشرب، حمْلاً لاستنجائه على الصحّة، وإنما قلنا بكفاية الظنّ لأننا لا نرى في الروايات قيداً للزوم أن يحصل عندنا اطمئنانٌ بحصول التذكية والطهارة ...
  أمّا لو لاحظتَ سيرة المتشرّعة في مسألة اعتبار الطعام المأخوذ من المسلم طاهراً وحلالاً، تلاحظهم لا يشترطون حصول الظنّ بالتطهير، رغم علمهم بنجاسة سكّين الجزّار عند الذبح، ونجاسة يده عند الإستنجاء .. ومع ذلك يبنون على طهارة كلّ ما يُستعمل طاهراً ـ كالطعام والأواني والحنفيّات ـ ولا يجتنبون عنها ولا يستصحبون النجاسة . ومن الطبيعي أنه قد لا يحصل عندهم هذا الوثوق والإطمئنان إن كان المسلم مستَهْتِراً بدِينه أي غير مهتمّ بالصلاة والطهارة، وأنت قد لا تظنّ بطهارة ما يستعمله كلّ مسلم في العالم، أي تستبعد حمل فعل المسلم على الصحّة، مع ذلك أنت متعبّد ـ بدليل سيرة المتشرّعة ـ في أن تبني على طهارة سكّين اللحّام الفاسق سواء كان شيعياً أم عامّيّاً وعلى طهارة يده التي يستنجي بها، لا، بل حتى ولو حصل عندك شكّ بتطهيره للسكّين أو ليده، والظاهر أنّ السبب في ذلك هو التسهيل المحض من الشارع المقدّس . كلّ ذلك دليلٌ على كون (غيبة المسلم) حكماً تعبّديّاً مستقلاًّ في نفسه، وليس أمارةً ظنيّة على تطهير المسلم لما يشترط فيه الطهارة، خاصّةً وأنه قد لا يحصل ظنٌّ في الكثير من الحالات، وإنما يحصل احتمالٌ فقط في التطهير . 
  أقول : لا شكّ في أنّ سكوت المعصومين عن سيرة المتشرّعة الذين كانوا يعيشون بين العامّة من قليلي الدين هو دليل شرعي على حجيّة هذه السيرة وصحّتها، ولا شكّ في أنّ المتشرّعة لا يفكّرون فيما لو يحصل عندهم ظنّ بالتطهير أو ظنّ بعدمه، وإنما يشترون منهم بلا تأمّل . 
  سؤال آخر : هل يشترط أن يكون المسلم عالماً بالنجاسة أو يكفي الإحتمال ؟
  الجواب : ذهب أكثر مَن علّق على العروة إلى اشتراط أن يكون عالماً بالنجاسة، ودليلُهم هو أنّ هذا هو القدر المتيقّن من دليل السيرة، واستشكل السيد الخونساري والسيد الخميني في هذا الإشتراط، والمسألة مشكلة، فلا بدّ من الإحتياط .



[1] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج2، ص1072، أبواب النجاسات، ب50، ح7، ط الاسلامية.
[2] وهو معروف بـ عمر بن يزيد، ثقة جليل ممدوح من الإمام الصادق. (عليه السلام)، كان يحجّ كل سنة، له كتاب
[3] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج17، ص234، أبواب الأشربة المحرّمة، ب6، ح1، ط الاسلامية.
[4] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج17، ص234، أبواب الأشربة المحرّمة، ب6، ح4، ط الاسلامية.
[5] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج17، ص234، أبواب الأشربة المحرّمة، ب6، ح3، ط الاسلامية.