بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/02/15

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع : بقية الكلام في كفاية زوال النجاسة في حصول الطهارة

  أقول : ذكرنا دليلَنا على هذا الأمر ـ بتفصيل وتطويل ـ من الروايات وغيرها في أوّل هذا الكتاب، ولن نعيد كلّ ما ذكرناه هناك رغم الفائدة الكبيرة فيه، وذَكَرْنا أنّ ابن أبي عقيل والسيد المرتضى والفيض الكاشاني يقولون بكفاية زوال عين النجاسة والقذارة، وإنّ الأمر بالتعفير في ولوغ الكلب في الإناء ما هو إلاّ إرشاداً إلى عدم حصول صغرى زوال النجاسة .
   وهذه بعض أدلّتنا على ما نقول :
1 ـ الدليل القرآني : قال الله تعالى( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ، وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ )[1] وهذا صريح في جواز الأكل من طعامهم ـ طبعاً ما عدا ذبائحهم لأنّ الذبائح بحاجة إلى تذكية ـ مع أنهم لا يهتمون إلاّ بإزالة آثار النجاسات بشكل فطري . 
   بتعبير آخر : إنك تستفيد من قوله تعالى( وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ ) أنّ أهل الكتاب مع أنهم يساورون النجاسات كالمسلمين ـ أقصد أنهم يُجرَحون ويَخرُجُ منهم الدمُ ويُحْدِثون بالأخبثَين بل ويأكلون المَيتة وو ـ ومع ذلك أجازَ لنا اللهُ تعالى الأكلَ من طعامهم، وما ذلك إلاّ لأنهم يزيلون النجاسات عن أوانيهم، مع أنهم يزيلونها بشكل عرفي .

2 ـ الدليل العقلي : نحن ندّعي أنّ الغرض من التطهير هو زوال النجاسة فقط لا غير، وأنه أمر وجداني واضح، وأنّ الشارع المقدّس لم يخترع معنىً آخر للتطهير، وعلى الأقلّ لم يثبت عندنا وجود معنى آخر للتطهير غير المعنى اللغوي، فتحمل هذه الكلمة على المعنى اللغوي لا محالة .

3 ـ الإجماع بين القدماء وسيرة المتشرّعة القدماء، وهذان يظهران من خلال إفتاء ابن أبي عقيل بكفاية زوال النجاسة في الحكم بالطهارة، ومن خلال ادّعاء السيد المرتضى الإجماع على التطهير بالمضاف، وقال بأنّ تطهير الثوب ليس إلاّ إزالةَ النجاسة عنه، وقد زالت بغير الماء مشاهدةً . وقال أيضاً بجواز تطهير الأجسام الصقيلة بالمسح بحيث تزول عنها عينُ النجاسة معلّلاً لذلك بزوال العلّة . وبهذا أفتى الفيض الكاشاني أيضاً، وهو إبن أحاديث المعصومين (عليهم السلام) وربيبها .

4 ـ أقوال المعصومين (عليهم السلام) : فقد استفاضت روايات المعصومين في ذلك، لكننا سيطرت علينا بعض الفتاوى الخاطئة، فصرنا نفسّرها على غير وجهها، فوجب علينا أن نذكر بعض الروايات، إخراجاً للمتوهّم ممّا أحاط به من فتاوى خاطئة، وهو في خطئه هذا معذور، لأنّ الإنسانَ ابنُ بيئته، وإليك بعض الروايات :
أ ـ روى في المعتبر صفحة 121 عن الحسين بن أبي العلاء عن الصادق (عليه السلام) قال : سألته عن الثوب يصيبه البول ؟ قال : ( إغسله مرتين، الأول للإزالة والثاني للإنقاء ) [2] مرسلة السند . وبهذه الزيادة بعينها رواها مِن بَعدِه الشهيدُ الأوّلفي الذكرى عن الصادق (عليه السلام) .هذا ويطمئنّ الإنسان أنّ هذه الزيادة ليست من الإختراعات الكاذبة .
ب ـ روى في التهذيب بإسناده الصحيح عن محمد بن أحمد بن يحيى عن أحمد بن الحسن بن علي بن فضّال عن عمرو بن سعيد عن مصدّق بن صدقة عن عمّار الساباطي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ( كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر، فإذا علمت فقد قذر، وما لم تعلم فليس عليك ) موثقة السند، فالنجاسة هي القذارة الشرعية، فإذا ارتفعت هذه القذارة الشرعية بزوال موضوعها صار المحل طاهراً قطعاً .
ج ـ وروى في التهذيب بإسناده الصحيح عن محمد بن علي بن محبوب عن (العبّاس بن معروف) عن عبد الله بن المغيرة عن غياث بن ابراهيم(بتري[3] ثقة) عن أبي عبد الله عن أبيه عن عليّ (عليه السلام) قال : ( لا يُغسل بالبُصاق غيرُ الدم )، وفي نسخة ٍ( لا بأس أن يُغسل الدمُ بالبُصاق )[4] موثّقة السند، وهي تفيد حصول الطهارة بإزالة الدم بالبصاق، وهو عين الحقّ، أو قُلْ إن زال الدمُ بالبصاق ولم يعد على المحلّ دم أصلاً فإنّ المحلّ يطهر حتماً .
د ـ حُكْم الشارعِ المقدّس بطهارة أجسام الحيوانات إذا زالت عنها النجاسات، وهذا كاشف قطعي على أنّ زوال النجاسة سبب تامّ للطهارة، وإلاّ لا معنى للحكم بالطهارة وهي نجسة واقعاً .
هـ ـ صحيحة محمد بن اسماعيل بن بزيع المشهورة عن الرضا (عليه السلام) (ماء البئر واسع لا يفسده شيءٌ إلا أن يتغيَّرَ ريحه أو طعمه فينزح منه حتى يذهب الريح ويطيب طعمه ـ فيَطْهُر ـ لأنّ له مادة ) فالغايةُ ـ إذَنْ ـ هي ذهاب صفات النجاسة، والسبب في طهارته أنّ له مادّة تغلب على النجاسة وتزيلها، المهم هو حصول الغاية وهي ( ذهابُ الريح وطيبُ الطعم ).
و ـ وروى في يب بإسناده ـ الصحيح ـ عن الحسين بن سعيد وعلي بن حديد وعبد الرحمن بن أبي نجران عن حمّاد بن عيسى عن حَرِيز بن عبد الله عن زرارة بن أعين قال : قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : رجل وطأ على عذرة فساخت رجله فيها، هل يجب عليه غسلها ؟ فقال : ( لا يغسلها إلاّ أن يتقذَّرها ولكنه يمسحها حتى يذهب أثرها ويصلي )[5] صحيحة السند، ويصرّح فيها الإمام (عليه السلام) بالغايةَ من المسْح وهو ذهاب الأثر، وذهابه قطعاً هو عرفي لأنّه لن يزول بالدقّة العقليّة .
ز ـ وروى في الكافي عن علي بن ابراهيم عن أبيه عن (عبد الله)بن المغيرة عن أبي الحسن(الكاظم) (عليه السلام) قال : قلت له : للإستنجاء حدّ ؟ قال : ( لا، ينقى ما ثمّة )، قلت : فإنه ينقى ما ثمّة ويبقى الريح ؟ قال : ( الريح لا يُنظر إليها ) صحيحة السند، ولا فرق بين ما ثمّة وبين غيره حتماً، فالمهم إذَنْ نقاوةُ ما ثمّة .
ح ـ وقد تستفيد الطريقية ممّا رواه محمد بن علي بن الحسين في الفقيه بإسناده ـ الصحيح ـ عن زرارة قال : سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن البول يكون على السطح أو في المكان الذي يصلَّى فيه ؟ فقال : ( إذا جفَّفَتْه الشمس فصلّ عليه، فهو طاهر )[6] صحيحة السند، وتقريب هذا الصّنف من الرّوايات واضح وهو كفاية زوال آثار النجاسة وليست هذه الطريقة تعبّدية .
5 ـ الأصل العملي :
 بعد غسل الثوب المتنجّس بالبول مثلاً مرّة واحدة مستمرّة طويلة بقدر غسلتين أو عشرين غسلة لا يبقى محل للاستصحاب لأنّ موضوع النجاسة (وهو البول) قد زال، كما لا يصحّ أن نستصحب الحكمَ بالنجاسة بعد العِلْمِ بزوال موضوعه، وذلك من باب السالبة لانتفاء الموضوع، فالمرجعُ حينئذ أصالةُ الطهارة وقاعدتها .

  فإذا عرفت هذا تعرف الإكتفاءَ بزوال النجاسة عن البدن والثياب، وبتعبير آخر : لك أن تقول بكفاية المرّة الواحدة في غسل البدن والثياب المتنجّسة بالبول، إذا زالت النجاسة .
   ولك أن تستدلّ بإطلاق الروايات التالية :
1 ـ روى في الكافي عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد(بن عيسى) عن إبراهيم بن أبي محمود قال : قلت للرضا (عليه السلام) : الطنفسة والفراش يصيبهما البول، كيف يصنع بهما وهو ثخين كثير الحشو ؟ قال : ( يغسل ما ظهر منه في وجهه )[7] صحيحة السند، ورواها الصدوق بإسناده عن إبراهيم بن أبي محمود .
2 ـ وفي الكافي أيضاً عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن موسى بن القاسم عن إبراهيم بن عبد الحميد قال : سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الثوب يصيبه البول فينفذ إلى الجانب الآخر، وعن الفرو وما فيه من الحشو، قال : (اِغسلْ ما أصاب منه ومُسَّ الجانبَ الآخر، فإن أحببت مس شيء منه فاغسله، وإلا فانضحه بالماء )[8] صحيحة السند .
3 ـ وروى عبدُ الله بن جعفر الحِمْيَري في قرب الإسناد عن عبد الله بن الحسن عن جده علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليهم السلام) قال : سألته عن الفِراش يكون كثير الصوف فيصيبه البول، كيف يغسل ؟ قال : ( يغسل الظاهر، ثم يصب عليه الماء في المكان الذي أصابه البول حتى يخرج من جانب الفراش الآخر )[9]، وهو سندٌ ضعيفٌ بعبد الله بن الحسن لجهالته عندنا، إضافةً إلى أنّها مرسلة ما بيننا وبين صاحب قرب الإسناد إلاّ أن تطمئنّ بصحّة الكتاب بادّعاء تواتره، ورواها علي بن جعفر في كتابه .

4 ـ وقد يصحّ الإستدلال بما رواه في يب بإسناده عن الحسين بن سعيد عن صفوان عن عبد الرحمن بن الحجاج قال : سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن رجل يبول بالليل فيحسب اَنّ البول أصابه فلا يستيقن، فهل يجزئه اَنْ يَصُبّ على ذكره إذا بال ولا ينشف ؟ قال : ( يغسل ما استبان اَنّه أصابه، وينضح ما يشك فيه من جسده أو ثيابه )[10] صحيحة السند .

   ثم ماذا تقول فيما لو صَبَبنا الماءَ على الثوب مرّة واحدة مستمرّة بمقدار عشرين غسلة وظَلَلْنا نُدَوّرُ الإبريقَ فوق الثوب مع تدليكه عشرين مرّة ؟! وقد حُكِيَ عن الشهيد في الذكرى القولُ بكفاية الصبة الواحدة بقدر الغسلتين أو الصبتين، وتبعه جماعة ممن تأخر عنه، ولعله من جهة أن الإتصال بين الغسلتين بالصب ليس بأقل من القطع بينهما بالفصل، وإنما هو أكثر بالوجدان، فبالاَولويّة يجب القول بحصول الطهارة . ولا تريد النصوص أن تقول إلاّ بضرورة التأكّد من زوال القذارة لا غير، ولك أن تستدلّ على ذلك بما ذكرناه في أوائل هذا الكتاب على الإكتفاء بزوال النجاسة وآثارها، وبما رويناه قبل قليل ـ في صحيحة محمد بن مسلم[11]  ـ من الإكتفاء بالمرّة الواحدة في غسله بالماء الجاري .

   ومن أعجب ما تسمع هو ما أفاده السيد الخوئي حشرنا الله معه قال : (إن الظاهر من أسئلتهم عن أن البول يصيب الثوب أو البدن هو اختصاص السؤال والجواب بما قد يصيبه البول وقد لا يصيبه فيعتبر في مثله الغسل مرتين، وأما ما كان في معرض الإصابة دائماً فلا تشمله الروايات بوجه، وعليه فلا يجب التعدد في مخرج البول حينئذ، إذ لا يصح أن يقال إنه مما يصيبه البول، بل إن كان هناك دليل يدل على اعتبار التعدد فيه فهو وإلا فيقتصر فيه بالصبّة الواحدة أو الغسل مرة)[12] (إنتهى) .

 وفي قضيّة الإكتفاء بغَسْل الغسّالة التمام اُوتوماتيك لك أن تستدلّ ـ إضافةً إلى ما ذكر ـ بما رواه في التهذيب بإسناده ـ الصحيح ـ عن محمد بن أحمد بن يحيى عن السندي بن محمد(ثقة) عن العلاء(بن رزين) عن محمد بن مسلم قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الثوب يصيبه البول ؟ قال : ( إغسله في المِرْكَن مرّتين، فإنْ غَسَلْتَهُ في ماءٍ جارٍ فمرّةً واحدةً)[13] صحيحة السند، والغسّالة الأوتوماتيك تغسل ثلاث مرّات .



[1] مائده/سوره5، آیه5.
[2] تجد هذه الروايات وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج3، ص439، أبواب النجاسات، ب25، ح2، ط ال البيت.
[3] خلاصة بيان مذهب البترية أنهم يتولّون عليّاً والحسن والحسين (عليهم السلام) ويدْعون إلى ولايتهم، ولكنهم خلطوها بولاية أبي بكر وعمر، بل ويثبتون لهما الإمامة أيضاً، ويبغضون عثمان وطلحة والزبير وعائشة، ويرون الخروج مع بطون وُلْدِ علي بن أبي طالب، بل ويعتبرون الخارج منهم بالسيف إماماً.
[4] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج1، ص149، أبواب الماء المضاف، ب4، ح2، ط الاسلامية.
[5] تجد هذه الروايات في وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج2، ص1048، أبواب النجاسات، ب4، ح7، ط الاسلامية.
[6] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج2، ص1048، أبواب النجاسات، ب4، ح7، ط الاسلامية.
[7] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج2، ص1004، أبواب النجاسات، ب5، ح1، ط الاسلامية.
[8] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج2، ص1004، أبواب النجاسات، ب5، ح1، ط الاسلامية.
[9] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج2، ص1004، أبواب النجاسات، ب5، ح1، ط الاسلامية.
[10] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج1، ص225، أبواب أحكام الخلوة، ب11، ح1، ط الاسلامية.
[11] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج2، ص1002، أبواب النجاسات، ب2، ح1، ط الاسلامية.
[12] التنقيح في شرح العروة الوثقى، السيد ابو القاسم الخوئي، ج4، ص28.
[13] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج2، ص1002، أبواب النجاسات، ب2، ح1، ط الاسلامية. والمِرْكَن هو الطشت الذي تُغسل به الثياب