بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/01/25

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : نظرةٌ في معنى الوثاقة
لا يزال كلامنا حول الغلوّ فنقول :
   اِعلمْ أنّ التضعيف والغُلُوّ غيرُ التكذيب، فقد يكون شخصٌ ضعيفاً أو مغالياً ولكنه صادق في نفسه، كما قال الشيخ الطوسي في محمد بن خالد البرقي، قال "ثقة في نفسه ضعيف في الحديث" أي كان غير فقيه، يجمع بين الغث والسمين، يروي المراسيل، ولا يبالي عمّن روى ...
   وكذلك الغُلُوّ، فالغُلُوّ مرتَبَةٌ عقائدية غير مقبولة عند المقيّم، وهو الإفراط في نسبة بعض الصفات العالية للنبيّ أو للأئمّة )عليهم السلام) الغير مقبولة عند المقيّم، أو قُلْ هو تجاوز الحدّ في صفات الأنبياء والأئمة )عليهم السلام)، هذا هو المعروف من هذا المصطلح .
   هذا، ووسّع بعضُهم مصطلحَ (الغلوّ) فقالوا : هو الإفراط أو التفريط في نسبة بعض الصفات إلى بعض الأشياء، فقال الزمخشري : "غَلَتِ اليهود في حطّ المسيح عن منزلته حيث جعلته مولوداً لغير رُشْدَة، وغلت النصارى في رفعه عن مقداره حيث جعلوه إلهاً"[1]، وروى الطبرسي عن الحسن البصري أنه قال "إنّ النصارى غلت في المسيح، فقالت هو ابن الله، وبعضهم قال هو الله، وبعضهم قال هو ثالث ثلاثة : الأب والإبن وروح القدس، واليهود غلت فيه حتى قالوا ولد لغير رشدة، فالغلوّ لازم للفريقين"، ومنه يفهم أنّ الغلوّ قد يكون بحطّ الوليّ عن منزلته، وقد يكون برفعه فوق منزلته، فيكون الغلوّ هو الإنحراف في العقيدة، سواء إلى طرف الإفراط أو إلى طرف التفريط، فعندما يقال "فلان غال" يراد به هذا المعنى، وحينما يقال فلان مرتفع في القول أو المذهب يعنون به أنه مغال، ولكنه مِن صِنْفِ مَن يَرْفَعُ الإمامَ عن منزلته الدينية[2].
   وقال الشيخ الصدوق : "إنّ الغلاة والمفوّضة لعنهم اللهُ يُنكرون سهوَ النبيّ (ص)[3] " واستدَلّ بكلام طويل قال فيه "يجوز على النبيّ ما يجوز على غيره مثل السهو .." وكان يُثْبِتُ سهوَ النبيّ،
ونَقَل عن شيخه محمد بن الحسن بن الوليد أنه قال "أوّلُ درجةٍ في الغلوّ نفيُ السهو عن النبيّ (ص)[4] .." ـ طبعاً كلامُهم في الموضوعات الخارجية لا في الأحكام وإلاّ لانتفت الفائدةُ من إرسال الرسول لاحتمالنا السهو ح في كلّ حكم من الأحكام الشرعية.
   فهل بَعد هذا يكون قولُهم بنحو مطلق "فلانٌ غالٍ" إشارةً إلى كذبه في النقل ؟! مع أنه على هذا الأساس سيكون كلّ أو جلّ علماء الشيعة اليوم مُغالين !! وقد أنكر عليهما كلّ علمائنا السابقين عليهما واللاحقين ـ كما قال الشهيد الأوّل في الذكرى ـ وردّ عليهما العلاّمةُ الحلّي في كتبه الكلامية .. على أنّ كلا القولَين بأنّ النبيّ (ص) قد يسهو في صلاته ـ لورود بعض روايات في ذلك ـ أو لا يسهو ـ لمنافاة ذلك مع رسالته التي تحتّم عدمَ سهوِه أصلاً كي لا يتوهّم إنسانٌ أنه قد يسهو مطلقاً أي حتى في الأحكام ـ لا يوجبان فسقاً ولا كفراً .
   أقول : الصفاتُ التي تنسب إلى الأنبياء والأئمّة )عليهم السلام)  منها ما هو صحيح وليست نسبتها إليهم غُلُوّاً، ومنها ما هو غلوّ واضح :
   فالمقبول عند العلماء ـ وليس هو غُلُوّاً ـ هو القول بأنهم قادرون على الخلق، لكنْ بإذن الله، وقادرون على الإماتة والإحياء والرزق، لكنْ كلّ ذلك بإذن الله ـ أي بنحو الطولية.
المهم أن نُبْقِيَهُم في نطاق البشرية، وإن كانوا أكملَ البشر في الكمالات الإنسانية، وأنْ نقول بأن هذه الأمور تصدر منهم بإذن الله تعالى، وأن الله قد مَكَّنَهُم وأمَرَهم بها، يفعلون ما يشاء الله .
ولا يبعد اتّصافهم )عليهم السلام)  ببعض الصفات الغير خارجة عن نطاق البشرية ـ أي الممكنة عند البشر ـ كصفات لا يَغْفَلون، أو لا يَشْغَلُهُم شأنٌ عن شأن، كما يفهم من الروايات .
  وهناك مرتبة بديهية اليوم كعصمة الأنبياء والأئمّة )عليهم السلام) وكصحّة التوسّل بهم والإستشفاء بهم وأنهم أحياء يَشهدون مقامَنا ويَسمعون كلامَنا ويَردّون سلامنا، كما في زيارة الإمام أمير المؤمنين )عليه السلام) ( أشهد أنك تسمع كلامي وتشهد مقامي) وأنهم إذا شاؤوا عَلِموا الأمورَ الحُكمية والموضوعية، وأنهم قادرون بإذن الله على فعل المعجزات، وأنهم سيشفعون لنا في الآخرة، وأنهم مستجابوا الدعوات أكثر من غيرهم .
   كما أنه ليس من الغُلُوّ في الأفعال تقبيلُ أضرحتهم، بل تقبيل عتباتهم المقدّسة، حبّاً بأصحاب هذه الأضرحة المباركة ...


[1] تفسير الزمخشري الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، الزمخشري، ج1، ص593.
[2] وسائل الشيعة،  الحر العاملي، ج3، ص263، أبواب لباس المصلّي، ب10، ح1، ط الاسلامية.
[3] من لايحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج1، ص359.
[4] من لايحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج1، ص360.