بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/12/27

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: عدّة مسائل فيما يعفى عنه في الصلاة

وأما إذا شُكّ في أنه بقدر الدرهم أو أقل فأيضاً يُبنَى على العفو، وذلك لأصالة عدم المانعية من صحّة الصلاة فيه، كما ذكرنا في الفرع السابق، بعد عدم صحّة التمسّك بالعام في الشبهات المصداقية كما أسلفنا أيضاً، على أنّه لا يوجد أصلٌ يقتضي اتصافَه بكونه قدَرَ الدرهم أو بكونه أقلّ من الدرهم، فمع تعارض كلا الإستصحابين ـ أي استصحاب عدم كونه بمقدار الدرهم واستصحاب عدم كونه أقلّ منه ـ يجب ح التمسّك بأصالة البراءة بالصلاة فيه .
   ولك أن تزيد هنا إمكان القول بأنّ الأصل الأوّلي هو عدم مانعية شيء من الصلاة فيه، خرج منه بعض اُمور، فإذا شككنا في هذا الدم المشكوك كونُه أكثر من درهم أو أقلّ، لا بأس بالرجوع إلى أصالة عدم المانعية .
   والأمر أوضح إذا كان فعلاً مسبوقاً بالأقلّيّة وشُك في زيادته وذلك للزوم استصحاب الحالة السابقة .

   مسألة 4 :إذا تنجّس شيءٌ بالدم فحكمه كالدم في العفو عنه إذا كان أقل من الدرهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إختلف علماؤنا في ذلك، فقد ذهب في المنتهى والبيان والذخيرة وكلّ أو جلّ أصحاب الحواشي على العروة الوثقى إلى أن المتنجّس بالدم ليس كالدم في العفو عنه إذا كان أقلّ من الدرهم، وذلك لاختصاص الأدلّة بالدم .
   وذهب جماعة ـ كما الذكرى وروض الجنان والمعالم والمدارك وقوّاه في الجواهر واحتمله في النهاية ـ أنّ المتنجّس بالدم هو فرع عن النجاسة بالدم، وهو لا يزيد عن الأصل، وهو الحقّ الواضح .
   وقال السيد الخوئي : بل هذا الكلام قاعدة استحسانية ولا سبيل للرجوع إليها في الأحكام التعبّدية التي لا نحيط بخصوصياتها .
   أقول : بل الأولويّة هي قاعدة بديهية، ولذلك أفتى كلّ علمائنا بحرمة ضرْبِ الأبوين من خلال قوله تعالى[ فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ ] بناءً على هذه الأولوية، وأيضاً لا يجوز أن تتسلّم المرأة مقاليد المرجعية والإفتاء بدليل الأولوية من عدم إمكان تسلّمها منصب القضاء ... فإن لم نعمل بالبديهيات العقلية فعلى الإسلام السلام .
     *   *   *   *   *
   مسألة 5 : الدم الأقل إذا اُزيل عينُه فالظاهرُ بقاءُ العفْوِ.[1]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهو الصحيح والمشهور جداً بين المعاصرين المعلّقين على العروة، وقال في المستمسك : (كما عن شرح الموجز والنهاية والمدارك) وذلك للأولوية الواضحة . ولك أن تستصحب العفو، وذلك باستصحاب موضوع العفو، وذلك بعد إزالة العين وبقاء الأثر . وبعضهم شكك في هذه الأولوية، وجوابه أنّ هذه وسوسة واضحة، أعاذنا الله منها .
     *   *   *   *   *
مسألة 6 :الدم القليل إذا وقع عليه دم قليل آخر وكان المجموع أقل من درهم لم يَزُل حكم العفو عنه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 لكون المجموع أقلّ من درهم، أو قُلْ لإطلاق الأدلّة، أي سواء وَقَعَ الدمُ القليلُ دفعةً واحدة عليه أو وقَعَ على دفعات، وسواء ترشّحَ من شخص واحد أو من أشخاص .
     *   *   *   *   *
مسألة 7 :الدم الغليظ الذي سعته أقل من درهم يعفى عنه، حتى وإن كان بحيث لو كان رقيقاً لصار بقدره أو أكثر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لأنّ العبرة بالعفو بفعلية سعة الدم مقدار أقلّ من درهم، ولك أن تقول لإطلاق أدلّة العفو، أي سواء كان الدمُ غليظاً أم رقيقاً .
     *   *   *   *   *
مسألة 8 :إذا وقعت نجاسة أخرى كقطرة من البول مثلاً على نفس بقعة الدم الأقل من الدرهم بحيث لم تتعد عن بقعة الدم إلى المحل الطاهر ولم تصل إلى الثوب أو البدن فلا شكّ ح في عدم العفو.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قد تقول بالعفو بدليل أنّه لا معنى لتنجّس الدم بنجاسة ثانية، وجوابه الظنّ بزيادة النجاسة وشدّة قذارتها، ولأصالة عدم التداخل، لا في الموضوعين، ولا في الحكمين، ولذلك لا ينبغي أن يُعفَى عنها .
   وقد تقول بعدم العفو من جهة اُخرى وهي صدق الصلاة في الدم المخلوط بالبول أو غيره من النجاسات .
   ولا شكّ أنّ في القول بالعفو جسارة كبيرة، لا يتجرّأ الفقيه على ذلك، ولذلك اشتهر جداً القولُ بعدم العفو[2]، ولو رجوعاً إلى أصالة عدم صحّة الصلاة بالنجاسة، وهو الصحيح .
     *   *   *   *   *
الثالث : مما يُعفَى عنه في الصلاة من النجاسات أو المتنجّسات هو ما لا تَتِمُّ فيه الصلاةُ من الملابسكالقلنسوة والتكة والجورب والنعل والخاتم والخلخالونحوِها، بشرط أن لا يكون من المَيتة على الأحوط وجوباً، ولا من أجزاء ما لا يؤكل لحمه، أمّا المحمولات كشعر القطّ إذا كان واقعاً على بدن المصلّي أو ثوبه فلا بأس به، ومثلها المحفظة إذا كانت مأخوذةً ممّا لا يؤكل لحمه، فإنّ حملها في الصلاة في الجيب جائز .
   والمناط عدمُ إمكانِ التستُّرِ به عادةً لصغره، مثل العمامة الملفوفة والقلنسوة والجورب والحزام والتكّة(أي الحبل أو الرباط الرفيع الذي كان يُربَطُ به السروالُ القديم والمعروف في لبنان بـ دِكّة الشروال) حتى ولو أمكن التستّر به بتغيير هيأتها، كما لو حُلَّتِ العمامةُ وخرجت عن كونها عمامة، فإنك لا يصحّ أن تلفّها كالملفّ العريض على كلّ بطنك ـ أي بعَرْضِها العَريض ـ وهي متنجّسة، وذلك لأنها في هكذا حالة يمكن تستير العورة بها، بخلاف ما لو جعلتَها مرّةً ثانية عمامةً أو تكّة رفيعة كالحبل فإنها يصحّ الصلاةُ بها ح، لأنها بهذه الهيأة لا يمكن تستير العورة بها، وكذا التكّة العريضة التي يلبِسُها عادةً أهلُ التصوّف على بطونهم فالأحوط أن تكون طاهرة، لأنها بعرضها قابلةٌ لسَتر العورة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إجماعاً صريحاً وظاهراً، محكيّاً عن الإنتصار والخلاف والسرائر والتذكرة والكفاية والذخيرة وغيرها . قال الشيخ الطوسي في الخلاف :
مسألة 223 : كلُّ ما لا تتم به الصلاة منفرداً لا بأس بالصلاة فيه وإن كان فيه نجاسة، وذلك مثل النعل والخف والقلنسوة والتكة والجورب ... دليلُنا : إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضاً فإنّ النجاسة حكم شرعي فينبغي أن لا يحكم بثبوت حكمها إلا بدليل، ولا دليل في الموضع الذي قالوه على نجاسة ما تحصل فيه، والأصل براءة الذمة ..)(إنتهى) .
   على أيّ حال فقد استفاضت النصوص في ذلك، نذكر ما وجدنا منها :
1 ـ ما رواه في يب بإسناده الصحيح عن محمد بن علي بن محبوب عن محمد بن الحسين(بن ابي الخطّاب جليل من أصحابنا ثقة عين) عن علي بن أسباط عن علي بن عقبة عن زرارة عن أحدهما (عليهم السلام) قال : (كل ما كان لا تجوز فيه الصلاة وحده فلا بأس بأن يكون عليه الشيء مثلُ القلنسوة والتكة والجورب )[3] صحيحة السند .   
   وفي يب أيضاً عن سعد عن محمد بن الحسين عن علي بن أسباط عن إبراهيم بن أبي البلاد عمَّن حدثهم عن أبي عبد الله (عليهم السلام) قال : (لا بأس بالصلاة في الشيء الذي لا تجوز الصلاة فيه وحده يصيب القذر، مثل القلنسوة والتكة والجورب )[4] والظاهر جداً أنها نفس رواية زرارة السابقة .
2 ـ وفي يب أيضاً عن سعد عن الحسن بن علي[5] عن عبد الله بن المغيرة عن الحسن بن موسى الخشاب عن علي بن أسباط عن (محمد بن عبد الرحمن)ابن أبي ليلى(وثّقَهُ العلاّمة) عن زرارة قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : إن قلنسوتي وقعت في بول فأخذتها فوضعتها على رأسي ثم صليت ؟ فقال : ( لا بأس )[6] قد تصحّح عند بعضهم .
3 ـ وأيضاً في يب بإسناده عن سعد بن عبد الله عن محمد بن الحسين عن أيوب بن نوح عن صفوان بن يحيى عن حماد بن عثمان عمَّنْ رواه([7]) عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الرجل يصلي في الخف الذي قد أصابه القذر ؟ فقال : ( إذا كان مما لا تتم فيه الصلاة فلا بأس )([8])، قد يصحّح متنها بناءً على صحّة روايات أصحاب الإجماع . وعن المفيد عن الصدوق عن محمد بن الحسن عن أحمد بن إدريس عن محمد بن أحمد بن يحيى عن أيوب بن نوح مثله .
   والقَلَنْسُوَة كثيرة الإختلاف باللفظ عند العرب مثل قَلْسُوَة وقَلْساة وقَلَنْسِيَة وغير ذلك .. (راجع لسان العرب مادّة قلس)، وتعرف بتعبيرنا اللبناني بالقَلّوْسَة، يقولون قلّوسة الحاج، وهي من ملابس الرؤوس معروفة، ومثلها بالحكم البُرْنَيْطَة ..
4 ـ وأيضاً في يب عن المفيد عن محمد بن أحمد بن داود(بن علي شيخ هذه الطائفة وعالمها وشيخ القميين وفقيههم له كتب) عن أبيه(ثقة كثير الحديث) عن علي بن الحسين(بن موسى بن بابويه القمّي شيخ القميين في عصره وفقيههم وثقتهم له كتب كثيرة) ومحمد بن يحيى عن محمد بن أحمد بن يحيى عن العباس بن معروف أو غيره عن عبد الرحمن بن أبي نجران عن عبد الله بن سنان عمَّن أخبره عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال : ( كل ما كان على الإنسان أو معه مما لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس أن يُصَلّيَ فيه، وإن كان فيه قذَرٌ، مثل القَلَنْسُوَة والتكة والكمرة والنعل والخفين وما أشبه ذلك )[9] مرسلة السند .
والخاتم والخلخالونحوها معفوّ عنها لأنها لا تتمّ فيها الصلاة .
بشرط أن لا يكون من المَيتة للكثير من الروايات من قبيل :
1 ـ موثّقة ابن بكير السابقة حيث قال : سأل زرارةُ أبا عبد الله  (عليه السلام) عن الصلاة في الثعالب والفَنَك [10] والسنجاب[11] وغيرِه من الوبر، فأخرج كتاباً زعم أنه إملاء رسول الله (ص)( انّ الصلاة في وبر كل شيء حرامٌ أكلُه فالصلاةُ في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وكل شيء منه فاسد، لا تُقبَل تلك الصلاة حتى يصلّيَ في غيره مما أحلّ اللهُ أكلَه)، ثم قال : ( يا زرارة، هذا عن رسول الله (ص)، فاحفَظْ ذلك يا زرارة، فإنْ كان مما يُؤكل لحمُه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكل شيء منه جائز إذا علمت أنه ذكِيّ قد ذكّاه الذبح، وإن كان غير ذلك مما قد نُهِيت عن أكله وحرُم عليك أكلُه فالصلاة في كل شيء منه فاسد، ذكّاه الذبح أو لم يذكِّه ).
   لاحِظْ قولَه (عليه السلام) ( فإنْ كان مما يُؤكل لحمُه فالصلاةُ في وبره وبوله وشعره ورَوثه وألبانه وكل شيء منه جائز إذا علمتَ أنه ذكِيّ قد ذكّاه الذبح ) ومفهومها الواضح : فإن كنت لم تعلم أنه ذكّاه الذبحُ فالصلاة فيه غير جائزة، أي فلا تستصحب طهارته من قبل موته، وإنما لا تصلّ فيه، حتى وإن كان ممّا لا تتمّ فيه الصلاة كالوبر والشعر .
2 ـ ما رواه في التهذيب بإسناده الصحيح عن أحمد بن محمد بن عيسى عن محمد بن أبي عمير عن غير واحد عن أبي عبد الله (عليه السلام) في المَيتة قال : ( لا تصلِّ في شيء منه ولا في شِسْع )[12] مصحّحة السند .
3 ـ وما رواه في يب أيضاً قال : أحمد بن محمد عن أبيه عن عبد الله بن المغيرة عن عبد الله بن مسكان قال حدثني علي بن أبي حمزة(البطائني) أنّ رجلاً سأل أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا عنده عن الرجل يتقلدُ السيف ويصلَّي فيه ؟ قال : ( نعم )، فقال الرجل : إنّ فيه الكيمخت ! قال : ( وما الكيمخت ؟ ) قال : جلود دواب منه ما يكون ذكياً، ومنه ما يكون مَيتة ؟
فقال : ( ما علمتَ أنّه مَيتة فلا تصلّ فيه )[13]، الظاهر قوياً أنّه البطائني الضعيف وليس الثمالي الثقة، وذلك لكون روايات البطائني أكثر من خمسمئة رواية وروايات الثمالي أقلّ من خمس روايات، فينصرف هذا الإسم إلى البطائني حتماً، إلاّ أنه يمكن تصحيح متنها لأنها من روايات أصحاب الإجماع وهما العبدلان، مع أنّ الكيمخت لا تتمّ فيه الصلاة


[1] العروة الوثقى، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج1، ص218، ط ج.
[2] راجع العروة الوثقى.
[3] وسائل الشيعة الحر العاملي، ج2، ص1025، أبواب النجاسات، ب31، ح1، ط الاسلامية .
[4] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج2، ص1046، أبواب النجاسات، ب31، ح4، ط الاسلامية.
[5] الحسن بن عليّ هذا هو إمّا الحسن بن علي بن عبد الله بن المغيرة كما هو المظنون قوياً، وإمّا الحسن بن علي بن فضّال على احتمال ضعيف، وعلى أيّ حال فكلاهما ثقتان.
[6] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج2، ص1046، أبواب النجاسات، ب31، ح3، ط الاسلامية.
[7] في نسخة، نسخ يب بدل عمّن رواه عن زرارة.
[8] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج2، ص1045، أبواب النجاسات، ب31، ح2، ط الاسلامية.
[9] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج2، ص1046، أبواب النجاسات، ب31، ح5، ط الاسلامية.
[10] الفَنَكُ نوع، الثعلب أو، جراء الثعلب التركي، ويطلق أيضاً على فَرخ إبن آوى، وهو غير مأكول اللحم، يُفْتَرَى جِلْدُها أي يُلْبَسُ جِلْدُها فَرواً، والفَنَك هو جِلْدٌ يُلْبَس، وكانوا يُبَطّنون به ثيابَهم.
[11] السِنجاب حيوانٌ على حدّ اليربوع، أكبر، الفأرة، شَعرُه في غاية النعومة، يُتّخذ، جلده الفراء.
[12] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج3، ص272،، أبواب لباس المصلّي، ب14، ح6، ط الاسلامية.
[13] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج2، ص1072، أبواب النجاسات، ب50، ح4،. ط الاسلامية