بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/12/20

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: مما يُعفَى عنه في الصلاة الدمُ الأقلُّ من الدرهم (2)
الثاني : مما يُعفَى عنه في الصلاة الدمُ الأقلُّ من الدرهم(265)، سواء كان في البدن أو اللباس، من نفسه أو من غيره، متفرّقاً أو مجتمعاً، عدا دم الحيض، والأحوط وجوباً عدم العفو عن دم النفاس ايضاً، وأيضاً لا يُعفَى عن دمَي غير مأكول اللحم والمَيتة . وإذا كان بقدر الدرهم فالأحوط وجوباً عدمُ العفو . والمناط سعة الدرهم، وفي تحديد سعته اليوم عدّة احتمالات، وأحوط الأمور أقلّ المحتملات وهي سعة الدرهم المضروب في البصرة سنة 80 هـ والذي قطره 25,5 ملم، وهو أكبر بـ 1,5 ملم من سعة الخمسمئة ليرة لبنانية اليوم في سنة 2014 م، فمقدار سعة الخمسمئة ليرة لبنانية معفوّ عنه، وما زاد يجب تطهيره ولو احتياطاً .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
... والمناط هو سعة الدرهم، ويجب أن تُحْمَلَ الروايات على زمان الأئمّة الذين كانوا يذكرونه، وهما الإمامان الباقر والصادق (عليهما السلام)، فإنه هو المنصرف إليه من كلمة (درهم) في زمانهما (عليهما السلام)، وكانت إمامة الإمام الباقر من سنة 95 هـ ق إلى 114 هـ، وإمامةُ الإمام الصادق من 114 هـ إلى 148 هـ، وكان الدرهم في زمانهم يسمّى بالدرهم الوافي، وهو المحكيّ عن المتقدّمين ـ وهو الموجود أيضاً في الفقه الرضوي ـ، وعن الإنتصار والخلاف والغنية ومستند الشيعة للنراقي الإجماع عليه، وعن الكثير من العلماء تفسيره بالبغلي، وعن كشف الحقّ نسبته إلى الإمامية، إذن الوافي والبغلي واحد . وقال السيد الحكيم في مستمسكه ( والظاهر رجوع التفسيرين إلى أمر واحد، ويشهد به ـ مضافاً إلى دعوى الإجماع من كلّ من الطرفين على ما فسّره به ـ عدمُ تعرّضهم للخلاف في التفسير، بل عن بعضٍ دعوى الإتفاق على الإتحاد)[1] (إنتهى)، وقال المحقّق في المعتبر ( والدرهم هو الوافي الذي وزنه درهم وثلث، وسمّي البغلي، نسبةً إلى قرية بالجامعين)[2] (إنتهى)، وقال الشهيد الأوّل في الذكرى (عفي عن الدم في الثوب والبدن عمّا نقص عن سعة الدرهم الوافي وهو البغْلي بإسكان الغين، وهو منسوب إلى رأس البغل، ضربه للثاني(أي لعمر بن الخطّاب) في ولايته بسكّة كسروية فحدث لها هذا الإسم في الإسلام)[3] (إنتهى) .
   وحدّده أكثر الأصحاب بأخمص الراحة، وعن المناهج السويّة للعلاّمة الحلّي إنه الأشهر، بل لا يعرف قول بخلافه . وقال ابن أبي عقيل ( ما كان سعة الدينار)[4] (إنتهى)، وقال ابن الجنيد ( ما كان سعته سعة العقد الأعلى من الإبهام)[5] (إنتهى) .
   وهناك عدّة احتمالات في الدرهم المنظور إليه في الروايات، فيحتمل أن يكون هو الدرهم المضروب في البصرة سنة 80 هـ، وقطره 25,5 ملم، وهو أقوى الإحتمالات، وقد قَرَنْتُه بعُمْلَتِنا في لبنان فكان أكبر بقليل من الخمسمئة ليرة لبنانية، فإنّ قطر الخمسمئة ليرة هو 24 ملم، وإن حُمِلَ على الدرهم الذي ضرب في دمشق سنة 89 هـ فقطره 28,5 ملم، ويحتمل أن يكون المراد هو المضروب في البصرة سنة 100 هـ وقطره 26 ملم، ولو احتملنا أن يكون هو الدرهم المضروب في الكوفة سنة 141 هـ فقطره 26,5 ملم .
   وبما أنك تعلم أننا يجب أن نحمل الروايات على زمان الأئمّة الذي كانوا يذكرون التحديد بالدرهم، وهما الإمامان الباقر والصادق(عليهما السلام)، وكانت إمامة الإمام الباقر من سنة 95 هـ ق إلى 114 هـ، وإمامة الإمام الصادق من 114 هـ إلى 148 هـ، فيجب أن نقتصر عند تعدّد المحتملات على أقلّها وهو درهم البصرة الذي ضُرِبَ سنة 80 هـ، بل هو أقوى الإحتمالات كما قلنا، وبما أنه ليس موجوداً بين أيدينا اليوم فينبغي إرجاعُ الناس إلى شيء موجود بين أيديهم، وهي في بلدنا العملة اللبنانية، وليس بين يديّ الآن عملات اُخرى، فنقول : سعة الدرهم المضروب في البصرة سنة 80 هـ أكبر من سعة الخمسمئة ليرة لبنانية اليوم ـ وهي سنة 1435 هـ ق  الموافق لـ سنة 2014 م ـ بـ 1,5 ملم، فإن كان الدم يساوي مقدار سعة الخمسمئة ليرة لبنانية فلا بأس قطعاً، فإن زاد يجب ح التطهير، ولو من باب الإحتياط الوجوبي .
   وبتعبير آخر : ما زاد على الخمسمئة ليرة يجب الرجوع فيه إلى أصالة عدم العفو ووجوب التطهير، وهو ما يعبّرون عنه بلزوم الرجوع إلى عموم العام عند دوران أمر المخصّص ـ أي عند إجماله ـ بين الأقلّ والأكثر .
     *   *   *   *   *
   مسألة 1 : إذا تفَشَّى الدمُ من أحد طرفَي الثوب إلى الآخر فدم واحد(266)، والمناط في ملاحظة الدرهم أوسع الطرفين، نعم لو كان الثوب طبقات ـ كما لو كان مبطّناً ـ فتَفَشَّى من طبقة إلى أخرى فالظاهر التعدد .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(266) لا بدّ للدم من أن يتفشّى إلى الوجه الآخر للثوب بحسب العادة أو غالباً، خاصّةً إذا كان الثوب رقيقاً، لأنّ الدم من الجواهر التي لها عمق دائماً أو غالباً، فيجب أن يُحمَل كلامُ المعصومين (عليهم السلام) على المتعارف والأغلب، وهو بنظر العرف دم واحد، ولعلّه لهذا الأمر ذهب أكثر علمائنا إلى هذا القول .
   وذهب بعضهم إلى أنه اثنان، ونسب ذلك إلى الذكرى والبيان ! وهذا القول من عجائب الدنيا السبع .
   وربّما فصّل بعضهم بين السميك والرقيق، فقال بأنه يعتبر وجه الثوب السميك غير قفاه، فيتعدّدان، وأمّا الرقيق فيُعتبَران دماً واحداً .
   أقول : لم يرد في الروايات إلاّ افتراض كون الدم على الثوب، فإذن يجب أن يحمل الثوب على الثوب الإعتيادي المتعارف في زمانهم، وهو نفسه المتعارف في زماننا، لا على الثياب الشتوية السميكة المبطّنة، وهذا أمر يجب أن يكون قطعياً لا شبهة فيه، لأن الثوب المبطّن هو ثوبان حقيقةً، حتى مع اتصالهما ببعض، وهذا أمر واضح عند العرف أيضاً . كما لا ينبغي أن يحمل الثوب على البطانيات السميكة، لأنها غير الثوب الإعتيادي، فيجب أن يحسب ـ في البطانيات ـ الوجهان متعدّدين، لا أنهما وجه واحد، وهذا أمر واضح لمن تأمّل في البطانيات السميكة .
   ولو شككتَ ـ ولا محلّ هنا للشكّ ـ فارجع إلى أصالة وجوب طهارة ثوب المصلّي .
   والمناط في ملاحظة الدرهم أوسع الطرفين وهذا أمر واضح عرفاً، وذلك لتحقّق الدرهم أو أكثر في الوجه الآخر .
     *   *   *   *   *
مسألة 2 : الدم الأقلّ من الدرهم إذا وصل إليه رطوبةٌ من الخارج فصار المجموعُ بقدر الدرهم أو أزيد فلا إشكال في عدم العفو عنه(267)، وأمّا إن لم يبلغ الدم مع الرطوبة الطاهرة ـ كالماء أو المعقّمات كالسبيرتو ـ إن لم يبلغ سعةَ الدرهم فالظاهر بقاءُ العفو(268)، ومعنى هذا أنّه إذا طرأ ماءٌ متنجّسٌ بالدم على الثوب وكانت سعة الماء المتنجّس بالدم أقلّ من الدرهم فإنه معفوّ عنه، وكذا إذا اختلط الدمُ بالعرق أو القيح أو بعض المعقّمات .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(267) وذلك ـ على فرض الشكّ ـ تمسّكاً بأصالة وجوب طهارة ثوب المصلّي، فكيف ونحن نظنّ بعدم العفو أيضاً .
(268) ذهب بعض الناس إلى عدم العفو عن الدم إن اختلط بالماء وغيره من الرطوبات، وذلك للشكّ في العفو عنه حينئذ، فيُرجع إلى أصالة وجوب التطهير، وذلك لاحتمال أن تكون المسألة تعبّدية محضة، لا نعرف سبب العفو فيها .
   ونحن لم نر وجهاً لعدم العفو بعد طهارة الماء في نفسه، ذهب إلى ذلك الشهيد الأوّل في الذكرى، والشهيد الثاني(استشهد 965 هـ) في (روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان) وولده الشيخ حسن(959 هـ ـ 1011) في المعالم، وابنُ بنت الشهيد الثاني : السيد محمد بن علي بن الحسين الموسوي العاملي(947 ـ 1009 هـ) في كتابه (مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام) [6]والآقا ضياء الدين العراقي والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء .
   المهم هو أنّ نفس الدم معفوّ عنه، فكيف بالدم القليل المخفّف بالماء أو المعقّمات كالسبيرتو ـ الذي هو طاهر عندنا ـ ؟! وبتعبير آخر : لم تزد النجاسة بسبب الماء، طالما أنّ سعة المجموع أقلّ من درهم، وهذا أقلّ مشكلةً ممّا لو وقع دم آخر أو دم من شخص آخر، فهل نقول بعدم العفو ؟! خاصّةً إذا جفّ الماء ثم صلّى الشخصُ بالثوب .
   ولك أن تستدلّ بما رواه في البحار عن علي بن جعفر في كتابه عن أخيه (عليهم السلام)  قال : سألتُه عن الدمل يسيل منه القيح كيف يصنع ؟ قال : ( إن كان غليظاً أو فيه خلط من دم فاغسله كل يوم مرتين غدوة وعشية، ولا ينقض ذلك الوضوء، وإن أصاب ثوبك قدر دينار من الدم فاغسله ولا تصَلِّ فيه حتى تغسله)[7]، فإنك تلاحظ أنّ الإمام (عليه السلام) فرض حالة ما لو كان هناك قيح، وأصاب ثوبَه قدَرُ دينارٍ من الدم، فقال بأن عليه أن يغسله، وأمّا إن كان أقلّ من ذلك فليس عليه أن يغسله مع أنّ الفرض أنه مخلوط بالقيح ! فكيف لا يعفى عن الماء إذا اختلط بالدم القليل ؟!
   ولك أن تستدلّ بالأولوية، بتقريب أنّه لو زاد دماً لما أثّر شيئاً، ولو كان معه قيح لما ضرّ أيضاً، بعدما كان المجموع أقلّ من الدرهم، فكيف إذا زاد ماءً ؟!
   ولك أن تقول : نستصحب بقاء موضوع العفو، وهو الدم القليل، وهو استصحاب في الشبهة الموضوعية، لا في الشبهة الحكمية .


[1]مستمسك العروة الوثقى، السيد محسن الطباطبائي الحكيم، ج1، ص568.
[2]في السرائر لإبن إدريس : "إنّ الدرهم البغلي منسوب إلى مدينة قديمة من بابل يقال لها (بغل)، متّصلة ببلد (الجامعين)، يجد فيها الحَفَرَةُ دراهمَ واسعةً" وقال إنه شاهَدَ واحداً منها، فوجده يقرب من سعة أخمص الراحة . أقول : سعة أخمص الراحة من الأمور التشكيكية التي لا تنفعنا في التحديد الدقيق
[3]مستمسك العروة الوثقى، السيد محسن الطباطبائي الحكيم، ج1، ص568.
[4]مستمسك العروة الوثقى، السيد محسن الطباطبائي الحكيم، ج1، ص570.
[5]مستمسك العروة الوثقى، السيد محسن الطباطبائي الحكيم، ج1، ص570.
[6] قال السيد محسن الأمين في الأعيان ( .. إنّ والد السيد محمد ـ أي السيد علي ـ تزوج بنت الشهيد الثاني في حياته فأنجبت السيد محمد المذكور، ثم تزوج زوجةَ الشهيد الأخرى بعد شهادته ـ هي أم الشيخ حسن صاحب المعالم ـ فأولدا السيد نور الدين علي( 970 ـ 1068 هـ)، فالسيد نور الدين علي بن علي بن الحسين بن أبي الحسن هو أخ صاحب المدارك لأبيه، وأخ صاحب المعالم لاُمِّهِ، وصاحب المدارك ابن أخت صاحب المعالم وأخُ أخيه .. والشيخ حسن ابن الشهيد الثاني هو شريك السيد محمد في الدرس ..)  . ولا يتعجّب القارئ من كون الشيخ حسن أصغر من ابن اُخته (السيد محمد) بـ 12 سنة، فإنّ الشيخ حسن هو إبن الزوجة الثانية للشهيد الثاني . وإنما عليه أن يتعجّب كيف يجرؤ العالم الفقيه السيد علي بن الحسين بن محمد الشهير بالصائغ الحسيني العاملي الجزيني (شارح الشرائع والإرشاد) الذي هو تلميذ الشهيد الثاني كيف يجرؤ على التزوّج من زوجة اُستاذه ومرجع الطائفة آنذاك ؟! لا أدري، ما أتوقّعه أنّ هذا الزواج كان لبعض مصالح دينية ! لأنّي أعرف علماءنا بأنهم كلّهم أدب ولياقة .
[7] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج2، ص1027، أبواب النجاسات والاواني والجلود، ب20، ح8، ط اسلامیة.