بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/12/13

بسم الله الرحمن الرحیم

 

المعفُوّ عنه في الصلاة
مسألة 5 : يجب على صاحب القروح والجروح أن يَغسل ثوبَه أو يبدّله من دمهما ثلاث مرات في اليوم أي لأوقات الصلوات الثلاثة، إلاّ إن كان يقع في الحرج فيُكتفَى بغسله أو تبديله بمقدار الإستطاعة، ولو في اليوم مرّة، ومع احتمال الضرر لا يغسل جروحه ولا قروحه أصلاً(264).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(264) فقد ورد في موثّقة سماعة السابقة قال : سألته عن الرجل به الجرح والقرح فلا يستطيع أن يربطه ولا يغسل دمه ؟ قال : ( يصلي ولا يغسل ثوبه كل يوم إلا مرة، فإنه لا يستطيع أن يغسل ثوبه كل ساعة ) وكذا في رواية أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي السابقة عن العلاء عن محمد بن مسلم قال : ( إنّ صاحب القرحة التي لا يستطيع صاحبُها ربطَها ولا حبْسَ دمِها يصلّي ولا يغسل ثوبَه في اليوم أكثر من مرّة ) وقلنا قبل قليل إنّ هذه الروايات لا تزيد عن قاعدتَي الضرر والحرج شيئاً، بمعنى أنك تفهم من خلال تعليل الإمام (عليه السلام) للحكم ـ بأنه لا يغسل ثوبه كل يوم إلاّ مرّة ـ بقوله ( فإنه لا يستطيع أن يغسل ثوبه كل ساعة ) تفهم من هذا التعليل أنه إن استطاع من دون ضرر أو حرج أن يطهّر ثوبه في كلّ وقت من أوقات الصلوات الثلاثة لوجب ذلك حتماً، وخاصةً وأنّ الإمام (عليه السلام)  استعمل كلمة ( ولا يغسل ثوبَه ) في كلتا الروايتين ولم يستعمل كلمة "ولا يبدّل ثوبَه" ممّا يعني أنّ ثيابهم كانت يومذاك قليلة، فلو أضفتَ إلى ذلك أنّ الماء كان أيضاً قليلاً، وكانوا ينقلونه نقلاً على الدوابّ أو على الرؤوس، وكان الشخص يقع في الضرر أو الحرج إن أراد أن يغسل ثوبَه في اليوم أكثر من مرّة لعرفت مقدارَ الحرج الذي كانوا يقعون فيه، أمّا اليوم حيث الماء الجاري في البيوت، والغسّالات، وكثرةِ الثياب فالوضعُ تغيّر تماماً، ولهذا ترى الإمام ذكر العلّة عمداً بقوله ( فإنه لا يستطيع أن يغسل ثوبه كل ساعة ) .ومن هنا تعرف السرّ فيما رواه في البحار عن علي بن جعفر في كتابه عن أخيه (عليه السلام)  قال : سألته عن الدمل يسيل منه القيح كيف يصنع ؟ قال : ( إن كان غليظاً أو فيه خلطٌ من دم فاغسله كل يوم مرتين غدوة وعشية، ولا ينقض ذلك الوضوء ) .
     *   *   *   *   *
  الثاني : مما يُعفَى عنه في الصلاة الدمُ الأقلُّ من الدرهم(265)، سواء كان في البدن أو اللباس، من نفسه أو من غيره، متفرّقاً أو مجتمعاً، عدا دمَي الحيض والنفاس، ودمَي غير مأكول اللحم والمَيتة . وإذا كان بقدر الدرهم فالأحوط وجوباً عدمُ العفو . والمناط سعة الدرهم، وفي تحديد سعته اليوم عدّة احتمالات، وأحوط الأمور أقلّ المحتملات وهي سعة الدرهم المضروب في البصرة سنة 80 هـ والذي قطره 25,5 ملم، وهو أكبر بـ 1,5 ملم من سعة الخمسمئة ليرة لبنانية اليوم في سنة 2014 م، فمقدار سعة الخمسمئة ليرة لبنانية معفوّ عنه، وما زاد يجب تطهيره ولو احتياطاً .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(265) لا بدّ في بداية البحث مِن ذِكْرِ ما رواه في ئل 2 ب 20 من أبواب النجاسات ص 1026 قال :
1 ـ روى في التهذيبين بإسناده عن الصفار عن أحمد بن محمد عن علي بن الحكم(ثقة جليل القدر) عن زياد بن أبي الحلال(ثقة) عن عبد الله بن أبي يعفور(ثقة ثقة) ـ في حديث ـ قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : الرجل يكون في ثوبه نقط الدم لا يعلم به، ثم يعلم فينسى أن يغسله فيصلّي، ثم يذكر بعدما صَلَّى، أيعيد صلاته ؟ قال : ( يغسله ولا يعيد صلاته، إلا أن يكون مقدارَ الدرهم مجتمعاً فيغسله ويعيد الصلاة ) صحيحة السند .
2 ـ وأيضاً في التهذيبين بإسناده الصحيح عن محمد بن علي بن محبوب (ثقة عين ط 8 أي كان في عصر الغيبة الصغرى) عن الحسين بن الحسن(مظنون الوثاقة) عن جعفر بن بشير عن إسماعيل(بن جابر)الجعفي(ثقة له اُصول) عن أبي جعفر (عليه السلام) قال في الدم يكون في الثوب : ( إن كان أقل من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة، وإن كان أكثر من قدر الدرهم وكان رآه فلم يغسل حتى صلى فليعد صلاته، وإن كان يكن رآه حتى صلى فلا يعيد الصلاة ) مظنونة الصحة جداً . ملاحظة : روى محمد بن علي بن محبوب عن الحسين بن الحسن رواية واحدة فقط، وهو الحسين بن الحسن الهاشمي الحسني العلوي الأسود(أبو عبد الله الرازي، وصفه الشيخ في رجاله بأنه فاضل، وروى عنه الشيخ الكليني مباشرةً حوالي سبع روايات وترحّم عليه مرّةً واحدة وذلك في الكافي ج 1 باب مولد علي بن الحسين (عليهم السلام)) وقد يعبّر عنه بالحسيني أيضاً ولو اشتباهاً .
3 ـ وأيضاً في التهذيبين عن المفيد عن أحمد بن محمد عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن أبي جعفر عن علي بن حديد(ضعّفه الشيخ في كتابَي الحديث، لا يعوّل على ما يَتفرّد بنقله) عن جميل بن دراج عن بعض أصحابنا عن أبي جعفر (عليه السلام)  وأبي عبد الله (عليه السلام) أنهما قالا : ( لا بأس بأن يصلي الرجل في الثوب وفيه الدم متفرِّقاً شبه النضح، وإن كان قد رآه صاحبه قبل ذلك، فلا بأس به ما لم يكن مجتمعاً قدر الدرهم ) ضعيفة السند .
4 ـ وفي الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن حماد(بن عيسى) عن حريز عن محمد بن مسلم قال قلت له : الدم يكون في الثوب عليّ وأنا في الصلاة ؟ قال (عليه السلام) : ( إن رأيتَه وعليك ثوب غيرُه فاطرحه وصَلِّ في غيره، وإن لم يكن عليك ثوب غيرُه فامْضِ في صلاتك ولا إعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدرهم، وما كان أقل من ذلك فليس بشيء، رأيته قبل أو لم تره، وإذا كنت قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم فضيعت غسله وصليت فيه صلاة كثيرة فأعد ما صليت فيه ) صحيحة السند، ورواها الصدوق في الفقيه بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام)  وذكر الحديث وزاد : ( وليس ذلك بمنزلة المني والبول ) مصحّحة السند .
5 ـ وفي البحار عن علي بن جعفر في كتابه عن أخيه (عليه السلام)  قال : سألتُه عن الدمل يسيل منه القيح كيف يصنع ؟ قال : ( إن كان غليظاً أو فيه خلط من دم فاغسله كل يوم مرتين غدوة وعشية، ولا ينقض ذلك الوضوء، وإن أصاب ثوبك قدر دينار من الدم فاغسله ولا تصَلِّ فيه حتى تغسله) . قال الحرّ العاملي : سعة الدينار بقدر سعة الدرهم .

  من خلال الروايات السابقة تعرف أنه يُعفَى عن الدم إن كان أقلّ من الدرهم لا مساوي له، ولا يمكن لصحيحة ابن مسلم أن تعارض الروايات المشهورة لأنها معارِضة في نفسها لنفسها، هذا أوّلاً، ولأنّ طائفة الأقلّ من الدرهم أكثرُ عدداً من طائفة العفو عن الدم المساوي للدرهم، وكذلك الأمر في رواية اسماعيل الجعفي فإنها لا يمكن أن تعارض مشهور الروايات بعدما كانت في نفسها متعارضة، ولهذا كان المشهور هو العفو عن الدم إن كان أقلّ من الدرهم لا مساوي، وعن الخلاف : عليه الإجماع، وعن كشف الحقّ : نسبته إلى الإمامية .
   هذا ولكن عن المراسم : العفو عن المساوي .
   ومع الشكّ يجب الرجوع إلى قاعدة اشتراط أن يكون المصلّي وثيابُه طاهرين .
 * سواء كان في البدن أو في اللباس، وإن كان موردُ الروايات هو اللباس، لكن يجب إلحاق البدن باللباس إمّا للشهرة العظيمة وإمّا لوضوح وحدة المناط، ويؤيّد ذلك ما رواه في التهذيبين بإسناده عن معاوية بن حكيم(ثقة جليل في أصحابنا) عن (عبد الله)ابن المغيرة(من أصحاب الإجماع) عن مثنى بن عبد السلام(ثقة له كتاب) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قلت له : إني حككتُ جِلدي فخرج منه دم ؟ فقال : ( إن اجتمع قدر حمصة فاغسله، وإلا فلا )[1] . قال الحرّ العاملي : يحتمل الحمل على بلوغ سعة الدرهم . أقول : ما ذكره الحرّ العاملي جيد لا محيص عنه، ولهذا نقول : وجهُ التأييدِ حمْلُ قدرِ الحمصة ـ أي من حيث الحجم ـ على سعة الدرهم أو أزيد .
 * من نفسه أو من غيره، لإطلاق الروايات، هذا وورد في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أحمد بن أبي عبد الله عن أبيه رفعه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قال : ( دمك أنظف من دم غيرك، إذا كان في ثوبك شبه النضح من دمك فلا بأس، وإن كان دمَ غيرِك قليلاً أو كثيراً فاغسله )[2] وبما أنّ هذه الرواية مرسلة السند جداً فهي لا تنفعنا ولا ترْدَعُنا عن التمسّك بالإطلاقات، ومع ذلك لا بأس بالعمل بها من باب الإحتياط الإستحبابي .

* عدا دم الحيض والنفاس، وذلك لما رواه في الكافي عن أحمد بن إدريس عن محمد بن أحمد(بن يحيى ثقة في الحديث جليل القدر كثير الرواية) عن محمد بن عيسى(بن عبيد بن يقطين ثقة عين) عن النَّضْر بن سويد(ثقة صحيح الحديث) عن أبي سعيد المكاري(هاشم بن حيّان وقيل هشام، وجه في الواقفة له كتاب يروي عنه صفوان وابن أبي عمير فهو إذن موثّق) عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) أو([3]أبي جعفر (عليه السلام) قال : (لا تُعاد الصلاة من دم لا تبصره غير دم الحيض، فإنّ قليله وكثيره في الثوب إن رآه أو لم يره سواء ) مصحَّحة السند، ورواها الشيخ بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب عن محمد بن عيسى نحوه إلا أنه قال ( مِن دمٍ لم تبصرْه )، وهي ظاهرة في المطلوب، على أنه موافق لأصالة المنع من الصلاة بالنجاسة، ولعلّه لما ذكرنا إشتهر القولُ بالمنع في دم الحيض، بل قالوا إنه إجماعيّ .

   وأمّا النفاس فقد كثرت فيه الروايات أنّ حكمه حكم الحيض من قبيل :
1 ـ ما رواه في الكافي عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد وأبي داود عن الحسين بن سعيد عن النَّضْر بن سويد عن محمد بن أبي حمزة عن يونس بن يعقوب قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : ( تجلس النفساء أيام حيضها التي كانت تحيض، ثم تستظهر وتغتسل وتصلي )[4] .
2 ـ وروى في التهذيبين بإسناده عن الحسين بن سعيد عن ابن أبي عمير عن عمر بن أذينة عن الفضيل بن يسار(ثقة عين جليل القدر) عن زرارة عن أحدهما (عليهم السلام) قال : (النفساء تَكِفُّ عن الصلاة أيامها التي كانت تمكث فيها ثم تغتسل وتعمل كما تعمل المستحاضة )، ورواها الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير[5]صحيحة السند بكلا سنديها .
   وفي يب أيضاً عن بإسناده عن الحسين بن سعيد عن حماد عن حريز عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام)  قال قلت له : النفساء متى تصلي ؟ قال : ( تقعد قدر حيضها وتستظهر بيومين، فإن انقطع الدم وإلا اغتسلت واحتشت واستثفرت وصلَّت ) .
3 ـ وفي التهذيبين أيضاً بإسناده عن علي بن الحسن(بن فضّال) عن عمرو بن عثمان (الثقفي الخزّاز ثقة نقيّ الحديث له كتب) عن الحسن بن محبوب عن علي بن رئاب(ثقة جليل القدر  له أصل كبير) عن مالك بن أعين قال : سألت أبا جعفر (عليه السلام)  عن النفساء يغشاها زوجها وهي في نفاسها من الدم ؟ قال : ( نعم إذا مضى لها منذ يوم وضعت بقدر أيام عدة حيضها، ثم تستظهر بيوم فلا بأس بَعْدُ أن يغشاها زوجُها، يأمرها فلتغتسل ثم يغشاها إن أحب )[6]، ويمكن تصحيح متن الرواية من باب أنها ممّا رواها أحدُ أصحاب الإجماع وهو الحسن بن محبوب، ويمكن تصحيح السند من باب أنّ مالك بنَ أعين ممّن روى عنه في الفقيه مباشرةً فيكون من أصحاب الكتب التي إليها المرجع وعليها المعوّل .
   والمتأمّلُ في الروايات، أعني في وحدة مدّتهما، يكاد يجزم بأنّ حكمهما في عدم العفو عنه نفس حكم دم الحيض، بل المظنون قوياً أنهما واحد موضوعاً أيضاً، وليس فقط حكماً، فلا بدّ من الإحتياط قطعاً فيه، ولا سيما وأنّ المنع عن الدم هو الأصل في الصلاة .


[1]وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج2، ص1027، أبواب الحيض، ب20، ح5، ط اسلامیة.
[2]وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج2، ص1028، أبواب الحيض، ب21، ح2، ط اسلامیة.
[3]هذا التردّد بين الإمامين ـ بنفس ما ذكرناه ـ ورَدَ في كتاب الكافي.
[4]وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج2، ص610، أبواب النفاس، ب1، ح1، ط اسلامیة.
[5]وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج2، ص611، أبواب النفاس، ب3، ح1، ط اسلامیة.
[6]وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج2، ص612، أبواب النفاس، ب3، ح4، ط اسلامیة.