بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/12/07

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: ما يعفَى عنه في الصلاة
مسألة 12 : إذا لم يمكن للمكلّف أن يسجد إلاّ على محل نجسٍ لاضطراره أو لعدم وجود شيء طاهر فإنّ عليه أن يصبر إلى أواخر وقت الفريضة كي يتأكّد من عدم تمكّنه من السجود على شيء طاهر، فإنْ صلّى ولم يصبر ليتأكّد فإنْ تمكّنَ في وقت الفريضة من الصلاة على شيء طاهر فإنّ عليه ـ على الأحوط ـ أن يعيدَ صلاتَه، وأمّا إنْ لم يتمكّن من السجود على شيء طاهر فلا شكّ ح في صحّة صلاته(257).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(257) لا خلاف بين العلماء في لزوم أن يكون محلّ السجود طاهراً، ولا سيّما إذا علم المصلّي أنه سيستطيع على الصلاة على شيء طاهر ضمن وقت الصلاة، بل هذا ينبغي أن يكون من بديهيات ديننا لشدّة ارتكاز الحكم عند المتشرّعة . وقد يستفاد شرطية طهارة محلّ السجدة ممّا رواه في الكافي عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد(بن عيسى) عن الحسن بن محبوب قال : سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الجُصّ تُوقَدُ عليه العذرةُ وعظام الموتى ثم يجصص به المسجد أيسجد عليه ؟ فكتب (عليه السلام)  إليَّ بخطه : ( اِنّ الماء والنار قد طهراه )[1] صحيحة السند، حيث أقرّ الإمامُ (عليه السلام) السائلَ في ارتكازه بوجوب أن يكون محلّ السجود طاهراً . ومع ما قلناه يصعب على الفقيه أن يُجريَ أصالةَ البراءة عن وجوب أن يكون محلّ السجود طاهراً إذا أمكن للمكلّف أن يسجد بعد وقتٍ قليل وضمن وقت الفريضة على شيء طاهر، كما يصعب على الفقيه أن يتمسّك بحديث "لا تعاد" ليقولَ بصحّة صلاة مَن يصلّي على شيء متنجّس وهو يعلم أنه سيتمكّن ضمن وقت الصلاة من السجود على شيء طاهر، خاصّةً إذا كان وقت الإنتظار قليلاً .
   فإنْ صلّى ولم يصبر ليتأكّد فإنْ تمكّنَ في وقت الفريضة من الصلاة على شيء طاهر فإنّ عليه ـ على الأحوط ـ أن يعيدَ صلاتَه لأصالة الإشتغال ولموثقة عمّار السابقة، وأمّا إنْ لم يتمكّن من السجود على شيء طاهر فلا شكّ ح في صحّة صلاته بالإجماع لأنّ الصلاة لا تسقط بحال .
     *   *   *   *   *
مسألة 13 : إذا سجد على الموضع النجس أو على ما لا يصحّ السجود عليه ـ كالمأكول ـ أو على الموضع المرتفع عن موضع القدم بأربعة أصابع، جهلاً أو نسياناً فلا يجب عليه الإعادة (258).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(258) المسألةُ خلافية، فقد ذهب إلى عدم الإعادةِ السيدُ محسن الحكيم والإمام الخميني وأكثر المعلّقين على العروة، وأوجب الإعادةَ الآقا ضياء الدين العراقي، واحتاط وجوباً بعضهم رحمهم الله جميعاً وحشرنا معهم .
   أقول : لا شكّ في عدم وضوح وجود إطلاق في صحيحة الحسن بن محبوب السابقة، لأنّ الجواب ناظر إلى أصل اشتراط طهارة محلّ السجدة، ولم يَثبت وجودُ إطلاق للصحيحة لحالتَي الجهل أو النسيان أصلاً، وأيضاً الإجماعُ دليلٌ لبّي ولم يَثبت نظرُهم إلى حالة الجهل بنجاسة محلّ السجود أو نسيان ذلك، ولذلك لا بأس بالرجوع إلى حديث "لا تعاد" وإلى البراءة . طبعاً كلّ ذلك بَعد وضوح صدق السجود على الشيء المتنجّس، والشارع المقدّس لم يتصرّف بمعاني السجود والركوع ونحو ذلك، ولا أقلّ لم يَثبُتِ التصرّفُ في معانيها، فلا يأتي إشكال أنّ الصلاة على شيء متنجّس ـ ولو جهلاً أو نسياناً ـ ستكون فاقدةً لركن .
   ومن لوازم كلامنا أنه لو التفت إلى أنه سجد على محلّ متنجّس أو كان من المأكول أو كان مرتفعاً عن موضع قدمَيه بأربعة أصابع، بعد رفع رأسه عن محلّ السجود، فليس عليه أن يعيد السجدة، وذلك لصدق السجود عرفاً، ولعدم معلومية اشتراط طهارة محلّ السجود في هكذا حالات في حال الجهل أو النسيان أو السهو، فنتمسّك بحديث "لا تعاد" وهو ما رواه الصدوق في الخصال عن أبيه عن سعد عن أحمد بن محمد(بن عيسى) عن الحسين بن سعيد عن حماد بن عيسى عن حريز عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام)  قال : ( لا تعاد الصلاة إلا من خمسة : الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود )[2] صحيحة السند، ويطمئنّ الإنسان بكون المراد من "الطهور" في الرواية هو الطهور المقابل للحدث، وذلك لأكثر من سبب، ولك أن تستدلّ على عدم وجوب إعادة الصلاة بالبراءة عن وجوب الإعادة .
   فإن قلتَ : بل نرجع إلى أصالة الإشتغال .
   قلتُ :بل نرجع إلى حديث "لا تُعاد" لتقدّمه على الاُصول العملية، وإن رفَضْتَ التمسّكَ بحديث "لا تعاد" فالمورد مورد براءة الذمّة من القيد الزائد المشكوك، وذلك لأننا نشكّ هل أنّ الصلاة مقيّدةٌ بكون السجود على الشيء الطاهر حتى في حال الجهل والنسيان أو لا، وهل أنّ الصلاة مقيّدة بكون السجود على ما يصحّ السجود عليه ـ كالمأكول ـ وبكونه على غير الموضع المرتفع حتى في حالتَي الجهل والنسيان أو لا ؟ فالمورد إذن موردُ البراءة من القيد الزائد المشكوك، لا مورد الإشتغال، وهذا واضح للمتأمّل، ولكنه ضاع على بعض الآقايان .
     *   *   *   *   *

فَصْلٌ فيما يُعفَى عنه في الصلاة
   وهو أمور :
  الأول : دم الجروح والقروح في البدن ما لم تبرأ ولو خوفاً من الإلتهابات فيها(259)، وأيضاً معفو عن دم الجروح والقروح في الثوب ما لم ينقطع الدم حتى يمكن تطهير الثياب، قليلاً كان الدمُ أو كثيراً، لكن بشرط وجود ضرر أو حرج ومشقّة على الشخص من التطهير الدائم أو تبديل الثوب، فإن كان مما لا ضرر ولا مشقة في التطهير أو في تبديل الثوب على الشخص فلا شكّ في وجوب التطهير أو تبديل الثوب، ومع سيلان الدم لا يجب أن يغسل ثوبَه ولا أنْ يبدّله في اليوم أكثر من مرّة، تسهيلاً من المولى تعالى عليه، ويجب على الأحوط منعُ الجروح والقروح عن زيادة التنجيس فوق المقدار المتعارف، فيجب شَدُّهُ إذا كانت في موضع يُتعارف شدُّه، ويختصّ العفوُ بالمقدار المتعارف . إذن فهذه المسألة هي فرع من قاعدتَي رفع الحرج والضرر لا أكثر .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(259) ورد في هذا المجال عدّة روايات[3]من قبيل ما رواه في يب بإسناده عن سعد بن عبد الله عن أحمد بن محمد بن عيسى عن محمد بن إسماعيل بن بزيع عن ظريف بن ناصح(ثقة) عن أبان بن عثمان(ثقة، ناووسي على قول ضعيف، من أصحاب الإجماع) عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله(ثقة) قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : الجرح يكون في مكان لا يقدر على ربطه فيسيل منه الدم والقيح فيصيب ثوبي ؟ فقال : ( دعه فلا يضرك أن لا تغسله )[4] موثّقة السند . فكلمة ( دَعْهُ ) تعني "لا تغسله" فإنك إن غسلته فسوف يلتهب الجرحُ، وهذه الرواية ونحوها هي إرشاد إلى قاعدة رفع الحرج والضرر لا أكثر .
من خلال هذه الرواية وما سيأتيك من روايات تعرف بأنّ دم الدماميل والجروح معفوّ عنها لكن بشرط أن يكون في تطهيرها حرج، فإن لم يقع الشخصُ في الحرج من تطهيرها، كأنْ يمكن له أن يطهّر بدنه أو ثوبه في أوقات الفرائض الثلاثة لوجب عليه التطهير، وذلك لما رواه في الكافي عن أحمد(بن محمد بن عيسى) عن عثمان بن عيسى[5]عن سماعة قال : سألته عن الرجل به الجرح والقرح فلا يستطيع أن يربطه ولا يغسل دمه ؟ قال : ( يصلي ولا يغسل ثوبه كل يوم إلا مرة، فإنه لا يستطيع أن يغسل ثوبه كل ساعة) موثّقة السند بلحاظ عثمان، وإنْ كنّا نشكّ في بقاء عثمان على الوقف، وهي صريحة في علّة عدم غسله في اليوم إلاّ مرّة واحدة وهي أنه ( لا يستطيع أن يَغسِلَ ثوبَه كل ساعة )، فإنِ استطاع على تطهير ثوبه أو التبديل من دون حرج أو ضرر وجب عليه، تمسّكاً بقاعدة وجوب كون بدن المصلّي وثيابه طاهرين مهما أمكن . والظاهر أنّ المنظورَ إليه هو الجرحُ السائلُ الذي لا ينقطع دمُه وذلك لقول الإمام (عليه السلام)  (فإنه لا يستطيع أن يغسل ثوبه كل ساعة ) وهذا واضح حتى بضميمة روايته التالية، كما أنّ مورد الرواية قلّةُ الثياب وقلة المياه، وبالتالي إن أراد التطهيرَ كما ينبغي فسيقع في الحرج، ففي هكذا حالة ولِرَفْعِ الحرج، من الطبيعي أن يقول له الإمامُ (عليه السلام)  ما قال .
  ـ وفي يب عن أحمد بن محمد عن موسى بن عمران(مجهول) عن محمد بن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن سماعة بن مهران عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال : ( إذا كان بالرجل جرح سائل فأصاب ثوبَه من دمه فلا يغسله حتى يبرأ وينقطع الدم) ضعيفة السند .
   وروى ابن إدريس الحلّي في مستطرفات السرائر من نوادر أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي عن العلاء(بن رزين القلاّء) عن محمد بن مسلم قال : ( إنّ صاحب القرحة التي لا يستطيع صاحبُها ربطَها ولا حبْسَ دمِها يصلّي ولا يغسل ثوبَه في اليوم أكثر من مرّة )[6] وأنت تعلم أنّ ابن مسلم لا يروي هكذا روايات عن غير المعصومين (عليهم السلام)، وهي أيضاً كسابقتَيها توافق قاعدة رفع الحرج، لا أكثر، لأنها صريحة بسيلان الدم .
   وروى في البحار عن علي بن جعفر في كتابه عن أخيه (عليه السلام)  قال : سألته عن الدمل يسيل منه القيح كيف يصنع ؟ قال : ( إن كان غليظاً أو فيه خلطٌ من دم فاغسله كل يوم مرتين غدوة وعشية، ولا ينقض ذلك الوضوء )[7].
   إذن فالمسألة ليست خروجاً عن القاعدة أصلاً، وإنما هي ضمن قاعدة رفع الحرج فقط لا غير، وهي رجوع في موضع الشكّ إلى قاعدة وجوب كون بدن المصلّي وثوبِه طاهرَين، وإنك لا تجد في الروايات إطلاقاً يُرجع إليه .
   قال السيد محسن الحكيم : (بل المنسوب إلى الأكثر أو المشهور اعتبار قيدين في العفو : أحدهما إستمرار الدم بنحو لا تكون له فترة تسع الصلاة، وثانيهما المشقّة في التطهير)[8]، وقال السيد الخوئي : (وفي كلمات جماعة منهم المحقّق اعتبار المشقّة والسيلان)[9] وهو كلام جيد لا محيص عنه .

   فإن قلتَ : لكن روى في يب عن أحمد بن محمد(بن عيسى بن عبد الله) عن أبيه(شيخ القميين ووجه الأشاعرة ط ضا و د) ومحمد بن خالد البرقي والعباس(بن معروف ثقة) جميعاً عن عبد الله بن المغيرة(ثقة فقيه) عن عبد الله بن مسكان(ثقة فقيه من أصحاب الإجماع) عن ليث المرادي(أبو بصير ليث بن البختري ثقة ثقة) قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : الرجل تكون به الدماميل والقروح فجِلْدُه وثيابُه مملوَّةٌ دماً وقيحاً وثيابُه بمنزلة جلده ؟ فقال : ( يصَلّي في ثيابه ولا يغسلها ولا شيء عليه )، أي أن محمد بن عيسى وابن خالد والعباس كلهم يروون عن ابن المغيرة، وهي صحيحة السند، وهي مطلقة من ناحيتَي السيلان وعدمه ولزوم المشقّة في التطهير وعدمها !
   قلتُ : ما ادّعاه السيدُ الخوئي[10]من الإطلاقَين المذكورين غير صحيح، فإنّ امتلاء بدن الشخص وثيابه بهذه الكثرة من الدم والقيح منصرف إلى وجود سيلان فعلي وبالتالي يوجد مشقّة واضحة من التطهير، دليلُنا : وضوحُ السيرة المتشرّعية على وجوب تطهير البدن والثوب إن لم يكن هناك مانع من ذلك كسيلان الدم، بمعنى أنّ كلّ مؤمن ـ حتى الطفل المميّز ـ يَعلم أنه إن لم تكن جروحُه سيّالة يجب عليه أن يطهّر نفسه وثيابه، ولذلك لا يمكن ـ في حال عدم وجود سيلان ـ أن يقولَ الإمامُ (عليه السلام) ( يصَلّي في ثيابه ولا يغسلها ولا شيء عليه ) .


[1]وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج3، ص602، أبواب ما يسجد عليه، ب10، ح1، ط اسلامیة.
[2]وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج4، ص683، أبواب ما يسجد عليه، ب1، ح14، ط اسلامیة.
[3]وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج2، ص1028، أبواب النجاسات، ب1، ح1، ط اسلامیة.. (أخذنا أكثر الروايات ـ ما عدا رواية مستطرفات السرائر)
[4]تهذيب الاحكام، للشيخ الطوسي، ج1، ص259، باب تطهير الثياب وغيرها من النجاسات، ب12، ح38 .
[5]ثقة واقفي بل شيخ الواقفة ووجهها وأحد الوكلاء المستبدّين بمال موسى بن جعفر (عليه السلام)، قيل فسخط عليه الرضا (عليه السلام) ثم تاب عثمان وبعث المال إليه وأقام يعبد ربّه عزّ وجلّ حتى مات، ونقل الكشّي قولاً بأنّ عثمان بن عيسى ممّن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم وأقرّوا لهم بالفقه.
[6]مستطرفات السرائر، ابن ادری الحلی،ج1، ص558.
[7]وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج2، ص1027، أبواب النجاسات والاواني والجلود، ب20، ح8، ط اسلامیة.
[8]المستمسك، السيد محسن الطباطبائي الحكيم ج1، ص556.
[9]التنقيح في شرح العروة الوثقي، السيد أبوالقاسم الخوئي، ج3، ص392.
[10]التنقيح في شرح العروة الوثقي، السيد أبوالقاسم الخوئي،ج3، ص421.