بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/12/04

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: إذا تنجَّسَ موضعان من بدنه أو من لباسه
مسألة 9 : إذا تنجَّسَ موضعان من بدنه أو من لباسه ولم يمكن إزالتُهما معاً فلا يسقط وجوب التطهير، وإنما يتخيَّرُ في إزالة واحد منهما، إلا مع الدوران بين الأهمّ والمهم، فكما قلنا في المسألة السابقة يجب تطهير الأكثر نجاسة، أو الأشد، فلو كان موضعان من ثوبه متنجسين بنفس مقدار النجاسة، لكنْ موضعٌ من ثوبه كان متنجّساً بالدم فقط والموضعُ الآخرُ كان متنجّساً بالدم المخلوط بالبول، ففي هكذا حالة يجب عقلاً تطهيرُ الموضعِ الثاني من الثوب، لأنّ النجاسة الواحدة أخفّ من النجاستين، ولا أقلّ من احتمال ذلك، بل إذا كان موضعُ النجسِ واحداً وأمكن تطهير بعضه ففي هكذا حالة يجب تطهير البعض إذا أمكن، وذلك لعدم سقوط الميسور والممكن بذريعة عدم إمكان تطهير الكلّ، وهذا ما يعبّرون عنه بقاعدة "لا يسقط الميسور بالمعسور" . بل إذا لم يمكن التطهير لكنْ أمكن إزالة عين النجاسة فقط لوجب ذلك، بل إذا كانت محتاجة إلى تعدد الغسل وتَمَكَّنَ من غسلة واحدة فالأحوط عدم  تركها، لأنها توجب خفة النجاسة إلا أن يستلزمَ ذلك خلافَ الإحتياط من جهة أخرى، بأن يستلزمَ ذلك وصولَ الغُسالةِ إلى المحل الطاهر(253) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(253) كلّ ذلك لقاعدة التزاحم العقلية، ولعدم اضطراره للصلاة بالنجاسة الزائدة، وأنت تعلم أنّ كلّ نجاسة زائدة منهيٌّ عنها ومبغوضةٌ في نفسها، فطالما كان المكلّف قادراً على تخفيف النجاسة لوجب عليه ـ عقلاً ـ تخفيفُها، وذلك لعدم اضطراره إلى الصلاة بالنجاسة الزائدة، إلاّ إذا استلزم ذلك توسعة مساحة النجاسة .
     *   *   *   *   *
   مسألة 10 : إذا كان عنده مقدارٌ من الماء لا يكفي إلا لرفع الحدث أو لرفع الخبث من الثوب أو البدن تعَيَّنَ رفْعُ الخبث، ويتيمّم بدلاً عن الوضوء أو الغُسل، والاَولى أن يستعمله في إزالة الخبث أوّلاً ثم التيمّم، ليتحقق عدمُ وجدانِ الماء حين التيمّم(254) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(254) كل ذلك على القاعدة العقلية السالفة الذكر في تقديم الأهمّ، بل هنا الأمرُ أوضح، فإنّ التيمّم أحد الطهورين، حتى ولو كانت طهوريته من الدرجة الثانية، قال الله تعالى﴿.. وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا، وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً، فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ، مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [1]، فقولُه تعالى﴿ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُم ﴾ صريحٌ في كون التيمّم طهارةً شرعية، ومن المعلوم أنّ التيمّم يَرفع بعضَ الموضوع، لا تمامه ـ أي الجنابة التكوينية والحدث الأصغر ـ .
   المهمّ هو أنّ الوضوء والغُسلَ لهما بدل وهو الطهارة الترابية، والخبثُ ليس له بدل، فيتعيّن عقلاً أن نطهّر الثوبَ ونتيمّم، ولا يمكن أن يحكم العقلُ بالوضوء أو الغسل اللذين لهما بدلٌ والصلاةِ بالنجاسة، ولذلك نقول يحكم العقل بلزوم رفع الخبث والتيمّم .
   ولك أن تقول بتوجيهٍ آخر : إنّ الوضوء والغسل مشروطان بالقدرة الشرعية، ومع أولوية إزالة النجاسة عقلاً ـ لوجود بدل للوضوء والغسل ـ لم يَعُدِ الوضوءُ والغسل ممكنَين شرعاً، فيرتفع وجوبهما ويأتي محلَّهما التيمّمُ .
   فإن قلتَ : حتى الصلاة بالثوب الطاهر لها بدل وهي الصلاة بالثوب المتنجّس، فلماذا قدّمتَ الصلاةَ بالتيمّم على الصلاة بالثوب المتنجّس ؟!
   قلتُ : التيمّم هو بدل شرعي للوضوء، فالمتيمّمُ طاهرٌ واقعاً للإطلاقات والعمومات التي يُفهم منها عمومُ تنزيلِ التيمّم منزلةَ الوضوء والغُسل بلحاظ تمام الآثار، كما في قوله (عليه السلام)( التيمّم أحدُ الطهورين )([2]، وهو المشهور بين العلماء، ولذلك يجوز لمن لا يستطيع على الوضوء أو الغسل لمرضٍ أو ضرر أو عدم وجدان الماء يجوز لهما مَسُّ المصحف الشريف ودخول المساجد واجتياز المسجدَين وقراءة العزائم ـ في الثلاثة الأخيرة إن كان التيمّمُ بدلاً عن الغسل الواجب ـ وهذا طبق القاعدة وعمومِ التنزيل، فكلّ ما تحصل به الطهارة يصحّ معه الإتيان بسائر الغايات المشروطة بها، إلاّ أن نعلم بخروج بعض أفراد التيمّم عن هذه القاعدة الأوّليّة كالتيمّم لصلاة الميّت أو للنوم أو لضيق الوقت، ففي هكذا حالات لا وجه لاستباحة سائر الغايات المشروطة بالطهارة ح . فالقاعدة الأوّلية تقتضي أن الطهارة إذا تحقّقت فإنه يُستباح بها جميعُ الغايات .
   وأمّا الصلاة بالثوب المتنجّس فليست بدلاً عن الصلاة بطهارة، وإنما الصلاة بالنجاسة أو عارياً هي بسبب أنّ الصلاة لا تسقط بحال، أي من باب الضرورة، فهي من قبيل مَنِ اضطُرّ أن يُمسك بيد امرأةٍ أجنبيّة لينقذها، فلا يقال هذا بدل شرعي، وإنما هذا بدل عقلي، وهو ما يسمّيه العلماء بـ البدل الإضطراري، ولذلك جعلوه عنواناً ثانوياً، وقد يكون البدل الإضطراري شرعياً له وظيفة محدّدة كالتيمّم لضيق الوقت، وهذا لا يرفع الحدث إلاّ بدرجة دانية، ولذلك شرّعه المولى تعالى فقط لهذه الغاية، ولذلك لا يجوز له دخولُ المساجد ولا مسّ القرآن الكريم أثناء صلاته في ضيق الوقت، وإنما بعد انتهاء الصلاة يجب عليه أن يغتسل أو يتوضّأ لفعل ما يُشترط فيه الطهارة، إذن بينهما فرق .   
   إذَنْ قد تتصفُ بعضُ الحالات بكلا العنوانين ـ البدلية الشرعية والإضطرارية ـ كما في حالات الوضوء والصلاة على أساس التقيّة، فإنّ الأدلّة تفيدنا أنّ المولى تعالى شرّع التقيّةَ في حالات الإضطرار، فهي بدل شرعي من جهة وبدل اضطراري من جهة ثانية، ولذلك العملُ بالتقية هو بدل إضطراري شرعي .
   ثم إنه لا شكّ أنّ الاَولى أن يطهّر ثوبَه أوّلاً ليفتقد الماءَ، وبعدئذ يتيمّم .
     *   *   *   *   *
   مسألة 11 :إذا كان بدنُ المكلّف متنجّساً أو ثوبُه وكان مضطرّاً للصلاة بالنجاسة، فمع استيعاب النجاسة لوقت الفريضة صحّت صلاته(255)، ومع ارتفاع الإضطرار ضمن وقت الفريضة تجب إعادة الصلاة(256) . نعم إن صلّى بالنجاسة للتقيّة فقد وقعت صلاته صحيحة حتى ولو وجد الماء ضمن وقت الفريضة، لأنّ أدلّة التقيّة تفيدنا صحّة ما يقع عن تقيّة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(255) لأنّ الأوامر الإضطرارية تجزي عن الواقع إن استوعب العذرُ تمام وقت الفريضة .
(256) إن صادف أن ارتفعتِ الضرورةُ وصار مستطيعاً لتطهير بدنه أو ثوبه فلا شكّ في وجوب إعادة الصلاة، وهذا هو القدر المتيقّن من وجوب الإعادة، وهو مطابق للقاعدة الأوّلية، وهو وجوب الإعادة عقلاً لمن لم يحقّق وظيفتَه التكليفية الواقعية وصادف أن ارتفعت الضرورة، فلم يوافق المأمورَ به، ولا وجه لعدم الإعادة .
ولك أن تستدلّ بما رواه في التهذيبين بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى عن أحمد بن الحسن بن علي بن محمد(بن فضّال، كان فطحياً غير أنه ثقة في الحديث) عن عَمرو بن سعيد(المدائني ثقة، قيل كان فطحياً) عن مصدق(بن صدقة قال الكشّي إنه فطحيّ من أجلّة العلماء والفقهاء والعدول وكان ثقة) عن عمّار(بن موسى الساباطي كان فطحيّاً إلاّ أنه ثقة في الرواية وله كتاب كبير جيد معتمد) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال إنه سُئل عن رجل ليس عليه إلا ثوبٌ ولا تحل الصلاة فيه، وليس يجد ماءً يغسله، كيف يصنع ؟ قال : ( يتَيَمَّم ويصَلّي، فإذا أصاب ماءً غسله وأعاد الصلاة )[3] موثّقة السند، فهي تصرّح بوجوب الإعادة، وهي مطلقة تشمل حالات الضرورة كالبرد .
   وادّعى السيد الخوئي عدم وجوب الإعادة فيمن كان يعتقد ببقاء اضطراره أو كان شاكّاً ببقاء اضطراره فصلّى لاستصحاب بقاء اضطراره ثم ارتفع اضطراره أثناء وقت الفريضة ـ وكلامُه في غير حالة التقية ـ فادّعى عدمَ وجوب الإعادة لحديث (لا تُعاد) لأنه من مصاديق الجاهل، ثم قال بأنّ المراد من الطهور في حديث (لا تُعاد ) هو الطهارة من الحدث .
   أقول : لكنْ فيما فهمه من شمول حديث ( لا تُعاد ) لما نحن فيه شكّ واضح، والأظهر وجوب الإعادة لأنّ توهّم بقاء الإضطرار لا يغيّر من الواقع شيئاً، وطبقاً لقاعدة الإشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، وتمسّكاً بإطلاق موثّقة عمّار السابقة .


[1] سوره مائده، آیه6.عدمُ وجدان المريضِ للماء ليس بمعنى عدم وجدانه له واقعاً، وإنما هو بمعنى عدم قدرته على استعماله، وإلاّ لم يَعُدْ يوجدُ فرقٌ بين المريض والمسافر، بل نفسُ ذِكْرِ المريضِ يقتضي إرادةَ عدم التمكّن من استعمال الماء لمرضه، وإلاّ لا فائدة مِن ذِكْرِ عنوان المريض، نعم، لو اكتفى الباري تعالى بذكر المسافر لفهم منه ح عدم وجدان الماء واقعاً لأنّ المسافر في معرض عدم وجدان الماء أكثر من المقيم في منزله وبلده .
[2] فقد روى في يب عن المفيد عن أحمد بن محمد عن أبيه عن الصفار وسعد عن أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن حماد(بن عيسى) عن حريز عن زرارة ـ في حديث ـ قال قلت لأبي جعفر (عليه السلام)  : إنْ أصاب الماءَ وقد دخل في الصلاة ؟ قال : ( فلينصرف فليتوضأ ما لم يركع، وإن كان قد ركع فليمض في صلاته، فإنّ التيممَ أحدُ الطهورين ) (.وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج2، ص991، أبواب التيمّم، ب21، ح1، ط الاسلامیة )، صحيحة السند، ورواها الكليني عن محمد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان، وعن علي بن إبراهيم عن أبيه جميعاً عن حماد بن عيسى عن حريز مثله . وقريب منها كثيرٌ مِن قبيل ( .. يمضي في صلاته فيتمُّها ولا ينقضها لمكان أنه دخلها وهو على طهر بتيمم ) (نفس المصدر ح 4)، وكقول الصادق ( عليه السلام) ( فإنّ ربّ الماء هو ربّ الصعيد ) ( وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج2، ص961، أبواب التيمّم، ب3، ح2، ط الاسلامیة)، وكقوله (عليه السلام) ( إنّ الله جعل التراب طهوراً كما جعل الماء طهوراً ) (وسائل الشيعة،الحر العاملي، ج1، ص99، أبواب الماء المطلق، ب1، ح1، ط الاسلامیة)، وكلّها تفيد عمومَ التنزيل بوضوح .
[3]وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج2، ص1027، أبواب النجاسات، ب45، ح8، ط اسلامیة.