بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/07/15

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: تكملة (التسبيب لأكل النجاسات)
   نعم، لا يجوز تقديم الطعام المبغوض مطلقاً وعلى أيّ حال، أي رغم الجهل بضرره، كما في تقديم السمّ أو المُسْكِر لشخصٍ آخر، فإنّ التسبيب إلى شربه حرام مطلقاً، بل إنّ ترْك المسلمِ يشربُ المسكر ـ رغم جهله بمسكريّته ـ حرام مطلقاً، عقلاً وشرعاً، لأنه يترتّب على ذلك ذهابُ عقلِه ولوازمُ ذلك، ولذلك يجبُ إعلامُه، كما يجب إنقاذ الغريق تماماً، إلاّ إذا كان الخمرُ قليلاً جداً بحيث لا يُسْكِرُ أصلاً، وكذا الأمر في كلّ إيقاع للمؤمن في المبغوض المطلق، كإيقاعه في العسر والحرج، أو في الضرر ـ كما لو كان في بعض المأكول طعامٌ حرامٌ كالجِرّي والمارْماهي من السمك الذي لا فَلس له فالأحوط وجوباً عدم إطعامه للآخرين، وذلك لاحتمال تضرّر الآكل منه وللظنّ بكون حرمته على نحو الإطلاق ـ وخاصّة إذا كان الضرر في الأموال والأعراض والنفوس، كلُّ ذلك للعِلْم ـ ولو من باب العقل ـ بوجوب حفظ المؤمن من كلّ أذيّة وضرر وخطر .. ممّا نعلم بعدم رضا الشارع المقدّس بإيقاع المؤمن فيها .. ومن الاُمور المبغوضة ترك الصبيّ يزني أو يلوط أو يسرق أو يقتل ونحو ذلك .. أو يُفعل به هكذا، فإننا يجب أن نردعه عن كلّ ذلك لعِلْمِنا بمبغوضية ذلك عند الله تعالى، حتى ولو كان الصبيّ لا يدرك ماذا يفعل .. ولكنْ هذه أمورٌ اُخرى غيرُ ما نحن فيه .
   فإن قلتَ : لكنْ ورد في عدّة روايات[1] وجوبُ الإعلام بالنجاسة :
1 ـ فقد روى في التهذيب بإسناده ـ الموثّق ـ عن الحسن بن محمد بن سَماعة[2]عن (علي بن الحسن)ابن رباط(ثقة معوّل عليه) عن (عبد الله)ابن مسكان عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام )  عن الفأرة تقع في السمن أو في الزيت فتموت فيه ؟ فقال : ( إن كان جامداً فتطرحها وما حولها ويؤكل ما بقي، وإن كان ذائباً فاَسرِجْ به وأعلِمْهم إذا بِعْتَه ) موثّقة السند .
2 ـ وفي يب أيضاً بإسناده عن الحسن بن محمد بن سَماعة عن أحمد الميثمي[3] عن معاوية بن وهب وغيره عن أبي عبد الله (عليه السلام )  في جِرْذٍ مات في زيت ما تقول في بيع ذلك ؟ فقال : ( بِعْهُ وبيِّنْهُ لمن اشتراه ليَستصبح به ) موثّقة السند .
3 ـ وعن عبد الله بن جعفر في قرب الإسناد عن محمد بن خالد الطيالسي عن اسماعيل بن عبد الخالق عن أبي عبد الله (عليه السلام )  قال : سأله سعيد الأعرج السمان ـ وأنا حاضر ـ عن الزيت والسمن والعسل تقع فيه الفأرة فتموت كيف يصنع به ؟ قال : ( أما الزيت فلا تبعه اِلاّ لمن تبيّنُ له فيَبتاع للسراج، وأما الأكل فلا، وأما السمن فإن كان ذائباً فهو كذلك، وإن كان جامداً والفأرة في أعلاه فيؤخذ ما تحتها وما حولها ثم لا بأس به، والعسل كذلك إن كان جامداً ) .
   قلتُ : هذه الروايات واردة في الفأرة الميّتة التي مَن أكَلَ مِن الزيت الذي وقعت فيه فإنه قد يموت أو قد يمرض مرضاً خطيراً، فوجَبَ الإعلامُ عقلاً وشرعاً، وذلك لأنه مبغوضٌ عقلاً وشرعاً، وهذا غير ما نحن فيه، ولا أقلّ مِنِ احتمال ذلك، فلا يصحّ الإستدلال بهكذا روايات، وإنما يجب الرجوع إلى البراءة بلا شكّ .
   فإنْ قلتَ : ظاهرُ قولِه تعالى[ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ ][4] وقوله تعالي[ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ][5] أنّ الخبائث والميتة والدم ولحم الخنزير وو .. هي محرّمات مطلقاً، أي لا علاقة لحرمتها بالجهل والعلم،
   قلتُ : هذا غيرُ واضح، فإنّ القدر المتيقّن أنّ العناوين المذكورة في كتاب الله العزيز هي في مجال بيان الحكم الواقعي بالعنوان الأوّلي، كما تقول (يُشترَطُ في الصلاة طهارةُ البدن والثياب)، ولم يُعلم أنها في معرض بيان الحكم الواقعي على نحو الإطلاق ـ أي حتى مع الجهل ـ، ولهذا لا بأس بإجراء الاُصول الترخيصية في مواضع جهل الآكل لها فيما لا يعلم أنه يضرّه .
  * لكنْ مع كلّ ذلك يصعب على الفقيه أن يجري البراءة عن وجوب الإعلام فيما إذا كان احتمال المبغوضية المطلقة معتداً به، بل حتى المؤمن العادي يصعب عليه أن يُطْعِمَ الجاهلَ ـ سواء كان الجاهلُ وَلَدَهُ الصغيرَ أو ضيفاً أو غيرَهما ـ طعاماً محرّماً في ذاته، بحيث يشكّ المُطْعِمُ بمبغوضيّته المطلقة، كما في إطعام الجاهلِ القليلَ من الميتة أو القليل من السمك الذي لا فلس له أو الطعام المتنجّس بقليل من الدم .. على أساس أنّ الآكلَ جاهل وهو غير مكلّف والطعام غير مضرّ أصلاً .. وذلك للشكّ في كون حرمتها مطلقة ومبغوضيّتها مطلقة ومفسدتها مطلقة وغير مقيّدة بالعلم بها، فهي ليست من قبيل الصلاة بالنجاسة .
   وأمّا إن كانت النجاسة أو الحرام في الطعام بنسبة معتدّ بها فإنّ الفقيه يخاف قطعاً من إجراء البراءة، وذلك للظنّ بالمبغوضية الشرعية المطلقة .
   هذا، ولكن مع الظنّ بعدم المبغوضية المطلقة فإنّ الفقيهَ يجري البراءةَ بلا شكّ، كما إذا كان الحرام الموجود في الطعام قليلاً جداً بحيث يضعف احتمال المبغوضية المطلقة في هكذا حالة .  



[1] وسائل الشيعة  الحر العاملي، ج 12، ص66، أبواب ما يكتسب به، ب 6، ط الاسلامية .
[2] من شيوخ الواقفة وكان يعاند في الوقف ويتعصّب، كثير الحديث فقيه ثقة جيّد التصانيف نقيّ الفقه..
[3] هو أحمد بن الحسن بن اسماعيل بن شعيب بن ميثم التمّار ثقة صحيح الحديث معتمد عليه سليم إلاّ أنه كان واقفيّاً .
[4] اعراف/سوره7، آیه157.
[5] نحل/سوره16، آیه115.