بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/05/15

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: بعض أحكام المسجد

مسألة 5 : إذا صَلَّى ثم تبَيَّنَ له كونُ المسجد نجساً كانت صلاته صحيحة، وكذا إذا كان عالماً بالنجاسة ثم غفل وصَلَّى . وأما إذا علمها أو التفت إليها في أثناء الصلاة فإن أمكن التطهير من دون إبطال صلاته ـ أي من دون إذهاب صورة الصلاة ومن دون انحراف عن القبلة ونحو ذلك ـ وجب ذلك، وإلاّ فإن كانت النجاسةُ في معرض السريان، أي يحتمل سريانها فوراً إلى أماكن اُخرى في المسجد فإنه لا شكّ في لزوم قطع الصلاة والمبادرة إلى الإزالة، وكذا يجب قطع الصلاة فوراً والمبادرة إلى الإزالة إذا كانت النجاسة توجب هتك بيت الله، وإلاّ فهو بالخيار بين أن يتمّها سريعاً ثم يطهّر المسجد، وبين أن يقطع الصلاة فيطهّر المسجد فوراً. وعلى أيّ حال فلو عصى وأكمل صلاتَه وافترضنا أنّ واجبه كان وجوب قطع الصلاة والمبادرة إلى الإزالة فقد سبق وقلنا في المسألة السابقة إنّ صلاته تكون صحيحة .

وذلك لوضوح أنّ وجوب الإزالة لم يكن منجّزاً عليه، فتكون صلاته هي فقط، المنجّزة عليه، وينبغي أن يكون هذا الحكمُ مجمعاً عليه .
   وكذا إذا كان عالماً بالنجاسة ثم غفل عنها وصلّى، فإنه لا دليل على بقاء الحكم الفعلي بوجوب تطهير المسجد منجّزاً عليه، بل يبعد ذلك، المهم هو أنه لا شكّ في فعلية أو تنجيز وجوب الصلاة عليه، فتكون صلاته صحيحة قطعاً .
وذلك لما ذكرناه قبل قليل من عدم وجوب الفورية العقلية، وكفاية الفورية العرفية، وهذه الفورية العرفية لا ينافيها إكمالُ الصلاة سريعاً ثم يبادر إلى الإزالة، إلاّ إذا كانت الإزالة في معرض الزيادة والسريان إلى أجزاء اُخرى من المسجد، فح يجب ترك الصلاة والمبادرة إلى الإزالة لأهمية ذلك ح على الصلاة، وكذا إذا كانت النجاسة توجب هتك بيت الله جلّ وعلا .
   تفصيل ذلك : لا شكّ في وجود مزاحمة بين وجوب إكمال الصلاة ووجوب التطهير الفوري، ففي حالة التزاحم هذه يجب تقديم الأهمّ أو ما يُحتمَلُ أهميّتُه، ولكن بما أنه لم تتّضح الأهميّة بنحو الإلزام فلا شكّ في التخيير بينهما لكن على أن يسرع في إنجاز صلاته، نعم، الأحوط استحباباً إكمالُ الصلاة سريعاً لاحتمال لزوم أو رجحان إكمالها في هكذا حالة، حتى ولو كان وجوب الإزالة مستنداً إلى دليل لفظي من قبيل قوله تعالى[ وَطَهِّرْ بَيْتِيَ ][1] وصحيحة أبي حمزة الثمالي السابقة عن أبي جعفر (عليه السلام) ( .. فأوحى الله تعالى إلى نبيِّهِ أنْ طَهِّرْ مسجدَك .. )[2]  وكان وجوب إكمال الصلاة مستنداً إلى الإجماع، وذلك يوهم بلزوم مراعاة الإزالة أكثر، أي قطع الصلاة، تمسّكاً بالإطلاق الأحوالي لوجوب الإزالة أي حتى لحال الإشتغال بالصلاة .
   ولك أن تصوّر الصورةَ هكذا : يوجد دوران بين المحذورَين، بين احتمال وجوب الصلاة في هكذا حالة وحرمة الصلاة، فما العمل ؟
   الجواب : لا شكّ أنه إذا عَلِمَ بالنجاسة أو التفتَ إليها في أثناء الصلاة فإنّه يجب إتمامها ثم الإزالة، وذلك لعدم وضوح الوجوب الفوري العقلي للإزالة، وعدم وضوح حرمة إكمال الصلاة في هكذا حالة، فيكملها، ثم يقوم فيبادر بالإزالة . نعم إلاّ إذا كانت النجاسةُ في معرض السريان إلى أماكن اُخرى، كما لو كانت النجاسةُ قرب أماكن الوضوء ومواضع الماء، فيكون ذلك أهمّ من الصلاة، وذلك حفاظاً على طهارة المسجد من زيادة نجاسته .
   بيان ذلك : أوّلاً : لم يتّضح وجوب تطهير المسجد بتلك السرعة العقلية حتى ولو كان الشخصُ يصلّي .
   ثانياً : لم يتّضح حدود حرمة قطع الصلاة، فمن أدلّتهم على الحرمة قولهم بأنّ تحريم الصلاة التكبيرة وتحليلها التسليم، إذن لا يجوز قطع الصلاة .
   وجوابه واضح، وهو احتمال إرادة حرمة القهقهة والكلام الانسي ونحو ذلك بعد التكبير، لا حرمة قطعها حتى لواجب آخر .. مع أنه يجوز قطع النافلة، مع أنّ تحريمها التكبير وتحليلها التسليم ! ولذلك أظنّ أنّ أحسن دليل على حرمة قطعها هو الإجماع، فإن كان الإجماع، فهو دليل لبّي يؤخذ بالقدر المتيقّن وهو غير صورة المزاحمة، وأمّا في الموارد المشكوكة ـ كما في صورة المزاحمة بواجب آخر كالإزالة ـ فيجب أن يُرجَع إلى أصالة البراءة في مسألة قطعها .
   ثالثاً : يحتاط العقلُ بلزوم إكمال الصلاة سريعاً للإجماع على حرمة قطع الفريضة، وكأنه يأمر باستصحاب الصلاة بعد عدم وضوح إهميّة الإزالة شرعاً على إكمال الصلاة، وذلك لاحتمال أهميّة إكمال الصلاة على الإزالة . نعم، قد لا يكون هذا الاسلوب بهذا الشكل دليلاً، ولكن دليل حرمة قطع الصلاة لم تتّضح حدودها، ووجوب إزالة النجاسة لم يتّضح حدوده، إلاّ إذا كانت النجاسةُ توجب هتك المسجد، فمع هكذا تردّد بين الوجوب والحرمة، من الطبيعي أن يقدّم العقل إكمال الصلاة سريعاً في هكذا حالة، فقط لأنه يشتغل بها فعلاً، ولكن نعود ونؤكّد على ما قلناه قبل قليل وهو : بشرط عدم احتمال زيادة النجاسة وسريانها في المسجد، وإلاّ فلا شكّ في لزوم قطع الصلاة فوراً .
   نعم، لا شكّ في جواز قطع الفريضة، وذلك لعدم وضوح حدود حرمة القطع، إلاّ الإجماع، فح يؤخذ بالقدر المتيقّن، فيجوز ح قطعها لأجل تحقيق واجب .

مسألة 6 : إذا كان موضع من المسجد نجساً لا يجوز تنجيس موضع آخر منه بلا شكّ، ولا توسعة النجاسة الاُولى، لأنّ ذلك تنجيسٌ إبتدائي وجديد، وكذا إن كانت النجاسةُ الثانية تُوجِبُ الهتكَ فحرام بلا شكّ، وكذا إن وضعوا على النجاسة نجاسةً أشدّ غلظة وقذارة ـ كالعذرة  ـ فهو هتك غير جائز، وكذا لو أرادوا وضع نجاسة مغايرة من حيث أكثرية التطهير كالبول، وكانت النجاسة الاُولى دماً مثلاً، فإنه أيضاً غير جائز . وأمّا إذا وضعوا على نفس بقعة الدم دماً آخر قليل بحيث لم يوجب شيئاً ممّا ذُكِر فلا بأس بذلك، لأنهم كأنهم ما زادوا شيئاً.

لا شكّ في أنه لا يجوز تنجيس المسجد بالنحو الذي ذكر في المتن مرّةً ثانية، لأنه نوع هتك له وعدم احترام ومنافٍ لتعظيمه أو قُلْ مُنافٍ لتعظيم حرمات الله، ولا شكّ أنّ الشارع المقدّس يُبْغِضُ تشديدَ النجاسة أو تغليظَها أو توسعتها، وهذا أمْرٌ ينبغي أن يكون واضحاً من الأدلّة السابقة، بل ينبغي أن يكون واضحاً عند عوامّ المتشرّعة أيضاً .
   نعم، لو فرضنا عدمَ ترتّب أيّ عنوان مبغوض عرفاً فلا شكّ في جواز ذلك ولو للبراءة، وذلك كما لو تنجّس المسجدُ أوّلاً ببقعة دم، فلا شكّ في جواز تنجيس نفس الموضع بالدم إن لم يستلزم أي عنوان من العناوين المذكورة في المتن من توسعة النجاسة أو الهتك أو تغليظ النجاسة .
   لكن لا ينبغي أن يتجرّأ مؤمنٌ على ذلك، لاحتمال حصول الإشتداد في النجاسة أو زيادتها في أشرف أمكنة الدنيا وهي بيوت الله جلّ وعلا .

مسألة 7 : لو توقف تطهير المسجد على حفر أرضه جاز بل وجب، وكذا لو توقف على تخريب شيء منه، ولا يجب طَمُّ الحُفَرِ وتعميرُ الخراب إن كان التصرّف بحقّ، نعم لو كان مثل الآجر مما يمكن ردُّهُ بعد التطهير وجب الردّ .

سبق وقلنا بوجوب تطهير بيوت الله جلّ وعلا، وعليه فتجب مقدّمات ذلك بلا شكّ، حتى وإن استلزم حفرَ الأرض ـ كما كان في الزمان السابق ـ وهذا لا يصدق عليه أنه تخريب للمسجد، وإنما هو مقدّمةٌ لإصلاحه، كما هو الحال في تخريب المسجد لتوسعته مثلاً أو لإحداث باب له ونحو ذلك ممّا فيه صلاح المسجد . ولك أن تقول يجوز ذلك لغلبة المصلحة على مفسدة التخريب . إذن يجب أن يُدرَس الحالُ : هل أنّ المصلحة أهمّ من مفسدة التخريب أم لا، فإن كانت المصلحة أهمّ جاز بل قد يجب أحياناً، خاصةً إذا وُجِدَ الباذل للتصليح فيجوز الحفر ح بلا أيّ مانع، وذلك لأهميّة إزالة النجاسة على مفسدة الحفر لوقت قصير، وخاصّةً إذا كانوا يريدون تحسينَ الوضع عمّا كان عليه . ولا شكّ في فائدة الرجوع إلى قاعدة البراءة في التخريب للإصلاح في بعض حالات الشكّ .
   وأمّا إن كانت المفسدة أشدّ من المصلحة لم يجز، وح يجب الإقتصار على أقلّ قدر ممكن من التخريب لأجل إزالة النجاسة، كما لو فرضنا إمكان طمّ النجاسة من دون تخريب المسجد، أو كان يمكن الحفر قليلاً والتطهير بحيث لا يفسد إلاّ الشيء اليسير ثم يُصلح فوراً .
   إذن المسألة مسألة تزاحم في الملاكات، فهي إذن مسألة  عقلية محضة، فمثلاً إن لم يُعرَف الأهمّ وجب العمل بالظنّ، فما يُظنّ أهميّتُه يُعمل على أساسه وهكذا، إذن فالنظر دائماً إلى لزوم تقديم مصلحة المسجد .
لأنه تكليف آخر لا دليل عليه، لا بل هذا التكليف هو عبارةٌ عن الضمان، والأصل في هكذا حالة عدمُه .
توضيح ذلك : لو توقّف إنقاذُ الناس من حريق بيتهم على تدمير بعض حيطان البيت وجب ذلك، ولكن لا يجب ـ عقلاً وبالإجماع ـ إصلاحُ بيتهم وضمان ما خرّبوه، لأنهم إنما خرّبوا بيتَهم لإنقاذهم، فينبغي أن يشكر أهلُ البيت المنقِذين على ذلك، لا أن يضمّنوهم إصلاحَ الحائط !! يقول الله تعالى[ مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ][3]، وهذا يُعَدُّ شرعاً من الاُمور الحسبية التي يحتسب فيها المنقذُ عَمَلَه في سبيل الله ويكون أجْرُه فيها على الله تعالى . ولك أن تقول : هناك إذن من الشارع المقدّس في هكذا حالات في تخريب المسجد لإصلاحه، ولكن لم يثبت ـ بل يبعد جداً ـ وجوب الإصلاح بعد ذلك، بل لم يثبت هكذا تكليف آخر، وإن كان يحسن جداً، وللمصلح أجر عظيم . كما كان الأمر فيمن هدم الحائط لإنقاذ الناس المتواجدين فيه، بل هناك وجوب عقلي وشرعي من قِبَلِ اللهِ تبارك وتعالى في هذا التخريب، كما يجب لمس المرأة الأجنبية إذا توقّف إنقاذها على ذلك، وهكذا الحال في الطبيب ... لكنك تعلم أنّ الضرورات تقدّر بقدرها، فلو زاد التخريب عن مقدار الضرورة لا شكّ في ضمان الزائد، أي يجب على المخرّب الإصلاحُ فوراً .
   ثم لو فرضنا أنهم أخرجوا السجّاد ـ مثلاً ـ من المسجد لتطهيره، فإنه يجب عقلاً على القادرين ردّه إليه ـ بنحو الوجوب الكفائي ـ لأنه وقف لهذا المسجد .         



[1] حج/سوره22، آیه26.
[2] وسائل الشيعة الحر العاملي، ج1، ص484، أبواب الجنابة، ب15، ح1، ط الاسلامية.
[3] توبه/سوره9، آیه90.