بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/04/13

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: إذا كانت بعض أطراف العلم الإجمالي خارج الإبتلاء

مسألة 2 : العلم الإجمالي كالتفصيلي، فإذا علم بنجاسة أحد الشيئين فإنه يجب الإجتناب عنهما، حتى ولو كان بعض أطراف العلم الإجمالي خارجاً عن محلّ الإبتلاء . نعم إذا كَثُرَتْ أطرافُ العِلم الإجمالي كثيراً بحيث خرجت بعض الأطراف عن محلّ الإبتلاء لكثرة الأطراف ـ كما في سوق المسلمين ـ فحينئذ لا يجب اجتنابُ شيء من أطراف العلم الإجمالي.

في هذه المسألة ثلاثُ نِقاط :
الاُولى: لا شكّ أنّ العلم الإجمالي ينجّز التكليف الواقعي الضائع، بمعنى أنه يوجب الموافقة القطعية، فلو كان أحدُ الآنية متنجّساً لزم اجتنابُ جميع الأواني احتياطاً، أي خوفاً من أن نقع في المخالفة الواقعية والقبيح الواقعي، أي خوفاً من أن نشرب المتنجّس الواقعي، إذن فالعلّةُ للزوم الموافقة القطعية هي منجّزيّة الفرد الواقعي الضائع . وكذا لو فرضنا أنه قد حصل شكّ بين وجوب صلاة الجمعة أو صلاة الظهر، فإنه إدراكاً للواقع يجب الجمع بينهما، وعلى ما في بالي هذه مقالةُ الشيخ الأعظم الأنصاري والآغا ضياء الدين العراقي والسيد محسن الحكيم .
الثانية : لو فرضنا أنّ بعض الأواني المتنجّسة كانت خارجَ محلّ الإبتلاء، كما لو كنّا نعلم بنجاسة أحد إناءين، إمّا الإناء الذي تحت ابتلائنا الآن، وإمّا ذاك الإناء الذي أخذه معه أحدُ المسافرين إلى الصين بحيث لن نصل إليه عادةً، فهنا أيضاً يجب الإجتنابُ عمّا هو محلّ ابتلائنا .
   فإن قلتَ : هذا غيرُ صحيح، لأنّ العِلْمَ الإجمالي ليس بنفسه علّةً في تنجيز متعلّقه، وإنما تنجيزه مستند إلى تساقط الأصول في أطرافه بالمعارضة، أو قلْ : لا تجري الاُصول المؤمّنة في إناء الصين، لأنّ جريانها فيه لغو محض، فتجري الاُصول المؤمّنة في هذا الذي معنا من دون معارض، ومثله ما لو طهّرنا الإناء الثاني، فلنا أن نشرب الإناء الأوّل، لنفس السبب، وهو جريان الاُصول المؤمّنة في الطرف الذي لم نطهّرْه بلا معارض، وكذا لو وقع أحدُ الإناءين في بئر عميق ولن نصل إليه عادةً، وكذا ما لو اضطُرِرْنا إلى شرب أحد الإناءين لكونه دواءً ضرورياً لنا، فلنا بعد شرب الدواء أن نشرب الإناء الثاني، وهذا ما يعبّرون عنه بالإنحلال الحكمي .
   والسيد الخوئي فصّلَ بين ما لو كان خروج بعض أطراف العلم الإجمالي عن محلّ الإبتلاء عقلياً أو عادياً، فإن كان خروجه عن محلّ الإبتلاء عقلياً فإنّ الاُصول المؤمّنة تجري في الطرف الباقي بغير معارض، وإن كان خروجه عادياً فإنّ العلم الإجمالي يبقى ولا يحصل الإنحلال وح لا يجوز ارتكاب الطرف الباقي .
   قلتُ : ما ذُكِرَ هو من الإشتباهات الكبيرة والخطيرة ومخالف للعقل، فإنّ العلم الإجمالي لم يزُل أصلاً ولا يزال، فهو قائم في الذهن، وأحد أفراده موجود أمامنا، ولعلّه هو المتنجّس الواقعي، ومنجّزيّة الفرد الواقعي الضائع لا تزال عند كلّ العقلاء قائمة، وهذه عقول البشر حاكمة بيننا، والترخيص في هكذا حالة هو ترخيص في القبيح، وهو غير ممكن عقلاً أو عقلائياً، فإنها ترى أنّ العلّة التامّة لوجوب الموافقة القطعية هو وجود حكم واقعي بين الأطراف، وقضيّةُ جريان الاُصول المؤمّنة في الطرف الباقي من غير معارض كلام بلا أساس، وخيال في خيال، لأنه ترخيص في المخالفة الإحتمالية للواقع، كما لو كان ترخيصاً في شرب النجاسة المحتملة المحصورة بين أطراف قليلة، أو قل هو ترخيص في ارتكاب محتمل القبح، فصحيح أنه لا تجري الاُصول المؤمّنة في إناء الصين للغويّته، ولكن هذا لا يمنع من لزوم ترك الإناء الذي هو محلّ ابتلائنا، لسبب أنه أحد أطراف العلم الإجمالي حقيقةً، أو قُلْ : العلمُ الإجمالي حقيقةً موجود، فهو ينجّز الإناء الذي تحت ابتلائنا قطعاً .. ولذلك ترى القائلين بجريان الاُصول المؤمّنة في الإناء الباقي لن يشربوا منه أصلاً، والسلام .
   نعم، إذا كان خروج بعض أطراف العلم الإجمالي عن محلّ الإبتلاء لكثرة أطراف العلم الإجمالي ـ كما في مثال سوق المسلمين ـ فلا شكّ ح في جريان الاُصول العملية المؤمّنة في جميع الأطراف، بما فيها ما هو واقع تحت ابتلائنا، فإنّ الله تعالى يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر، وبمقتضى الرحمة الإلهية التي كتبها على نفسه أجاز لنا أن نشتريَ من سوق المسلمين ونعتبر كلّ شيء فيه طاهراً ومذكّى، وما ذلك إلاّ رحمة منه وفضلاً .
   وقد روى أحمد بن أبي عبد الله البرقي في المحاسن عن أبيه عن محمد بن سنان عن أبي الجارود قال : سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الجبن فقلت له : أخبرني مَن رأى أنه يُجعل فيه المَيتةُ، فقال : ( أمِنْ أجْلِ مكانٍ واحدٍ يُجعلُ فيه المَيتةُ حُرِّمَ في جميع الأرضين ؟! إذا علمْتَ أنه مَيتة فلا تأكلْه، وإن لم تعلم فاشترِ وبِعْ وكُلْ، واللهِ إني لأعترضُ السوقَ فاشتري بها اللحمَ والسمنَ والجبن، واللهِ ما أظنُّ كلهم يُسَمّون (مأمون ـ خ)، هذه البربر وهذه السودان )[1] ضعيفة بأبي الجارود، وقد ذكرنا سابقاً بعض التعليقات المهمّة على مثل هذه المسألة[2] فراجع .
   وقد يكون منشأ هذا الحكم مجموع أمرين وهما : كثرة الأطراف جداً بحيث تصير إصابة الفرد الواقعي قليلة الإحتمال جداً و لتجنيب وقوع المؤمنين في الحرج الشديد، بحيث صار ملاك تشريع الاُصول المؤمّنة في كلّ الأطراف غالبة على المفسدة القبيحة الضائعة .
الثالثة: إذا شكّ في سعة السوق وضيقه ـ كما في قرانا ـ فهل تجب الموافقة القطعية، تجنّباً من ارتكاب الحرام الواقعي، أو يجوز شراء اللحم والجبن من سوق القرية التي فيها عدّة محلاّت فقط كالعشرة والعشرين دكّاناً مثلاً ؟
   الجواب : هو لزوم الرجوع إلى أصالة عدم جواز ارتكاب المخالفة الواقعية المحتملة، لحكم العقل بوجوب الموافقة القطعية ح، حتى ولو كان الإنسان لن يشتري من جميع الدكاكين .
   وكذا الأمر فيما لو كثرت أطراف العلم الإجمالي جداً ولكنها كانت كلّها واقعة تحت ابتلائنا فإنّه يجب الإحتياط عقلاً .



[1] وسائل الشيعه الحر العاملي، ج17، ص91، أبواب الأطعمة المباحة، ب61، ح5، ط الاسلامية.
[2] عند تعليقتنا على (مسألة 1 : إذا اشتبه نجس أو مغصوب) عند قوله "فصل، الماء المشكوك نجاسته طاهر .." .