بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/04/04

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: طرقُ ثبوتِ النجاسة
فصل :
   طرقُ ثبوتِ النجاسة أو التنجُّس : العِلْمُ الوجداني أو البيّنةُ العادِلة، بل يكفي العدل الواحد، وتثبت أيضاً بقول صاحب اليد بملك أو إجارة أو إعارة أو أمانة، بل أو غصب أيضاً، ولا اعتبار بمطلق الظن وإن كان قوياً إلاّ إذا وصل إلى الإطمئنان وهو المسمّى بـ العلم العرفي . فالدهن واللبن والجبن المأخوذ من أهل البوادي محكوم بالطهارة، وإن حصل الظن بنجاستها، بل قد يقال بعدم رجحان الإحتياط بالإجتناب عنها، بل قد يكره أو يحرم إذا كان في معرض حصول الوسواس .

لا شكّ في ثبوت النجاسةِ بالعِلم وبالبيّنة، بل وبخبر الثقة الواحد أيضاً، وبيّنّا ذلك سابقاً[1] ومما استدللنا به قولُه تعالى﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾[2]وقلنا بأنّ المراد من الآية الكريمة "إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ ـ والقدرُ المتيقّن هو مجال الموضوعات، وإنْ كان النبأ يشمل الأحكام أيضاً ـ فَتَبَيَّنُوا ـ أي تأكّدوا، وبالتالي لا داعي للتأكّد والتبيّن في مجال غير الفاسق لأنه بيّنٌ شرعاً ـ أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ ـ أي لئلاّ تصيبوا قوماً بجهالة، أمّا فيما لو كان الإعتماد على العادل وأخطأتم فلن يكون اعتمادُكم عليه جهالةً وإنما يكون عِلْماً شرعاً ـ .."، خاصّةً وأنه إن لم يوجد فرقٌ بين الفاسق والعادل في التبيّن والتأكّد فما هو الداعي لذِكْرِ الفاسق ؟! ولاكتُفِيَ بذِكْرِ كلمة "إنْ جاءكم شخصٌ بنبأٍ فتبيّنوا"، وذلك لأنّ التبيّن والتأكّد حسَنٌ على كلّ حال . ولا معنى شرعاً للزوم التأكّد قليلاً إن كان عادلاً بذريعة أنه غالباً يورث الإطمئنان وللزومِ التأكّد كثيراً إن كان فاسقاً بذريعة أنه لا يخاف الله فلا يتورّع عن الكذب فليس هو طريقاً عقلائياً وذلك لعدم الفائدة من قليل التأكّد وكثيره شرعاً، لأنّ المناط ح سيكون حصول الإطمئنان وعدمه، فإن حصل عندك اطمئنان فهو حجّة وإلا وجب التبيّن حتى وإن كان عادلاً ... فراجع البحثَ هناك .
   وقد ذهب العلاّمة الحلّي في التذكرة والمحقّق البحراني في الحدائق والسيد الخوئي والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء والسيد محمد الفيروزآبادي وغيرهم إلى حجيّة خبر الثقة في الموضوعات[3] .

    وأمّا بالنسبة إلى ثبوت النجاسة بقول صاحب اليد بملك أو إجارة أو إعارة أو أمانة، بل أو غصب أيضاً فلكون اعتراف ذي اليد ـ المسلم أو الذي يعرف باهتمام المسلمين بالطهارة ـ بالنجاسة هو بخلاف مصلحته، على أنه قد ورد الكثير من الروايات تفيد حجيّة قاعدة اليد لسنا الآن بصدد ذكرها، ولكن جرياً على العادة مِن ذِكْرِنا لبعض الروايات نذكر القليل منها :
1 ـ فقد روى في الكافي عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد(بن عيسى) عن محمد بن إسماعيل(بن بزيع) عن يونس بن يعقوب(ثقة) عن معاوية بن عمّار بالبُخْتَجْ قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام ): عن الرجل من أهل المعرفة بالحق يأتيني ويقول : قد طبخ على الثلث، وأنا أعرف أنه يشربه على النصف، أفأشربه بقوله وهو يشربه على النصف ؟ فقال (عليه السلام ): (لا تشربه)، فقلت : فرَجُلٌ من غير أهل المعرفة ممن لا نعرفه يشربه على الثلث، ولا يستحله على النصف، يخبرنا أن عنده بُخْتَجا على الثلث قد ذهب ثلثاه وبقيَ ثلثُه، نشربُ منه ؟ قال : (نعم )[4] وهو سند صحيح .
   ولا نشكّ في أنّ جواز الأخذ بقوله ـ في السؤال الثاني ـ منشؤه حجيّة خبر ذي اليد وإن كان عامّيّاً، أمّا ذاك الذي نهى الإمامُ (عليه السلام )عن شربه، وبالتالي لم يصدّقه، فالظاهر أنّ شربه له قبل ذهاب الثلثين أمارة أنه لا يهتمّ بدين الله، فلا يبعد أنه يكذب . إذن لا ينبغي أن نأخذ بقول ذي اليد مطلقاً إلاّ حيث تجري سيرة العقلاء وهي حالة ما لو أفادت الظنّ، لا في حالة الظنّ بالكذب، أقول : وهذا أمرٌ عقلائي جداً .

2 ـ وفي الكافي أيضاً عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن علي بن الحكم عن معاوية بن وهب قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام )عن البختج فقال : (إن كان حلواً يُخَضِّبُ الإناءَ وقال صاحبُه "قد ذهب ثلثاه وبقي الثلث" فاشربه )[5] صحيحة السند، وهي أيضاً تفيد جواز الأخذ بقول ذي اليد لكن إذا كان هناك أمارةٌ على صدقه، أي كان يوجد ظنّ بصدقه .

3 ـ وأيضاً في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن الحسن بن عطية(ثقة) عن عمر بن (محمد بن) يزيد([6]) قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام ) : الرجل يُهدَى إليه البُخْتَجُ من غير أصحابنا ؟ فقال : (إن كان ممن يستحل المسكر فلا تشربه، وإن كان ممن لا يستحل فاشربه )[7] وهي تفيد حجيّة قول ذي اليد إذا كان قولُه يفيدُ الظنَّ لأمارةٍ ما .

4 ـ وفي يب بإسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى عن سعد بن اسماعيل عن أبيه إسماعيل بن عيسى قال : سألت أبا الحسن (عليه السلام ) عن جلود الفراء يشتريها الرجل من سوق من أسواق الجبل، أيَسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلماً غير عارف ؟ فقال : (عليكم أنتم أن تسألوا إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك )[8] وهي قد تفيد حجيّة قول ذي اليد المشرك .
   نعم، ورد في بعض الروايات بخلاف ذلك،
1 ـ فقد ورد في يب بإسناده ـ الصحيح ـ عن محمد بن أحمد بن يحيى عن أحمد بن الحسن(بن علي بن فضّال) عن عمرو بن سعيد عن مصدّق بن صدقة عن عمّار بن موسى(الساباطي) عن أبي عبد الله (عليه السلام ) ـ في حديث ـ فيمن يأتي بالشراب ويقول هو مطبوخ على الثلث، فقال (عليه السلام ) : ( إن كان مسلماً ورعاً مؤمناً فلا بأس أن يشرب )[9] موثّقة السند، ولعلّ الإمام اشترط الإسلامَ والإيمانَ والورع خوفاً من الوقوع في محذور خطير، أو قل راعى الإمامُ (عليه السلام ) أهميّةَ المحتمل .

2 ـ وأيضاً في يب بإسناده عن علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام ) قال : سألته عن الرجل يصلّي إلى القبلة لا يوثق به أتى بشراب يزعم أنه على الثلث فيحلّ شربه ؟ قال (عليه السلام ):(لا يصَدَّقُ إلا أن يكون مسلماً عارفاً )[10] صحيحة السند، وهي كسابقتها، فإنه يوجد أمارة تفيد كذبه بحيث أنّ الإنسان يظنّ بكذبه .



[1] في موضوع فصل في ماء البئر مسألة 6 عند قولنا "تثبت نجاسة الماء كغيره بالعِلْم وبالبيِّنَة .." .
[2] حجرات/سوره49، آیه6.
[3] العروة الوثقى، ج1، ص99 و 155، من طبعة الستة مجلّدات ..
[4] وسائل الشيعه الشيخ الحر العاملي، ج17، ص234، الأشربة المحرّمة، ب7، ح4، ط الاسلامية.
[5] وسائل الشيعه الشيخ الحر العاملي، ج17، ص234، أبواب الأشربة المحرّمة، ب7، ح3،ط الاسلامية.
[6] وهو معروف بـ عمر بن يزيد، ثقة جليل ممدوح من الإمام الصادق. عليه السلام، كان يحجّ كل سنة، له كتاب .
[7] وسائل الشيعه الشيخ الحر العاملي، ج17، أبواب الأشربة المحرّمة، ب7، ح1، ط الاسلامية.
[8] وسائل الشيعه الشيخ الحر العاملي، ج2، ص1072، أبواب النجاسات، ب50، ح7، ط الاسلامية.

[9] وسائل الشيعه الشيخ الحر العاملي، ج17، ص235، أبواب الأشربة المحرّمة، ب7، ح6، ط الاسلامية.
[10] وسائل الشيعه الشيخ الحر العاملي، ج17، ص235، أبواب الأشربة المحرّمة، ب7، ح7، ط الاسلامية.