بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/03/08

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: مسألة ممهمّة في السفر

* وهنا يُطرح سؤالٌ وهو أنه إذا نوى شخصٌ السفرَ فقطع المسافة الشرعية ـ وهي 21,600 م ـ فوصل إلى وسط مدينةٍ ثانية، لكن كانت المسافةُ من آخر مدينته إلى أوّل المدينة الثانية 20,000 م فقط، فهل يُتِمّ صلاتَه أم يقصّر ؟ وهل يُفطِرُ أم يبقى صائماً ؟
   الجواب : لا شكّ أنك تعلم بورود روايات كثيرة في أنّ مسافة التقصير هي بريد في بريد، أو بريدان، أو ثمانية فراسخ، من قبيل ما رواه في التهذيبين عن الحسين بن سعيد عن فُضالة(بن أيوب) عن معاوية بن وهب قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : ما أدنى ما يقصّر فيه المسافرُ الصلاةَ ؟ قال : ( بريد ذاهباً وبريد جائياً ) صحيحة السند، وما رواه في الفقيه أيضاً بإسناده عن عبد الله بن يحيى الكاهلي أنه سمع الصادق (عليه السلام)  يقول في التقصير في الصلاة ( بريد في بريد، أربعة وعشرون ميلاً )صحيحة السند، ورواها الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى عن علي بن الحكم عن عبد الله عن يحيى الكاهلي مثله وهي أيضاً صحيحة السند ...
   هذا ولكن عندنا طائفةٌ ثانية من الروايات تفيد بأنّ العبرة في المسافة هي إلى أوّل عقارات البلد الآخر من قبيل :
 1 ـ ما رواه في التهذيبين بإسناده الصحيح عن محمد بن علي بن محبوب عن أحمد بن محمد(بن عيسى) عن الحسين بن سعيد عن أخيه الحسن عن زرعة(بن محمد ـ واقفي) عن سَماعة(بن مهران) قال : سألته (أي أبا عبد الله (عليه السلام)  بقرينة سائر رواياته) عن المسافر في كم يقصّر الصلاة ؟ فقال : ( في مسيرة يوم وهي ثمانية فراسخ، ومن سافر قصّر الصلاة وأفطر إلا أن يكون رجلاً مشيّعاً (مستتبعاً ـ خ) لسلطان جائر أو خرج إلى صيد أو إلى قرية له تكون مسيرة يوم يبيت إلى أهله لا يقصّر ولا يفطر )[1] [2] موثقة السند، فإنها صريحة في أنّ عليه أن يعتبر المسافة من آخر بلده إلى أوّل المدينة الثانية، لا إلى النقطة التي وصل إليها في وسط المدينة الثانية .
2 ـ وروى في الفقيه عن محمد بن مسلم وزرارة عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنه قال : (... وقد سافر رسول الله (ص) إلى (ذي خشب) وهو مسيرة يوم من المدينة يكون إليها بريدان : أربعة وعشرون ميلاً، فقصّر وأفطر، فصار سُنّة ) صحيحة السند، فتلاحظ أنّ الإمام الباقر(عليه السلام)  حسب المسافة من المدينة المنوّرة ـ لا من بيت رسول الله ـ . 
3 ـ ورواها في التهذيبين أيضاً بإسناده الصحيح عن الحسين بن سعيد عن النَّضر بن سويد عن عاصم بن حَمِيد عن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : في كم يقصّر الرجل ؟ قال : ( في بياض يوم أو بريدين، وقد خرج رسول الله (ص) إلى (ذي خشب) فقصّر وأفطَر )، قلت : وكم ذي خشب ؟ قال : ( بريدان )صحيحة السند، وهي أيضاً كالرواية السابقة تفيد بأنّ العبرة بأوّل (ذي خشب)، لا بالنقطة التي وصل إليها من (ذي خشب) .
4 ـ وروى الشيخ الصدوق في فقيهه بإسناده عن جميل بن دراج عن زرارة بن أعين قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن التقصير فقال : ( بريد ذاهب وبريد جائي، وكان رسول الله إذا أتى (ذُباباً) قصّر ) وهي صحيحة السند، قال الشيخ الصدوق : "و(ذُباب) على بريد، وإنما فعل ذلك لأنه إذا رجع كان سفره بريدين : ثمانية فراسخ"، فتلاحظ أن الشيخ الصدوق لاحَظَ هذه النقطة فاعتبر أنّ العبرةَ هي بالمنطقة أو القرية التي وصلها الإنسان، لكنها ليست بتلك الصراحة ولكنها مؤيّدةٌ للمطلوب .
5 ـ وما رواه في التهذيبين بإسناده الصحيح عن محمد بن أحمد بن يحيى عن أحمد بن الحسن بن علي بن فضّال عن عمرو بن سعيد الساباطي عن مصدّق بن صدقة المدايني عن عمّار بن موسى الساباطي عن أبي عبد الله (عليه السلام)  قال : سألته عن الرجل يخرج في حاجة فيسير خمسة فراسخ أو ستة فراسخ ويأتي قرية فينزل فيها، ثم يخرج منها فيسير خمسة فراسخ اُخرى أو ستة فراسخ لا يجوز ذلك (أي لا يتجاوز ذلك)، ثم ينزل في ذلك الموضع، قال (عليه السلام)  : ( لا يكون مسافراً حتى يسير من منزله أو قريته ثمانية فراسخ، فليتمّ الصلاة )[3] وهي موثّقة السند، وهي ليست صريحة في المطلوب وإنما أوردناها لكونها تؤيّد مدّعانا لا أكثر .
6 ـ ومثلها ما رواه في التهذيب بإسناده عن علي بن الحسن بن فضّال عن أخويه محمد وأحمد ابني الحسن عن أبيهما عن عبد الله بن بكير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام)  في الرجل يخرج من منزله يريد منزلاً له آخر أو ضيعة له اُخرى، قال : ( إن كان بينه وبين منزله أو ضيعته التي يؤمّ بريدان قصّر، وإن كان دون ذلك أتمّ )[4]  مصحّحة السند لكون عبد الله بن بكير من أصحاب الإجماع الذين أجمعت الطائفة على تصحيح ما يصحّ عنهم، وسندُ الشيخ الطوسي لعليّ بن الحسن بن فضّال يُطمأنّ إليه خاصة في هذه الرواية، وهي دالّة على المطلوب.
7 ـ وفي الفقيه : وقال الصادق (عليه السلام)  : ( الجمّال والمكاري إذا جدّ بهما السير قصّرا فيما بين المنزلين وأتمّا في المنزل ) إذن العبرةُ بالمسافة بين المنزلَين ككلّ، ولا ينظر إلى قطع المسافة باعتبار وسط القرية مثلاً، ولك أن تعتبرها مؤيّدة للمطلوب .
8 ـ وروى في التهذيب بإسناده الصحيح عن حمّاد(بن عثمان) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ( المسافر يقصّر حتى يدخل المِصْر )، وذلك بتقريب أنه لم يصرّح الإمامُ بأنّ مراده من (المصر) في الرواية هو مصر نفس الشخص أي وطنه، فقد يكون المصر الذي يريد أن يستقرّ فيه المسافرُ عشرةَ أيام مثلاً، وح يكون منظور المسافر إلى كلّ المصر، لأنه يريد الإستقرار فيه كلّه .
9 ـ  وروى الشيخ الصدوق بإسناده عن معاوية بن وهب عن أبي عبد الله(عليه السلام)  أنه قال : ( إذا دخلت بلداً وأنت تريد المُقام عشرة أيام فأتمّ الصلاة حين تَقْدِم، وإن أردت المُقام دون العشرة فقصّر، وإن أقمت تقول : غداً أخرج أو بعد غد ولم تُجمع على عشرة فقصّر ما بينك وبين شهر، فإذا أتم الشهر فأتمّ الصلاة )، ورواها الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد عن حماد بن عيسى عن معاوية بن وهب نحوه، صحيحة السند، وهذه أيضاً مؤيّدة للمطلوب .
10 ـ وفي التهذيب بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب عن عبد الصمد بن محمد عن حنان(بن سَدِيْر[5] بن الحكيم الصيرفي) عن أبيه عن أبي جعفر(عليه السلام)  قال : ( إذا دخلت البلدة فقلت : اليوم أخرج أو غدا أخرج فاستتممت عشراً (شهراً ـ خ) فأتم ) مصحّحة السند .
   من خلال التأمّل في هتين الطائفتين من الروايات يطمئنّ الناظر فيها أنّ العبرة لمن أراد أن يقطع المسافةَ فقط ـ كمن كان يريد السفر لمجرّد الإفطار يوم الشكّ بيوم العيد ـ فمنظورُه ليس الوصول إلى بلد معيّن ليستقرّ فيه، وإنما منظورُه هو إلى مجرّد قطع المسافة، هكذا شخص لا شكّ أنه يصدق عليه أنه قَطَعَ المسافةَ الشرعية ليُفطِر، ولا شكّ ح في كفاية قطْعِه للمسافة الشرعية، وهذا هو منظور الروايات القائلة بكون المسافة الشرعية بريد في بريد ونحو ذلك .
   وأمّا من كان نظره هو الإستقرار في كلّ البلد الثاني ليوم أو شهر ونحو ذلك فإنّ عليه أن يعتبر المسافة إلى أوّل عقارات البلد المسافَر إليه، وليس إلى البيت الذي وصل إليه، والسبب في ذلك أنّ نظره هو اتّخاذ كلّ البلد مقرّاً ومستقرّاً له، وهذا هو المنظور من الطائفة الثانية السالفة الذكر، لاحِظْ مثلاً قوله (عليه السلام)  في الرواية الاُولى : سألته عن المسافر في كم يقصّر الصلاة ؟ فقال : ( في مسيرة يوم وهي ثمانية فراسخ ـ أي أنّ قطع المسافة هو لمن نوى مجرّد قطع المسافة ولو للإفطار مثلاً ولم يكن منظوره الإستقرار في البلد الثاني ـ ومن سافر قصّر الصلاة وأفطر إلا أن يكون رجلاً مشيّعاً (مستتبعاً ـ خ) لسلطان جائر أو خرج إلى صيد أو إلى قرية له تكون مسيرة يوم يبيت إلى أهله ـ فقولُه يبيت إلى أهله إشارةٌ واضحة فيما نقول، فهذا ـ لا يقصّر ولا يفطر )، وكذا تلاحظ ذلك في قوله (عليه السلام)  ( المسافر يقصّر حتى يدخل المِصْر ) فإنّ الإنسان حينما يصل إلى المصر الذي يريد الإقامة فيه فإنه ينظر إليه كلّه بنظرة واحدة . 
   وما ذكرناه من الجمع بين الروايات هو المستقرّ أيضاً في أذهان كلّ المتشرّعة تماماً، فإنك تلاحظهم يوم الشكّ بيوم العيد يسافرون 22 كلم ولا يلاحظون كونَهم في أوئل البلدة الثانية أو في وسطها أو في أواخرها، وإنما يلاحظون مجرّد قطع المسافة، وأمّا لو أراد بعضُ أهل القرى المحيطة بمشهد المقدّسة مثلاً أن يذهبوا إلى المشهد المقدّس للإمام الرضا(عليه السلام)  مثلاً ليستقرّوا هناك بضعة أيام للزيارة فإنهم يحسبون المسافة من قريتهم إلى أوّل مدينة مشهد لا إلى نفس المقام المقدّس، وهذا أمر واضح عند كلّ الناس غايةَ الوضوح، وكذا الأمر في كلّ الأمثلة المشابهة وفي كلّ بلادنا، وليس ذلك إلاّ لأنهم حينما يريدون الإستقرار في مشهد المقدّسة فإنما يتّخذونها كلّها مقرّاً ومستقرّاً لهم خمسة أيام أو أقلّ أو أكثر، فيذهبون إلى أسواقها ويتنقّلون في شوارعها .



[1] وسائل الشيعه، ج5، ص490، أبواب صلاة المسافر، باب1، ح 8، ط الاسلامية .
[2] وسائل الشيعه، ج5، ص490، أبواب صلاة المسافر، باب 8، ح4، ط الاسلامية .
[3] وسائل الشيعة، ج5، ص504، أبواب صلاة المسافر، ب4، ح3، ط الاسلامية .
[4] وسائل الشيعة، ج5، ص521، أبواب صلاة المسافر، ب14، ح3، ط الاسلامية.
[5] قال في لسان العرب : " السَدِيْر هو النهر، وقال ابنُ سيده : السَدِيْر هو منبع الماء، وسَدِيْرُ النخل : سوادُه ومجتمعه . وقالوا : السَدِيْر : العشب، ويقال : السَدِيْر هو القصر " إنتهى .